[خبر حذيفة بن اليمان رحمه الله من تآمر القوم ونكثهم البيعة وتخلّفهم عن جيش اُسامة]
بحدف الاسناد قال: لمّا استخلف عثمان بن عفّان آوى إليه عمّه الحكم بن العاص وولده مروان والحارث بن الحكم، ووجّه عمّاله في الأمصار، وكان فيمن وجّه عمر بن سفيان بن المغيرة بن أبي العاص بن اُميّة إلى مشكان، والحارث بن الحكم إلى المدائن، فأقام بها مدّة يتعسّف أهلها ويسيء معاملتهم.
فوفد منهم إلى عثمان وفد يشكوه، وأعلموه بسوء ما يعاملهم به، وأغلظوا عليه في القول، فولّى حذيفة بن اليمان عليهم ـ وذلك في آخر أيّامه ـ فلم ينصرف حذيفة بن اليمان عن المدائن إلى أن قتل عثمان واستخلف عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فأقام حذيفة عليها وكتب إليه:
____________
1- في البحار: كستيجه، وهو خيط غليظ يشدّه الذمّي فوق ثيابه دون الزنّار، معرّب كُسْتي.
2- أثبتناه من "ج".
3- عنه البحار 30: 95 ح4; ونحوه في كمال الدين: 297 ح5 باب 26; عنه البحار 36: 374 ح5; والخصال: 476 ح40 أبواب الاثنى عشر، والاحتجاج 1: 537 ح128; والكافي 1: 531 ح8; وغيبة النعماني: 97 ح29.
"بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان، سلام عليك، أمّا بعد فإنّي قد ولّيتك ما كنت عليه(1) لمن كان قبلي من حرف المدائن، وقد جعلت إليك اعمال الخراج والرستاق وجباية أهل الذمّة، فاجمع إليك ثقاتك ومن أحببت ممّن ترضى دينه وأمانته، واستعن بهم على أعمالك فإنّ ذلك أعزّ لك ولوليّك وأكبت لعدوّك.
وإنّي آمرك بتقوى الله وطاعته في السرّ والعلانية، واُحذّرك عقابه في المغيب والمشهد، وأتقدّم إليك بالاحسان إلى المحسن، والشدّة على المعاند، وآمرك بالرفق في اُمورك، واللين والعدل على رعيّتك، فإنّك مسؤول عن ذلك، وانصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وحسن السيرة ما استطعت، فالله يجزي المحسنين.
وآمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحق والنصفة، ولا تتجاوز ما تقدّمت به إليك، ولا تدع منه شيئاً، ولا تبتدع فيه أمراً، ثمّ اقسمه بين أهله بالسويّة والعدل، واخفض لرعيّتك جناحك، وواس بينهم في مجلسك، وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء، واحكم بين الناس بالحق، وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم، فإنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون.
ولقد وجّهت إليك كتاباً لتقرأه على أهل مملكتك ليعلموا رأينا فيهم وفي جميع المسلمين، فأحضرهم واقرأه عليهم، وخذ البيعة لنا على الصغير والكبير منهم إن شاء الله تعالى".
قال: فلمّا وصل عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى حذيفة جمع الناس فصلّى بهم، ثمّ أمر بالكتاب فقرئ عليهم وهو:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين، سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، وأسأله أن
____________
1- في "ج": ما كنت تليه.
يصلّي على محمد وآله، فأمّا بعد فإنّ الله تعالى اختار الإسلام ديناً لنفسه وملائكته ورُسله إحكاماً لصنعه، وحسن تدبيره، ونظر الله(1) لعباده، وخصّ(2) به من أحبّ من خلقه، فبعث إليهم محمداً صلّى الله عليه وآله فعلّمهم الكتاب والحكمة اكراماً وتفضيلا لهذه الاُمّة، وأدّبهم لكي يهتدوا، وجمعهم لئلاّ يتفرّقوا، وفقّههم لئلاّ يجوروا.
فلمّا قضى ما كان عليه من ذلك مضى إلى رحمة الله حميداً محموداً، ثمّ انّ بعض المسلمين أقاموا بعده رجلين رضوا بهداهما وسيرتهما، فأقاما ما شاء الله ثمّ توفّاهما الله عزوجل، ثمّ ولّوا بعدهما الثالث، فأحدث أحداثاً، ووجدت الاُمّة عليه فعالا، فاتّفقوا عليه ثمّ نقموا منه فغيّروا، ثمّ جاؤوني كتتابع الخيل فبايعوني، فإنّي أستهدي الله بهداه وأستعينه على التقوى.
ألا وانّ لكم علينا العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، والقيام عليكم بحقّه، واحياء سنّته، والنصح لكم بالمغيب والمشهد، وبالله نستعين على ذلك وهو حسبنا ونعم الوكيل، وقد ولّيت اُموركم حذيفة بن اليمان، وهو ممّن ارتضى بهداه وأرجو صلاحه، وقد أمرته بالاحسان إلى محسنكم، والشدّة على مريبكم، والرفق بجميعكم، أسأل الله لنا ولكم حسن الخيرة والاحسان ورحمته الواسعة في الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
ثمّ انّ حذيفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي وآله ثمّ قال: الحمد لله الذي أحيى الحق، وأمات الباطل، وجاء بالعدل، ودحض الجور، وكبت الظالمين(3)، أيّها الناس! إنّما وليّكم والله(4) أمير المؤمنين حقّاً حقّاً، وخير من نعلمه بعد نبيّنا عليه وآله السلام، وأولى الناس بالناس، وأحقّهم بالأمر، وأقربهم إلى
____________
1- في "ب": نظراً منه لعباده.
2- في "ج": اختصّ.
3- في "ب": الباطل.
4- في "ب" و "ج": وليّكم الله ورسوله وأمير المؤمنين.
الصدق، وأرشدهم إلى العدل، وأهداهم سبيلا، وأدناهم إلى الله وسيلة، وأمسّهم(1)برسول الله صلّى الله عليه وآله رحماً.
أنيبوا إلى طاعة أوّل الناس سلماً، وأكثرهم علماً، وأقصدهم طريقاً، وأسبقهم ايماناً، وأحسنهم يقيناً، وأكثرهم معروفاً، وأقدمهم جهاداً، وأعزّهم مقاماً، أخي رسول الله وابن عمّه، وأبي الحسن والحسين، وزوج الزهراء البتول سيّدة نساء العالمين، فقوموا أيّها الناس فبايعوا على كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ لله في ذلك رضى، ولكم مقنع وصلاح، والسلام.
فقام الناس [بأجمعهم](2) فبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام أحسن بيعة وأجمعها، فلمّا استتمّت البيعة قام إليه فتى من أبناء العجم وولاة الأنصار لمحمد بن عمارة بن التيهان أخو أبي الهيثم بن التيهان، يقال له: "مسلم" متقلّداً سيفاً، فناداه من أقصى الناس: أيّها الأمير! إنّا سمعناك تقول [في أوّل كلامك: إنّما](3) وليّكم الله [ورسوله و](4) أمير المؤمنين حقّاً حقّاً، تعرض(5) لمن كان قبله من الخلفاء إنّهم لم يكونوا اُمراء المؤمنين حقّاً، فعرّفنا ذلك أيّها الأمير رحمك الله ولا تكتمنا، فإنّك ممّن شهد وعاين(6)، ونحن مقلّدون ذلك أعناقكم، والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لاُمّتكم، وصدق الخبر عن نبيّكم صلّى الله عليه وآله.
فقال حذيفة: أيّها الرجل أمّا إذا سألت وفحصت هكذا، فاسمع وافهم ما اخبر به، أمّا من تقدّم من الخلفاء قبل عليّ بن أبي طالب ممّن تسمّى بأمير المؤمنين، فإنّهم تسمّوا بذلك وسمّاهم الناس به، وأمّا عليّ بن أبي طالب فإنّ جبرئيل عليه
____________
1- في "ج": أقربهم.
2- أثبتناه من "ج".
3- أثبتناه من "ج".
4- أثبتناه من "ج".
5- في "ج": تعريضاً ممّن.
6- في "ج": وغبنا.
السلام سمّاه بهذا الاسم عن الله تعالى، وشهد له رسول الله صلّى الله عليه وآله عن سلام جبرئيل له بإمرة المؤمنين، وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله يدعونه في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله بإمرة المؤمنين(1).
قال الفتى: خبّرنا كيف كان ذلك يرحمك الله، قال حذيفة: انّ الناس كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل الحجاب إذا شاؤوا، فنهاهم صلّى الله عليه وآله أن يدخل أحد إليه وعنده دحية بن خليفة الكلبي، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يراسل قيصراً ملك الروم وبني حنيفة وبني غسّان(2) على يده، وكان جبرئيل عليه السلام يهبط عليه في صورته، ولذلك نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يدخل المسلمون عليه إذا كان عنده دحية.
قال حذيفة: وإنّي أقبلت يوماً لبعض اُموري إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله مهجراً رجاء أن ألقاه خالياً، فلمّا صرت بالباب نظرت فإذا أنا بشملة قد سدلت على الباب، فرفعتها وهممت بالدخول ـ وكذلك كنّا نصنع ـ فإذا أنا بدحية قاعد عند رسول الله صلّى الله عليه وآله والنبي نائم ورأسه في حجر دحية، فلمّا رأيته انصرفت.
فلقيني عليّ بن أبي طالب عليه السلام في بعض الطريق، فقال: يا ابن اليمان من أين أقبلت؟ قلت: من عند رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال: وماذا صنعت عنده؟ قلت: أردت الدخول عليه في كذا وكذا ـ وذكرت الأمر الذي جئت له ـ فلم يتهيّأ لي ذلك، قال: ولِمَ؟ قلت: كان عنده دحية الكلبي، وسألت عليّاً عليه السلام
____________
1- روى صاحب الفردوس عن حذيفة قال: لو علم الناس متى سمّي عليّ أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمّي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد، قال الله عزوجل: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم) قالت الملائكة: بلى، قال تبارك وتعالى: أنا ربّكم، ومحمد نبيّكم، وعليّ أميركم. (الفردوس 3: 354 ح5066)
2- في "ج": ملوك بني غسّان.
معونتي على رسول الله صلّى الله عليه وآله في ذلك الأمر.
قال: فارجع معي فرجعت معه، فلمّا صرنا إلى باب الدار جلست بالباب ورفع عليّ عليه السلام الشملة ودخل فسلّم، فسمعت دحية يقول: وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثمّ قال له: اجلس فَخُذْ رأسَ أخيك وابن عمّك من حجري فأنت أولى الناس به، فجلس عليّ عليه السلام وأخذ رأس رسول الله صلّى الله عليه وآله فجعله في حجره، وخرج دحية من البيت، فقال عليّ عليه السلام: اُدخل يا حذيفة.
فدخلت وجلست فما كان بأسرع أن انتبه رسول الله صلّى الله عليه وآله، فضحك في وجه عليّ عليه السلام ثمّ قال: يا أبا الحسن مِنْ حجر مَنْ أخذت رأسي؟ قال: من حجر دحية الكلبي، فقال: ذلك جبرئيل عليه السلام، فما قلت له حين دخلت وما قال لك؟
قال: دخلت فسلّمت فقال لي: وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا عليّ سلّمت عليك ملائكة الله وسكّان سماواته بإمرة المؤمنين من قبل أن تسلّم عليك أهل الأرض، يا عليّ إنّ جبرئيل عليه السلام فعل ذلك عن أمر الله عزوجل، وقد أوحى إليّ عن ربّي عزوجل من قبل دخولك أن أفرض ذلك على الناس، وأنا فاعل ذلك إن شاء الله.
فلمّا كان من الغد بعثني رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى ناحية فدك في حاجة، فلبثت أيّاماً ثمّ قدمت، فوجدت الناس يتحدّثون انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أمر الناس أن يسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، وانّ جبرئيل عليه السلام أتاه بذلك عن الله عزوجل.
فقلت: صدق رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنا فقد سمعت جبرئيل عليه السلام يسلّم على عليّ عليه السلام بإمرة المؤمنين ـ وحدّثتهم الحديث ـ فسمعني
عمر بن الخطاب وأنا اُحدث الناس في المسجد، فقال لي: أنت رأيت جبرئيل وسمعته، اتق القول فقد قلت قولا عظيماً، وقد خولط بك، فقلت: نعم أنا رأيت ذلك وسمعته، فأرغم الله أنف من رغم، فقال: يا أبا عبد الله لقد رأيت وسمعت عجباً.
قال حذيفة: فسمعني بريدة بن الحصيب الأسلمي وأنا اُحدّث ببعض ما رأيت وسمعت، فقال لي: والله يا ابن اليمان لقد أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله بالسلام على عليّ بإمرة المؤمنين، فاستجابت له طائفة يسيرة من الناس، وردّ ذلك عليه وأباه كثير من الناس، فقلت: يا بريدة أكنت شاهداً ذلك اليوم؟ فقال: نعم من أوّله إلى آخره، فقلت له: حدّثني به رحمك الله فإنّي كنت عن ذلك اليوم غائباً.
فقال بريدة: كنت أنا وعمّار أخي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله في نخيل بني النجار، فدخل علينا عليّ بن أبي طالب عليه السلام فسلّم، فردّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله ورددنا، ثمّ قال له: يا عليّ اجلس هناك فجلس، فدخل رجال فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله بالسلام على عليّ بإمرة المؤمنين، فسلّموا وما كادوا، ثمّ دخل أبو بكر وعمر فسلّما فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وآله: سلّما على عليّ بإمرة المؤمنين، فقالا: الأمر(1) من الله ورسوله؟ فقال: نعم.
ثمّ دخل طلحة وسعد بن مالك فسلّما، فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وآله: سلّما على عليّ بإمرة المؤمنين، فقالا: عن الله ورسوله؟ فقال: نعم، قالا: سمعنا وأطعنا، ثمّ دخل سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري رضي الله عنهما فسلّما، فردّ عليهما السلام ثمّ قال: سلّما على عليّ بإمرة المؤمنين، فسلّما ولم يقولا شيئاً، ثمّ دخل خزيمة بن ثابت وأبو الهيثم بن التيهان فسلّما، فردّ عليهما السلام ثمّ قال: سلّما على عليّ بإمرة المؤمنين، ففعلا ولم يقولا شيئاً.
ثمّ دخل عمّار والمقداد فسلّما، فردّ عليهما السلام فقال: سلّما على عليّ بإمرة
____________
1- في "ج": الامرة.
المؤمنين، ففعلا ولم يقولا شيئاً، ثمّ دخل عثمان وأبو عبيدة فسلّما، فردّ عليهما السلام وقال: سلّما على عليّ بإمرة المؤمنين، قالا: عن الله ورسوله؟ قال: نعم، [فسلّما](1).
ثمّ دخل فلان وفلان ـ وعدّ جماعة من المهاجرين والأنصار ـ كلّ ذلك يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، فبعض سلّم ولا يقول شيئاً، وبعض يقول للنبي: عن الله ورسوله؟ فيقول: نعم، حتّى غصّ المجلس بأهله، وامتلأت الحجرة، وجلس بعض على الباب وفي الطريق، وكانوا يدخلون فيسلّمون ويخرجون، ثمّ قال لي ولأخي: قم يا بريدة أنت وأخوك فسلّما على عليّ بإمرة المؤمنين، فقمنا وسلّمنا ثمّ عُدنا إلى مواضعنا فجلسنا.
قال: ثمّ أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله عليهم جميعاً فقال: اسمعوا وعوا، إنّي أمرتكم أن تسلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، وانّ رجالا سألوني أذلك عن أمر الله وأمر رسوله، وما كان لمحمّد أن يأتي أمراً من تلقاء نفسه بل بوحي ربّه وأمره، أفرأيتم والذي نفسي بيده لئن أبيتم ونقضتموه لتكفرون ولتفارقون ما بعثني به ربّي، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
قال بريدة: فلمّا خرجنا سمعت بعض اُولئك الذين اُمروا بالسلام على عليّ بإمرة المؤمنين [من قريش](2) يقول لصاحبه ـ وقد التفّت بهما طائفة من الجفاء البطاء من الإسلام من قريش ـ: أما رأيت ما صنع محمد بابن عمّه من علوّ المنزلة والمكان؟ ولو يستطيع والله لجعله نبيّاً من بعده، فقال له صاحبه: أمسك ولا يكبرنّ عليك هذا، فإنّا لو فقدنا محمداً لكان هذا فعله تحت أقدامنا.
قال حذيفة: ومضى(3) بريدة إلى بعض طريق الشام ورجع وقد قُبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وبايع الناس أبا بكر، فأقبل بريدة فدخل المسجد
____________
1- أثبتناه من "ج".
2- أثبتناه من "ج".
3- في "ج": ثمّ خرج.
وأبو بكر على المنبر وعمر دونه بمرقاة، فناداهما من ناحية المسجد: يا أبا بكر ويا عمر، فقالا: وما لك يا بريدة أجننت؟ فقال لهما: والله ما جننت ولكن أين سلامكما بالأمس على عليّ بإمرة المؤمنين؟
فقال له أبو بكر: يا بريدة الأمر يحدث بعده الأمر، وانّك غبت وشهدنا والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فقال لهما: رأيتما ما لم يره الله ولا رسوله، وفى لك صاحبك(1) بقوله: ولو فقدنا محمداً لكان هذا قوله تحت أقدامنا، ألا انّ المدينة حرام عليّ أن أسكنها أبداً حتّى أموت.
فخرج بريدة بأهله وولده، فنزل بين قومه بني أسلم، فكان يطلع في الوقت دون الوقت، فلمّا قضى الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام سار إليه وكان معه حتّى قدم العراق، فلمّا اُصيب أمير المؤمنين عليه السلام صار إلى خراسان، فنزلها ولبث هناك إلى أن مات رحمه الله.
قال حذيفة: فهذا أنباء ما سألتني عنه، فقال الفتى: لا جزى الله الذين شهدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسمعوه يقول هذا القول في عليّ خيراً، فقد خانوا الله ورسوله، أزالوا الأمر عمّن رضيه الله ورسوله، وأقرّوه فيمن لم يره الله ولا رسوله لذلك أهلا، لا جرم والله لن يفلحوا بعدها أبداً.
فنزل حذيفة عن منبره فقال: يا أخا الأنصار انّ الأمر كان أعظم ممّا تظنّ، انّه عزب والله البصر، وذهب اليقين، وكثر المخالف، وقلّ الناصر لأهل الحق، فقال له الفتى: فهلاّ انتضيتم أسيافكم، ووضعتموها على رقابكم، وضربتم بها الزائلين عن الحق قدماً حتّى تموتوا أو تدركوا الأمر الذي تحبّونه من طاعة الله عزوجل وطاعة رسوله؟ فقال: يا أيّها الفتى انّه أخذوا(2) بأسماعنا وأبصارنا، وكرهنا الموت،
____________
1- في "ج": ولكن هذا وفاء صاحبك.
2- في "ج": اُخذ والله بأسماعنا.
وزيّنت عندنا الحياة، سبق عند(1) الله بإمرة الظالمين، ونحن نسأل الله التغمّد(2)لذنوبنا، والعصمة فيما بقى من آجالنا، فإنّه مالك رحيم، ثمّ انصرف حذيفة إلى منزله وتفرّق الناس.
قال عبد الله بن سلمة: فبينا أنا ذات يوم عند حذيفة أعوده في مرضه الذي مات فيه، وقد كان يوم قدمت فيه من الكوفة وذلك من قبل قدوم عليّ عليه السلام إلى العراق، فبينا أنا عنده إذ جاء الفتى الأنصاري فدخل على حذيفة، فرحّب به فأدناه(3) وقرب مجلسه، وخرج من كان عند حذيفة من عوّاده، وأقبل عليه الفتى فقال: يا أبا عبد الله سمعتك يوماً تحدّث عن بريدة بن الخصيب الأسلمي انّه سمع بعض القوم الذين أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يسلّموا على عليّ عليه السلام بإمرة المؤمنين يقول لصاحبه: أما رأيت اليوم ما صنع محمد بابن عمّه من التشريف وعلوّ المنزلة حتّى لو قدر أن يجعله نبيّاً لفعل، فأجابه صاحبه فقال: لا يكبرنّ عليك، فلو قد فقدنا محمداً لكان قوله تحت أقدامنا، وقد ظننت نداء بريدة لهما وهما على المنبر انّهما صاحبا القول.
قال حذيفة: أجل، القائل عمر والمجيب أبو بكر، فقال الفتى: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هلك والله القوم وبطلت أعمالهم، قال حذيفة: ولم يزل القوم على ذلك الارتداد وما يعلم الله منهم أكثر، فقال الفتى: قد كنت أحبّ أن أتعرّف هذا الأمر مِنْ فعلهم ولكنّي أجدك مريضاً، وأنا أكره أن اُملّك بحديثي ومسألتي، وقام لينصرف.
فقال حذيفة: لا بل اجلس يا ابن أخي، وتلقّ منّي حديثهم وإن كربني ذلك، فلا أحسبني إلاّ مفارقكم انّي لا احبّ أن يغتر بمنزلتهما في الناس، فهذا ما أقدر عليه
____________
1- في "ج": علم الله.
2- في "ج": الصفح.
3- في "ج": فرحّب به وأقبل به وأدناه.
من النصيحة لك، ولأمير المؤمنين عليه السلام من الطاعة له ولرسوله صلّى الله عليه وآله وذكر منزلته، فقال: يا أبا عبد الله حدّثني بما عندك من اُمورهم لأكون على بصيرة من ذلك.
فقال حذيفة: اذاً والله لاخبرنّك بخبر سمعته ورأيته، ولقد والله دلّنا ذلك من فعلهم على انّهم والله ما آمنوا بالله ولا رسوله طرفة عين، واخبرك انّ الله تعالى أمر رسوله صلّى الله عليه وآله في سنة عشر من مهاجرته من مكة إلى المدينة أن يحجّ هو ويحجّ الناس معه، فأوحى إليه بذلك: {وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق}(1).
فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله المؤذّنين فأذّنوا في أهل السافلة والعالية: ألا انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد عزم على الحجّ في عامه هذا ليفهم(2) الناس حجّهم، ويعلّمهم مناسكهم، فيكون سنّة لهم إلى آخر الدهر.
قال: فلم يبق أحد ممّن دخل في الإسلام إلاّ حجّ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله سنة عشر ليشهدوا منافع لهم ويعلّمهم حجّهم ويعرّفهم مناسكهم، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله بالناس وخرج بنسائه معه وهي حجة الوداع، فلمّا استتمّ حجّهم، وقضوا مناسكهم، وعرف الناس جميع ما احتاجوا إليه، وأعلمهم انّه قد أقام لهم ملّة ابراهيم عليه السلام، وقد أزال عنهم جميع ما أحدثه المشركون بعده، وردّ الحج إلى حالته الاُولى، ودخل مكة فأقام بها يوماً واحداً، فهبط عليه جبرئيل الأمين عليه السلام بأوّل سورة العنكبوت، فقال: يا محمد اقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم * الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون * ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين * أم حسب الذين
____________
1- الحج: 27.
2- في "ب": ليعلّم.
يعملون السيّئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون}(1).
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا جبرئيل وما هذه الفتنة؟ فقال: يا محمد انّ الله يقرئك السلام ويقول لك: إنّي ما أرسلت نبيّاً قبلك إلاّ أمرته عند انقضاء أجله أن يستخلف على اُمّته من بعده من يقوم مقامه، ويحيى لهم سنّته وأحكامه، فالمطيعون لله فيما يأمرهم به رسوله هم الصادقون، والمخالفون عليه أمره هم الكاذبون، وقد دنا يا محمد مصيرك إلى ربّك وجنّته، وهو يأمرك أن تنصب لاُمّتك من بعدك عليّ بن أبي طالب وتعهد إليه، فهو الخليفة القائم برعيّتك واُمّتك، إن أطاعوه [أسلموا](2) وإن عصوه [كفروا](3)، وسيفعلون ذلك وهي الفتنة التي تلوت عليه الآي فيها.
وانّ الله عزوجل يأمرك أن تعلّمه جميع ما علّمك، وتستحفظه جميع ما حفظك(4) واستودعك، فإنّه الأمين المؤتمن، يا محمد انّي اخترتك من عبادي نبيّاً، واخترته لك وصيّاً.
قال: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّاً فخلا به يومه ذلك وليلته، واستودعه العلم والحكمة التي آتاه الله إيّاها، وعرّفه ما قال جبرئيل عليه السلام، وكان ذلك في يوم عائشة بنت أبي بكر، فقالت: يا رسول الله لقد طال استخلاؤك بعليّ منذ اليوم؟ قال: فأعرض عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقالت: لم تعرض عنّي يا رسول الله بأمر لعلّه يكون لي صلاحاً؟ فقال: صدقت، وأيم الله لأمر صلاح لمن أسعده الله بقبوله والايمان به، وقد أمرت بدعاء الناس جميعاً إليه وستعلمين ذلك إذا أنا قمت به في الناس.
____________
1- العنكبوت: 1-4.
2- أثبتناه من "ب" و "ج".
3- أثبتناه من "ب" و "ج".
4- في "ج": استحفظك.
قالت: يا رسول الله ولم لا تخبرني به الآن لأتقدّم بالعمل به والأخذ بما فيه الصلاح؟ قال: ساُخبرك به فاحفظيه إلى أن اُؤمر بالقيام به في الناس جميعاً، فإنّك إن حفظتيه حفظك الله في العاجلة والآجلة جميعاً، وكانت لك الفضيلة بسبقه والمسارعة إلى الايمان بالله ورسوله، وإن أضعتيه وتركت رعاية ما ألقي إليك منه كفرت بربّك، وحبط أجرك، وبرئت منكِ ذمّة الله وذمّة رسوله، وكنتِ من الخاسرين، ولم يضرّ الله ذلك ولا رسوله.
فضمنت له حفظه والايمان به ورعايته، فقال: إنّ الله تعالى أخبرني انّ عمري قد انقضى، وأمرني أن أنصب علياً للناس علماً، وأجعله فيهم إماماً، وأستخلفه كما استخلف الأنبياء من قبلي أوصياءها، وأنا صائر إلى أمر ربّي وآخذ فيه بأمره، فليكن هذا الأمر منك تحت سويداء قلبك إلى أن يأذن الله بالقيام به، فضمنت له ذلك، وقد اطلع الله نبيّه على ما يكون منها فيه ومن صاحبتها حفصة وأبويهما، فلم تلبث أن أخبرت حفصة، وأخبرت كلّ واحدة منهما أباها.
فاجتمعا فأرسلا إلى جماعة الطلقاء والمنافقين فخبراهم بالأمر، فأقبل بعضهم على بعض وقالوا: انّ محمّداً يريد أن يجعل هذا الأمر في أهل بيته كسنّة كسرى وقيصر إلى آخر الدهر، ولا والله ما لكم في الحياة من حظّ إن أفضى هذا الأمر إلى عليّ بن أبي طالب، وانّ محمداً عاملكم على ظاهركم وانّ علياً يعاملكم على ما يجد في نفسه منكم، فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك وقدّموا رأيكم فيه.
ودار الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأحالوا الرأي، فاتّفقوا على أن ينفروا بالنبي صلّى الله عليه وآله ناقته على عقبة هرشى(1)، وقد كانوا صنعوا مثل ذلك في غزاة تبوك فصرف الله الشرّ عن نبيّه صلّى الله عليه وآله، واجتمعوا في أمر
____________
1- في "ج": الهريش، وهو ـ بالفتح ثمّ السكون والقصر ـ: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة ترى من البحر، ولها طريقان فكل من سلك واحداً منها أفضى به إلى موضع واحد.
رسول الله صلّى الله عليه وآله من القتل والاغتيال واسقاء السمّ على غير وجه، وقد كان اجتمع أعداء رسول الله صلّى الله عليه وآله من الطلقاء من قريش والمنافقين من الأنصار، ومن كان في قلبه الارتداد من العرب في المدينة وما حولها، فتعاقدوا وتحالفوا على أن ينفروا به ناقته، وكانوا أربعة عشر رجلا، وكان من عزم رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يقيم علياً عليه السلام وينصبه للناس بالمدينة إذا قدمها.
فسار رسول الله صلّى الله عليه وآله يومين وليلتين، فلمّا كان في اليوم الثالث أتاه جبرئيل عليه السلام بآخر سورة الحجر فقال: اقرأ: {لنسئلنّهم أجمعين * عمّا كانوا يعملون * فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنّا كفيناك المستهزئين}(1).
قال: ورحل رسول الله صلّى الله عليه وآله وأغذّ السير(2) مسرعاً إلى دخول المدينة لينصب علياً علماً للناس، فلمّا كانت الليلة الرابعة هبط جبرئيل عليه السلام في آخر الليل فقرأ عليه: {يا أيّها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس انّ الله لا يهدي القوم الكافرين}(3)وهم الذين همّوا برسول الله صلّى الله عليه وآله.
فقال صلّى الله عليه وآله: أما تراني يا جبرئيل أغذّ السير مجدّاً فيه لأدخل المدينة فأفرض ولايته على الشاهد والغائب، قال له جبرئيل عليه السلام: إنّ الله يأمرك أن تفرض(4) ولايته غداً إذا نزلت منزلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: نعم يا جبرئيل غداً أفعل ذلك إن شاء الله.
وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله بالرحيل من وقته وسار الناس معه حتّى نزل بغدير خم، وصلّى بالناس وأمرهم أن يجتمعوا إليه، ودعا عليّاً عليه السلام
____________
1- الحجر: 92-95.
2- أي أسرع، وفي "ب": أعدّ، وفي "ج": أغدق.
3- المائدة: 67.
4- في "ب": تعرض.
ورفع رسول الله صلّى الله عليه وآله يد عليّ اليسرى بيده اليمنى، ورفع صوته بالولاء لعليّ على الناس أجمعين، وفرض طاعته عليهم، وأمرهم أن لا يختلفوا عليه بعده، وخبّرهم انّ ذلك عن أمر الله عزوجل.
وقال لهم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، ثمّ أمر الناس أن يبايعوه، فبايعه الناس جميعاً ولم يتكلّم منهم أحد، وقد كان أبو بكر وعمر تقدّما إلى الجحفة، فبعث وردّهما ثمّ قال لهما النبي صلّى الله عليه وآله متهجّماً: يا ابن أبي قحافة ويا عمر بايعا عليّاً بالولاية من بعدي، فقالا: أمر من الله ومن رسوله؟ فقال: وهل يكون مثل هذا عن غير أمر الله(1)؟! نعم أمر من الله ومن رسوله، فبايعا ثمّ انصرفا.
وسار رسول الله صلّى الله عليه وآله باقي يومه وليلته حتّى إذا دنوا من عقبة هرشى تقدّمه القوم فتواروا في ثنية العقبة، وقد حملوا معهم دباباً وطرحوا فيها الحصى.
فقال حذيفة: فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وآله ودعا عمّار بن ياسر، وأمره أن يسوقها وأنا أقودها حتّى إذا صرنا في رأس العقبة ثار القوم من ورائنا، ودحرجوا الدباب بين قوائم الناقة، فذعرت وكادت تنفر برسول الله صلّى الله عليه وآله، فصاح بها النبي صلّى الله عليه وآله: اُسكني وليس عليك بأس، فأنطقها الله بقول عربي فصيح فقالت: والله يا رسول الله لا أزلت يداً عن مستقر يد، ولا رجل عن موضع رجل وأنت على ظهري.
فتقدّم القوم إلى الناقة ليدفعوها، فأقبلت أنا وعمّار نضرب وجوههم
____________
1- في "ب" و "ج": من غير أمر الله ورسوله.
بأسيافنا ـ وكانت ليلة مظلمة ـ فزالوا عنّا وأيسوا ممّا ظنّوا وقدروا(1)، فقلت: يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين يريدون(2) ما ترى؟ فقال: يا حذيفة هؤلاء المنافقون في الدنيا والآخرة، فقلت: ألا تبعث إليهم يا رسول الله رهطاً فيأتوا برؤوسهم؟ فقال: انّ الله أمرني أن أعرض عنهم، وأكره أن تقول الناس انّه دعا اُناساً من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا له، فقاتل بهم حتّى ظهر على عدوّه ثمّ أقبل إليهم فقتلهم، ولكن دعهم يا حذيفة فإنّ الله لهم بالمرصاد، وسيمهلهم قليلا ثمّ يضطرّهم إلى عذاب غليظ.
فقلت: من هؤلاء المنافقون يا رسول الله، أمن المهاجرين أم من الأنصار؟ فسماهم لي رجلا رجلا حتّى فرغ منهم، وقد كان فيهم اُناس [كنت](3) كاره أن يكونوا فيهم، فأمسكت عند ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا حذيفة كأنّك شاك في بعض من سمّيت لك، ارفع رأسك إليهم، فرفعت طرفي إلى القوم وهم وقوف على الثنية، فبرقت برقة فأضاءت جميع ما حولنا، وثبتت البرقة حتّى خلتها شمساً طالعةً، فنظرت والله إلى القوم فعرفتهم رجلا رجلا، فإذا هم كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعدد القوم أربعة عشر رجلا، تسعة من قريش وخمسة من سائر الناس.
فقال له الفتى: سمّهم لنا يرحمك الله، فقال حذيفة: هم والله أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجرّاح، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن عاص ـ هؤلاء من قريش ـ وأمّا الخمسة الاخر: فأبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وأوس بن الحدثان البصري، وأبو هريرة، وأبو طلحة الأنصاري.
____________
1- في "ج": دبروا.
2- في "ج": من هؤلاء القوم وما يريدون.
3- أثبتناه من "ب".
قال حذيفة: ثمّ انحدرنا من العقبة وقد طلع الفجر، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وآله فتوضّأ وانتظر أصحابه، فانحدروا من العقبة واجتمعوا، فرأيت القوم بأجمعهم وقد دخلوا مع الناس وصلّوا خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلمّا انصرف من صلاته التفت فنظر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة يتناجون، فأمر منادياً فنادى في الناس: لا يجتمع ثلاثة نفر من الناس فيما بينهم بسرّ.
وارتحل رسول الله صلّى الله عليه وآله بالناس منزل العقبة، فلمّا نزل المنزل الآخر رأى سالم مولى أبي حذيفة أبا بكر وعمر وأبا عبيدة يسارّ بعضهم بعضاً، فوقف عليهم وقال: أليس قد أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله أن لا يجتمع ثلاثة نفر من الناس على سرّ؟ والله لتخبروني فيما أنتم وإلاّ أتيت رسول الله صلّى الله عليه وآله اُخبره بذلك منكم.
فقال أبو بكر: يا سالم عليك عهد الله وميثاقه لئن نحن خبرناك بالذي نحن فيه وبما اجتمعنا له، إن أحببت أن تدخل معنا فيه دخلت وكنت رجلا منّا، وإن كرهت ذلك كتمته علينا؟ فقال سالم: لكم ذلك(1)، وأعطاهم بذلك عهده وميثاقه ـ وكان سالم شديد البغض والعداوة لعليّ بن أبي طالب عليه السلام، وعرفوا ذلك منه ـ فقالوا له: إنّا قد اجتمعنا على أن نتحالف ونتعاقد على أن لا نطيع محمداً فيما فرض علينا من ولاية عليّ بن أبي طالب بعده.
فقال لهم سالم: عليكم عهد الله وميثاقه انّ في هذا الأمر كنتم تخوضون وتتناجون؟ قالوا: أجل، علينا عهد الله وميثاقه انّا انّما كنّا في هذا الأمر بعينه لا في شيء سواه، قال سالم: وأنا والله أوّل من يعاقدكم على هذا الأمر ولا يخالفكم عليه، انّه والله ما طلعت الشمس على أهل بيت أبغض لي من بني هاشم، ولا في بني هاشم أبغض لي ولا أمقت من عليّ بن أبي طالب، فاصنعوا في هذا ما بدا لكم فإنّي واحد
____________
1- في "ج": ذلك لكم منّي.
منكم.
فتعاقدوا من وقتهم على هذا الأمر ثمّ تفرّقوا، فلمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله المسير أتوه فقال لهم: فيما كنتم تتناجون في يومكم هذا وقد نهيتكم عن النجوى؟ فقالوا: يا رسول الله ما التقينا غير وقتنا هذا، فنظر إليهم النبي صلّى الله عليه وآله مليّاً، ثمّ قال لهم: أنتم أعلم أم الله، {ومن أظلم ممّن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عمّا تعملون}(1).
ثمّ سار حتّى دخل المدينة واجتمع القوم جميعاً وكتبوا صحيفة بينهم على ذكر ما تعاهدوا(2) عليه في هذا الأمر، وكان أوّل ما في الصحيفة النكث لولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وانّ الأمر لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم ليس بخارج منهم، وشهد بذلك أربعة وثلاثون رجلا، هؤلاء أصحاب العقبة، وعشرون رجلا آخر، واستودعوا الصحيفة أبا عبيدة بن الجراح، وجعلوه أمينهم عليها.
قال: فقال الفتى: يا أبا عبد الله يرحمك الله، هبنا نقول انّ هؤلاء القوم رضوا أبا بكر وعمر وأبا عبيدة لأنّهم من مشيخة قريش [ومن المهاجرين الأوّلين](3)، فما بالهم رضوا بسالم وليس هو من قريش ولا من المهاجرين ولا من الأنصار؟ وإنّما هو عبد لامرأة من الأنصار.
قال حذيفة: يا فتى انّ القوم أجمع تعاقدوا على إزالة هذا الأمر عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام حسداً منهم له وكراهة لأمره، واجتمع لهم مع ذلك ما كان في قلوب قريش عليه من سفك الدماء، وكان خاصّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكانوا يطلبون الثأر الذي أوقعه رسول الله صلّى الله عليه وآله بهم عند عليّ من بني هاشم، فإنّما كان العقد على إزالة الأمر عن عليّ بن أبي طالب على هؤلاء الأربعة
____________
1- البقرة: 140.
2- في "ج": تعاقدوا.
3- أثبتناه من "ج".
عشر، وكانوا يرون انّ سالماً رجل منهم.
قال الفتى: فخبرني يرحمك الله عمّا كتب جميعهم في الصحيفة لأعرفه، فقال حذيفة: حدّثتني(1) بذلك أسماء بنت عميس الخثعميّة امرأة أبي بكر، انّ القوم اجتمعوا في منزل أبي بكر فتآمروا في ذلك ـ وأسماء تسمعهم وتسمع جميع ما يدبرونه في ذلك ـ حتّى اجتمع رأيهم على ذلك، فأمروا سعيد بن العاص الأموي فكتب لهم الصحيفة باتّفاق منهم، وكانت نسخة الصحيفة:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اتّفق عليه الملأ من أصحاب محمد رسول الله من المهاجرين والأنصار الذين مدحهم الله في كتابه على لسان نبيّه، اتّفقوا جميعاً بعد أن اجتهدوا في رأيهم، وتشاوروا في أمرهم(2)، وكتبوا هذه الصحيفة نظراً منهم إلى الإسلام وأهله على غابر الأيام وباقي الدهور، ليقتدي بهم من يأتي من بعدهم من المسلمين.
أمّا بعد، فإنّ الله بمنّه وكرمه بعث محمداً رسولا إلى الناس كافة بدينه الذي ارتضاه لعباده، فأدّى من ذلك وبلغ ما أمره الله به، وأوجب علينا القيام بجميعه حتّى إذا أكمل الدين، وفرض الفرائض، وأحكم السنن، واختار الله له ما عنده، فقبضه إليه مكرماً محبوراً من غير أن يستخلف أحداً من بعده، وجعل الاختيار إلى المسلمين يختارون لأنفسهم مَنْ وثقوا برأيه ونصحه.
وانّ للمسلمين في رسول الله اُسوة حسنة، قال الله عزوجل: {لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}(3) وانّ رسول الله لم يستخلف أحداً لئلاّ يجري ذلك في أهل بيت واحد فيكون ارثاً دون سائر
____________
1- في "ج": حدّثني.
2- في "ج": اُمورهم.
3- الأحزاب: 21.
المسلمين، ولئلاّ يكون دولة بين الأغنياء منهم، ولئلاّ يقول المستخلف انّ هذا الأمر باق في عقبه من والد إلى ولد إلى يوم القيامة.
والذي يجب على المسلمين عند مضيّ خليفة من الخلفاء أن يجتمع ذوو الرأي والصلاح منهم فيتشاوروا في اُمورهم، فمن رأوه مستحقّاً لها ولّوه اُمورهم، وجعلوه القيّم عليهم، فإنّه لا يخفى على أهل كلّ زمان من يصلح منهم للخلافة، فإن ادّعى مدّع من الناس جميعاً انّ رسول الله استخلف رجلا بعينه، نصبه للناس ونصّ عليه باسمه ونسبه، فقد أبطل في قوله، وأتى بخلاف ما يعرفه أصحاب رسول الله، وخالف على جماعة من المسلمين.
وإن ادّعى مدّع انّ خلافة رسول الله ارثاً وانّ رسول الله يورث، فقد أحال في قوله، لأنّ رسول الله قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة، وان ادّعى مدّع انّ الخلافة لا تصلح إلاّ لرجل واحد من بين الناس جميعاً وانّها مقصورة فيه ولا تنبغي لغيره لأنّها تتلو النبوّة، فقد كذب لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله قال: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم(1).
وإن ادّعى مدّع انّه مستحق الخلافة والامامة بقربه من رسول الله ثمّ هي مقصورة عليه وعلى عقبه، يرثها الولد منهم عن والده، ثم هي كذلك في كل عصر وزمان لا تصلح لغيرهم ولا تنبغي أن تكون لأحد سواهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فليس له ولا لولده وإن دنا من النبي نسبه لأنّ الله يقول ـ وقوله القاضي
____________
1- قال الشيخ المفيد رحمه الله في كتابه "الافصاح" ص49 ذيل هذا الحديث: هذه أحاديث آحاد، وهي مضطربة الطريق والاسناد، والخلل ظاهر في معانيها والفساد، وما كان بهذه الصورة لم يعارض الاجماع ولا يقابل حجج الله تعالى وبيّناته الواضحات، مع انّه قد عارضها من الأخبار التي جاءت بالصحيح من الاسناد، ورواها الثقات عند أصحاب الآثار، وأطبق على نقلها الفريقان من الشيعة والناصبة على الاتّفاق، ما ضمن خلاف ما انطوت عليه فأبطلها على البيان... [ثمّ ذكر الشيخ رحمه الله عدّة أحاديث في الردّ على هذا الحديث، فليراجع].
على كلّ أحد ـ: {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}.
وقال رسول الله: إنّ ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وكلّهم يد على من سواهم، فمن آمن بكتاب الله وأقرّ بسنّة رسول الله فقد استقام وأناب وأخذ بالصواب، ومن كره ذلك من فعلهم فقد خالف الحق والكتاب، وفارق جماعة المسلمين فاقتلوه فإنّ قتله صلاح للاُمّة، وقد قال رسول الله: من جاء إلى اُمّتي وهم جميع ففرّق بينهم فاقتلوه واقتلوا الفرد كائناً من كان من الناس، فإنّ الاجتماع رحمة والفرقة عذاب، ولا تجتمع اُمّتي على ضلال أبداً، وانّ المسلمين يد واحدة على من سواهم، فإنّه لا يخرج من جماعة المسلمين إلاّ مفارق معاند لهم مظاهر عليهم أعداءهم، فقد أباح الله ورسوله دمه وأحلّ قتله.
وكتب سعيد بن العاص باتّفاق ممّن اثبت اسمه وشهادته آخر هذه الصحيفة في المحرّم سنة عشر من الهجرة، والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمد النبي وآله وسلّم".
ثمّ دفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح فوجّه بها إلى مكة، فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة إلى أن ولى عمر بن الخطاب، فاستخرجها من موضعها وهي الصحيفة التي تمنّى أمير المؤمنين عليه السلام لمّا توفّى عمر فوقف به وهو مسجّى بثوبه، قال: ما أحبّ إليّ أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجّى.
ثمّ انصرفوا وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله بالناس صلاة الفجر، ثمّ جلس في مجلسه يذكر الله عزوجل حتّى طلعت الشمس، فالتفت إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقال له: بخ بخ من مثلك قد أصبحت أمين هذه الاُمّة، ثمّ تلا: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا فويل لهم ممّا كتبت أيديهم وويل لهم ممّا يكسبون}(1) لقد أشبه هؤلاء رجال في هذه الاُمّة:
____________
1- البقرة: 79.
{يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً}(1).
ثمّ قال: لقد أصبح في هذه الاُمّة في يومي هذا [قوم](2) ضاهوهم(3) في صحيفتهم التي كتبوها علينا في الجاهلية وعلّقوها في الكعبة، وإنّ الله تعالى يعذّبهم غداً ليبتليهم(4) ويبتلي من [يأتي](5) بعدهم، تفرقة بين الخبيث والطيب، ولولا انّه سبحانه أمرني بالاعراض عنهم للأمر الذي هو بالغه لقدمتهم فضربت أعناقهم.
قال حذيفة: فوالله لقد رأينا هؤلاء النفر عند قول رسول الله صلّى الله عليه وآله لهم هذه المقالة وقد أخذتهم الرعدة، فما يملك أحد منهم من نفسه شيئاً، ولم يخف على أحد ممّن حضر مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله ذلك اليوم انّ رسول الله إيّاهم عنى بقوله، ولهم ضرب تلك الأمثال بما تلا من القرآن.
قال: ولما قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله من سفره ذلك نزل بمنزل اُم سلمة رضي الله عنها زوجته، فأقام به شهراً لا ينزل منزلا سواه من منازل أزواجه كما كان يفعل قبل ذلك، قال: فشكت عائشة وحفصة ذلك إلى أبويهما، فقالا لهما: إنّا نعلم لم صنع ذلك ولأيّ شيء هو، امضيا إليه فلاطفاه في الكلام وخادعاه عن نفسه، فإنّكما تجدانه حيّياً كريماً، فلعلّكما تسلاّن ما في قلبه وتستخرجان سخيمته.
قال: فمضت عائشة وحدها إليه، فأصابته في منزل اُمّ سلمة وعنده عليّ بن أبي طالب، فقال لها النبي صلّى الله عليه وآله: ما جاء بك يا حميراء؟ قالت: يا رسول الله أنكرتُ تخلّفك عن منزلك هذه المدّة، وأنا أعوذ بالله من سخطك يا رسول الله،
____________
1- النساء: 108.
2- أثبتناه من "ب" و "ج".
3- في "ج": شابهوهم.
4- في البحار: يمتعهم ليبتليهم.
5- أثبتناه من "ج".
فقال: لو كان الأمر كما تقولين لما أظهرت بسرٍّ وصّيتك بكتمانه، لقد هلكت وأهلكت اُمّة من الناس.
قال: ثمّ أمر خادمة لاُمّ سلمة فقال: اجمعي لي هؤلاء ـ يعني نساءه ـ فجمعتهنّ له في منزل اُمّ سلمة فقال لهنّ: اسمعن ما أقول لكنّ ـ وأشار بيده إلى عليّ بن أبي طالب فقال لهنّ: ـ هذا أخي ووصيّي ووارثي والقائم فيكنّ وفي الاُمّة من بعدي، فأطعنه فيما يأمركنّ به ولا تعصينّه فتهلكن بمعصيته، ثمّ قال: يا عليّ اُوصيك بهنّ فأمسكهنّ ما أطعن الله ورسوله وأطعنك، وأنفق عليهنّ من مالك، ومرهنّ بأمرك، وانههنّ عمّا يريبك، وخلّ سبيلهنّ إن عصينك.
فقال عليّ عليه السلام: يا رسول الله إنّهنّ نساء ومنهنّ الوهن وضعف الرأي، فقال: ارفق بهنّ ما كان الرفق أمثل، فمن عصاك منهنّ فطلّقها طلاقاً يبرأ الله ورسوله منها، قال: وكلّ نساء النبي صلّى الله عليه وآله قد صمتن فما يقلن شيئاً، فتكلّمت عائشة فقالت: يا رسول الله ما كنّا لتأمرنا بشيء فنخالفه إلى ما سواه.
فقال لها: بلى يا حميراء، قد خالفت أمري أشدّ خلاف، وأيم الله لتخالفين قولي هذا ولتعصينه بعدي، ولتخرجين من البيت الذي اخلّفك فيه متبرّجة، قد حفّ بك فئام(1) من الناس، فتخالفينه ظالمة له عاصية لربّك، ولتنبحنّك في طريقك كلاب حوأب، ألا انّ ذلك لكائن، ثمّ قال: قمن فانصرفن إلى منازلكنّ، قال: فقمن فانصرفن.
قال: ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله جمع اُولئك النفر ومن مالأهم(2)على عليّ عليه السلام، وطابقهم على عدواته، ومن كان من الطلقاء والمنافقين ـ وكانوا زهاء أربعة آلاف رجل ـ فجعلهم تحت يدي اُسامة بن زيد مولاه، وأمّره
____________
1- في "ج": فئات.
2- في "ج": ومن والاهم.
عليهم وأمره بالخروج إلى ناحية من الشام، فقالوا: يا رسول الله إنّا قد قدمنا من سفرنا الذي كنّا فيه معك، ونحن نسألك أن تأذن لنا في المقام لنصلح من شأننا ما يُصلحنا في سفرنا.
قال: فأمرهم أن يكونوا في المدينة ريث اصلاح ما يحتاجون إليه، وأمر اُسامة بن زيد فعسكر بهم على أميال من المدينة، فأقام بمكانه الذي حدّ له رسول الله صلّى الله عليه وآله منتظراً للقوم أن يوافوه إذا فرغوا من اُمورهم وقضاء حوائجهم، وإنّما أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله بما صنع من ذلك أن تخلوا المدينة منهم ولا يبقى بها أحد من المنافقين.
قال: فهم على ذلك من شأنهم ورسول الله صلّى الله عليه وآله دائب يحثّهم ويأمرهم بالخروج والتعجيل إلى الوجه الذي ندبهم إليه، إذ مرض رسول الله صلّى الله عليه وآله مرضه الذي توفي فيه، فلمّا رأوا ذلك تباطؤوا عمّا أمرهم رسول الله من الخروج، فأمر قيس بن سعد بن عبادة ـ وكان سيّاف رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ والحباب بن المنذر في جماعة من الأنصار أن يرحلوا بهم إلى عسكرهم، فأخرجهم قيس بن سعد والحباب بن المنذر حتّى ألحقاهم بمعسكرهم وقالا لاُسامة: انّ رسول الله لم يرخص لك في التخلّف، فسر من وقتك هذا ليعلم رسول الله ذلك، فارتحل اُسامة وانصرف قيس والحباب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فأعلماه برحلة(1) القوم، فقال لهم: انّ القوم غير سائرين [من مكانهم](2).
قال: وخلا أبو بكر وعمر وأبو عبيدة باُسامة وجماعة من أصحابه فقالوا: إلى أين ننطلق ونخلّي المدينة، ونحن أحوج ما كنّا إليها وإلى المقام بها؟ فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: انّ رسول الله قد نزل به الموت، والله لئن خلّينا المدينة ليحدثنّ بها اُمور
____________
1- في "ب": برحيل.
2- أثبتناه من "ج".
لا يمكن اصلاحها، ننظر ما يكون من أمر رسول الله ثمّ المسير بين أيدينا.
قال: فرجع القوم إلى المعسكر الأوّل، فأقاموا به وبعثوا لهم رسولا يتعرّف لهم [بالخبر من](1) أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأتى الرسول عائشة فسألها عن ذلك سرّاً، فقالت: امض إلى أبي بكر وعمر ومن معهما فقل لهما: إنّ رسول الله قد ثقل فلا يبرحنّ أحد منكم، وأنا اعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت، واشتدّت علّة رسول الله صلّى الله عليه وآله فدعت(2) عائشة صهيباً فقالت: امض إلى أبي بكر وعمر وأعلمه انّ محمداً في حال لا يُرجى، فهلمّ(3) إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة ومن رأيتم أن يدخل معكم، وليكن دخولكم في الليل سرّاً.
قال: فأتاهم الخبر فأخذوا صهيب فأدخلوه إلى اُسامة بن زيد، فأخبروه الخبر وقالوا له: كيف ينبغي لنا أن نتخلّف عن مشاهدة رسول الله؟ واستأذنوه في الدخول فأذن لهم وأمرهم أن لا يعلم بدخولهم أحد، وإن عوفي رسول الله صلّى الله عليه وآله رجعتم إلى عسكركم، وإن حدث حادث الموت عرّفونا ذلك لنكون في جماعة الناس.
فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ليلا المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وآله قد ثقل، قال: فأفاق بعض الافاقة فقال: لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شرّ عظيم، فقيل له: وما هو يا رسول الله؟ فقال: إنّ الذين كانوا في جيش اُسامة قد رجع منهم نفر مخالفون على أمري، ألا إنّي إلى الله منهم بريء، ويحكم نفّذوا جيش اُسامة، فلم يزل يقول ذلك حتّى قالها مرّات كثيرة.
قال: وكان بلال مؤذّن رسول الله صلّى الله عليه وآله يؤذّن بالصلاة في كلّ
____________
1- أثبتناه من "ج".
2- في "ج": فدفعت.
3- في "ج": فهلمّوا.
وقت صلاة، فإن قدر على الخروج تحامل وخرج وصلّى بالناس، وإن هو لم يقدر على الخروج أمّ عليّ بن أبي طالب فصلّى بالناس، وكان عليّ بن أبي طالب والفضل بن العباس لا يزايلانه في مرضه ذلك.
فلمّا أصبح رسول الله صلّى الله عليه وآله من ليلته تلك التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يد اُسامة، أذّن بلال ثمّ أتاه يخبره كعادته، فوجده قد ثقل فمنع من الدخول إليه، فأمرت عائشة صهيباً أن يمضي إلى أبيها فيعلمه انّ رسول الله قد ثقل(1) وليس يطيق النهوض إلى المسجد، وعليّ بن أبي طالب قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس، فاخرج أنت إلى المسجد فصلّ بالناس، فإنّها حالة تهنئك(2) وحجة لك بعد اليوم.
قال: فلم يشعر الناس وهم في المسجد ينتظرون رسول الله أو عليّاً يصلّي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه إذ دخل أبو بكر المسجد وقال: انّ رسول الله ثقل وقد أمرني أن اُصلّي بالناس، فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله: وأنّى لك ذلك وأنت في جيش اُسامة، ولا والله ما أعلم أحد بعث إليك ولا أمرك بالصلاة، ثمّ نادى الناس بلالا فقال: على رسلكم رحمكم الله لأستأذِن رسول الله في ذلك.
ثمّ أسرع حتّى أتى الباب فدقّه دقّاً شديداً، فسمعه رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: ما هذا الدقّ العنيف؟! فانظروا ما هو، قال: فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فإذا بلال، فقال: ما وراؤك يا بلال؟ فقال: انّ أبا بكر دخل المسجد وتقدّم حتّى وقف في مقام رسول الله صلّى الله عليه وآله، وزعم انّ رسول الله أمره بذلك، فقال: أوليس أبا بكر مع اُسامة في الجيش؟ هذا والله هو الشرّ العظيم الذي
____________
1- في "ب": قد ثقل في مرضه.
2- في "ج": تهيّئك.
طرق البارحة المدينة، لقد أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله بذلك.
ودخل الفضل وأدخل بلالا معه فقال: ما وراؤك يا بلال، فأخبر رسول الله الخبر، فقال: أقيموني أقيموني اخرجوني إلى المسجد، والذي نفسي بيده قد نزلت بالاسلام نازلة وفتنة عظيمة من الفتن، ثمّ خرج صلّى الله عليه وآله معصوب الرأس، يتمادى بين عليّ والفضل بن العباس رضي الله عنهما ورجلاه يجرّان في الأرض حتّى دخل المسجد، وأبو بكر قائم في مقام رسول الله، وقد طاف به عمر وأبو عبيدة وسالم وصهيب والنفر الذين دخلوا، وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ينتظرون ما يأتي به بلال، فلمّا رأى الناس رسول الله صلّى الله عليه وآله قد دخل المسجد وهو بتلك الحالة العظيمة من المرض أعظموا ذلك.
وتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وآله فجذب أبا بكر من ورائه فنحّاه عن المحراب، وأقبل أبو بكر والنفر الذين كانوا معه فتواروا خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأقبل الناس فصلّوا خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهو جالس وبلال يسمع الناس التكبير حتّى قضى صلاته، ثمّ التفت فلم ير أبا بكر فقال: يا أيّها الناس لا تعجبوا من ابن أبي قحافة وأصحابه الذين أنفذتهم وجعلتهم تحت يدي اُسامة، وأمرتهم بالمسير إلى الوجه الذي وجهوا إليه، فخالفوا ذلك ورجعوا إلى المدينة ابتغاء الفتنة، ألا وانّ الله قد أركسهم فيها، اعرجوا بي المنبر.
فقام وهو مربوط حتّى قعد على أدنى مرقاة، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس انّه قد جاءني من أمر ربّي ما الناس إليه صائرون، وانّي قد تركتكم على الحجّة الواضحة ليلها كنهارها، فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني اسرائيل، أيّها الناس انّه لا اُحلّ لكم إلاّ ما أحلّه القرآن، ولا اُحرّم عليكم إلاّ ما حرّم القرآن، وإنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ولن تزلّوا: كتاب الله
وعترتي أهل بيتي، وهما الخليفتان فيكم، وانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فاُسائلكم بماذا أخلفتموني فيهما، ولأذيدنّ(1) يومئذ رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الابل، فيقول رجلان: أنا فلان وأنا فلان، فأقول: أمّا الأسماء فقد عرفت ولكنّكم ارتددتم من بعدي، فسحقاً لكم سحقاً.
ثمّ نزل عن المنبر وعاد إلى حجرته، ولم يظهر أبو بكر ولا أصحابه حتّى قُبض صلوات الله عليه، وكان من الأنصار وسعد [وغيرهم](2) من السقيفة ما كان، فمنعوا أهل بيت نبيّهم حقوقهم التي جعلها الله عزوجل لهم، وأمّا كتاب الله فمزّقوه كلّ ممزّق، وفيما أخبرتك يا أخا الأنصار من خطب معتبر لمن أحبّ الله هدايته.
فقال الفتى: سمّ لي القوم الآخرين الذين حضروا الصحيفة وشهدوا فيها، فقال حذيفة: أبو سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن اُميّة بن خلف، وسعيد بن العاص، وخالد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وبشر بن سعد، وسهيل بن عمر، وحكيم بن حزام، وصهيب بن سنان، وأبو الأعور الأسلمي، ومطيع بن الأسود المدري، وجماعة من هؤلاء ممّن سقط عنّي احصاء عددهم.
فقال الفتى: يا أبا عبد الله ما هؤلاء في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى قد انقلب الناس أجمعون بسببهم؟ فقال حذيفة: إنّ في هؤلاء رؤوس القبائل، وما من رجل من هؤلاء إلاّ ومعه من الناس خلق عظيم يسمع له ويطيع(3)، واُشربوا في قلوبهم من أبي بكر كما شرب قلوب بني اسرائيل من حبّ العجل والسامري حتّى تركوا هارون واستضعفوه.
قال الفتى: فإنّي اُقسم بالله حقّاً حقّاً إنّي لا أزال لهم مبغضاً، وإلى الله منهم
____________
1- في "ج": ليذدادون.
2- أثبتناه من "ج".
3- في "ج": يسمعون له ويطيعون.
ومن أفعالهم متبرّئاً، ولا زلت لأمير المؤمنين عليه السلام متوالياً، ولأعدائه معادياً، ولألحقنّ به وإنّي لاُؤمل أن اُرزق الشهادة معه وشيكاً إن شاء الله، ثمّ وّدع حذيفة وقال: هذا وجهي(1) إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
فخرج إلى المدينة، واستقبله(2) وقد شخص من المدينة يريد العراق فسار معه إلى البصرة، فلمّا التقى أمير المؤمنين عليه السلام مع أصحاب الجمل كان ذلك الفتى أوّل من قُتل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وذلك لمّا صاف القوم واجتمعوا على الحرب، أحب أمير المؤمنين عليه السلام أن يستظهر عليهم بدعائهم إلى القرآن وحكمه، فدعا بمصحف وقال: من يأخذ هذا المصحف يعرضه عليهم ويدعوهم إلى ما فيه، فيحيى ما أحياه ويميت ما أماته؟ قال: وقد شرعت الرماح في العسكرين حتّى لو أراد امرء أن يمشي عليها لمشى.
قال: فقال الفتى: يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه، قال: فأعرض عنه أمير المؤمنين عليه السلام ثمّ نادى الثانية: من يأخذ هذا المصحف فيعرضه عليهم ويدعوهم إلى ما فيه؟ فلم يقم إليه أحد، فقام الفتى وقال: يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه، قال: فأعرض عنه أمير المؤمنين عليه السلام ثمّ نادى الثالثة فلم يقم أحد من الناس إلاّ الفتى، فقال: أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّك إن فعلت ذلك فأنت مقتول، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شيء أحبّ إليّ من أن اُرزق الشهادة بين يديك وأن اُقتل في طاعتك، فأعطاه أمير المؤمنين المصحف فتوجّه به نحو عسكرهم، فنظر إليه أمير المؤمنين عليه السلام وقال: انّ الفتى ممّن حشى الله قلبه نوراً وايماناً وهو مقتول،
____________
1- في "ج": وتوجّه إلى....
2- في "ج": واستقبله عليّ.
ولقد أشفقت عليه من ذلك، ولن يفلح القوم بعد قتلهم إيّاه.
فمضى الفتى بالمصحف حتّى وقف بازاء عسكر عائشة، وطلحة والزبير حينئذ عن يمين الهودج وشماله ـ وكان له صوت ـ فنادى بأعلى صوته: معاشر الناس هذا كتاب الله وانّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام يدعوكم إلى كتاب الله والحكم بما أنزل الله فيه، فأنيبوا إلى طاعة الله والعمل بكتابه.
قال: وكانت عائشة وطلحة والزبير يسمعون قوله فأمسكوا(1)، فلمّا رأى ذلك أهل عسكرهم بادروا إلى الفتى والمصحف في يمينه فقطعوا يده اليمنى، فتناول المصحف بيده اليسرى وناداهم بأعلى صوته مثل ندائه أوّل مرّة، فبادروا إليه وقطعوا يده اليسرى، فتناول المصحف واحتضنه ودماؤه تجري عليه وناداهم مثل ذلك، فشدّوا عليه فقتلوه ووقع ميّتاً فقطّعوه ارباً ارباً، ولقد رأينا شحم بطنه أصفر.
قال: وأمير المؤمنين عليه السلام واقف يراهم، فأقبل على أصحابه وقال: إنّي والله ما كنت في شك ولا لبس من ضلالة القوم وباطلهم، ولكن أحببت أن يتبيّن لكم جميعاً ذلك من بعد قتلهم الرجل الصالح حكيم بن جبلة العبدي في رجال صالحين معه، و[تضاعف](2) ذنوبهم بهذا الفتى، وهو يدعوهم إلى كتاب الله والحكم به والعمل بموجبه، فثاروا إليه فقتلوه ولا يرتاب بقتلهم مسلم، ووقدت(3)الحرب واشتدّت، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: احملوا عليهم، بسم الله حم لا ينصرون، وحمل هو بنفسه والحسنان وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله.
فغاص في القوم بنفسه، فوالله ما كانت إلاّ ساعة من نهار حتّى رأينا القوم
____________
1- قال الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب الجمل: 339: "فأقبل الغلام حتّى وقف بازاء الصفوف ونشر المصحف وقال: هذا كتاب الله عزوجل وأمير المؤمنين عليه السلام يدعوكم إلى ما فيه، فقالت عائشة: اشجروه بالرماح قبّحه الله، فتبادروا إليه بالرماح فطعنوه من كلّ جانب...".
2- أثبتناه من البحار، وفي "ج": ووثوبهم بهذا الفتى.
3- في "ب": وقعت.
شلايا يميناً وشمالا صرعى تحت سنابك الخيل، ورجع أمير المؤمنين عليه السلام مؤيداً منصوراً وفتح الله عليه ومنحه أكتافهم، وأمر بذلك الفتى وجمع(1) من قتل معه، فلفّوا في ثيابهم بدمائهم لم تُنزع عنهم ثيابهم، وصلّى عليهم ودفنهم، وأمرهم أن لا يجهزوا على جريح ولا يتبعوا لهم مدبراً، وأمر بما حوى العسكر فجمع له فقسّمه بين أصحابه، وأمر محمد بن أبي بكر أن يدخل اُخته إلى البصرة، فيقيم أيّاماً ثمّ يرحلها(2) إلى منزلها بالمدينة.
قال عبد الله بن سلمة: كنت ممّن شهد حرب أهل الجمل، فلمّا وضعت الحرب أوزارها رأيت اُمّ ذلك الفتى واقفة عليه، فجعلت تبكي عليه وتقبّله، ثمّ أنشأت تقول:
يا ربّ انّ مسلماً أتاهم |
يتلو كتاب الله لا يخشاهم |
يأمرهم بالأمر من مولاهم |
فخضّبوا من دمه قناهم |
واُمّهم(3) قائمة تراهم |
تأمرهم بالغيّ لا تنهاهم(4) |
>>>>>>
|