[حكاية الجاثليق الأوّل]
بسم الله الرحمن الرحيم، بحذف الاسناد مرفوعاً إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه(2) قال: كان من البلاء العظيم الذي ابتلى الله عزوجل به قريشاً بعد نبيّها صلّى الله عليه وآله ليعرّفها أنفسها، ويخرج شهاداتها عمّا ادّعته(3) على رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد وفاته، ودحض حجّتها وكشف غطاء ما أسرّت في قلوبها، وأخرجت ضغائنها لآل الرسول صلّى الله عليه وآله، أزالتهم عن إمامتهم وميراث
____________
1- راجع كتاب سليم: 115; عنه مدينة المعاجز 1: 499 ح325; وفضائل ابن شاذان: 142; عنه البحار 38: 51 ح8; وغيبة النعماني: 74 ح9; عنه البحار 36: 210 ح13.
2- قال العلامة المجلسي في البحار 30/84: انّ المحدّثين فرّقوا أجزاءه [أي أجزاء هذا الحديث] على الأبواب، وهي مرويّة في الاُصول المعتبرة، وهذا ممّا يدلّ على صحّتها، ويؤيّده أيضاً انّه قال الشيخ قدّس الله روحه في فهرسته: سلمان الفارسي رحمة الله عليه... روى خبر الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد النبي صلّى الله عليه وآله....
3- قال العلامة المجلسي في البحار 30/84: انّ المحدّثين فرّقوا أجزاءه [أي أجزاء هذا الحديث] على الأبواب، وهي مرويّة في الاُصول المعتبرة، وهذا ممّا يدلّ على صحّتها، ويؤيّده أيضاً انّه قال الشيخ قدّس الله روحه في فهرسته: سلمان الفارسي رحمة الله عليه... روى خبر الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد النبي صلّى الله عليه وآله....
كتاب الله فيهم، ما عظمت خطيئته، وشملت فضيحته(1)، ووضحت هداية الله فيه لأهل دعوته وورثة نبيّه صلّى الله عليه وآله وأنار قلوب أوليائهم، وعمّهم نفعه، وأصابهم بركاته(2):
انّ ملك الروم لما بلغه خبر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وخبر اُمّته واختلافهم في الاختيار عليهم، وتركهم سبيل هدايتهم، وادّعائهم على رسول الله صلّى الله عليه وآله انّه لم يوص إلى أحد بعد وفاته، واهماله إيّاهم يختاروا لأنفسهم، وتوليتهم الأمر بعدهم الأباعد من قومه، وصرف ذلك عن أهل بيته وورثته وقرابته(3)، دعا علماء بلده واستفتاهم(4)، فناظرهم في الأمر الذي ادّعته قريش بعد نبيّها صلّى الله عليه وآله، وفيما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله.
فأجابوه بجوابات من حججهم على انّه محمد صلّى الله عليه وآله، فسأل أهل مدينته أن يوجههم إلى المدينة لمناظرتهم والاحتجاج عليهم، فأمر الجاثليق أن يختار من أصحابه وأساقفته، فاختار منهم مائة رجل، فخرجوا يقدمهم الجاثليق لهم، قد أقرّت العلماء له جميعاً بالفضل والعلم، متبحّراً في علمه، يخرج الكلام من تأويله، ويرد كلّ فرع إلى أصله، ليس بالخرق ولا بالنزق(5) ولا البليد ولا الرعديد(6) ولا النكل ولا الفشل، ينصت لمن يتكلّم(7)، ويجيب إذا سئل، ويصبر إذا مُنع.
فقدم المدينة بمن معه من أخيار قومه وأصحابه حتّى نزل القوم عن
____________
1- في "ج": قضيّة.
2- في "ج": أضاء به برهانه.
3- في "ج": ذرّيته وأقربائه.
4- في "ج": وأساقفتهم.
5- النزق: الخفّة والطيش.
6- الرعديد ـ بالكسر ـ: الجبان.
7- في "ج": لم يتكلّم.
رواحلهم، فسأل أهل المدينة عمّن أوصى إليه محمد صلّى الله عليه وآله ومن قام مقامه، فدلّوه على أبي بكر، فأتوا مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله فدخلوا على أبي بكر وهو في حشدة من قريش، فيهم عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، وعثمان بن عفان، وأنا في القوم.
فوقفوا عليه، فقال زعيم القوم: السلام عليكم، فردّوا عليه السلام، فقال: أرشدونا إلى القائم مقام نبيّكم فإنّا قوم من الروم، فإنّا على دين المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، فقدمنا لمّا بلغنا وفاة نبيّكم واختلافكم، نسأل عن صحّة نبوّته ونسترشد لديننا ونتعرّض لدينكم، فإن كان أفضل من ديننا دخلنا فيه وسلّمنا وقبلنا الرشد منكم طوعاً، وأجبناكم إلى دعوة نبيّكم، وإن يكن خلاف ما جاءت به الرسل وجاء به عيسى رجعنا إلى دين المسيح، فإنّ عنده من عهد ربّنا(1) في أنبيائه ورسله دلالة ونوراً واضحاً، فأيّكم صاحب الأمر بعد نبيّكم؟.
فقال عمر بن الخطاب: هذا صاحبنا ووليّ الأمر بعد نبيّنا، قال الجاثليق: هو هذا الشيخ؟ فقال: نعم، فقال: أيّها الشيخ أنت القائم الوصيّ لمحمّد في اُمّته، وأنت العالم المستغني بعلمك ممّا علّمك نبيّك من أمر الاُمّة وما تحتاج إليه؟.
قال أبو بكر: لا ما أنا بوصيّ، قال له: فما أنت؟ قال عمر: هذا خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال النصراني: أنت خليفة رسول الله استخلفك في اُمّته؟ قال أبو بكر: لا، قال: فما هذا الاسم الذي ابتدعتموه وادّعيتموه بعد نبيّكم؟ وإنّا قد قرأنا كتب الأنبياء صلوات الله عليهم فوجدنا الخلافة لا تصلح إلاّ لنبيّ من أنبياء الله، لأنّ الله عزوجل جعل آدم خليفة في الأرض، فَرَضَ طاعته على أهل السماء والأرض، ونوّه باسم داود عليه السلام فقال: {يا داود إنّا جعلناك خليفة في
____________
1- في "الف": رأينا.
الأرض}(1) فكيف تسمّيت(2) بهذا الاسم، ومن سمّاك به؟ أنبيّك سمّاك به؟ قال: لا ولكن تراضوا الناس فولّوني واستخلفوني.
فقال: أنت خليفة قومك لا خليفة نبيّك وقد قلت انّ النبي لم يوص إليك، وقد وجدنا في كتب من سنن الأنبياء انّ الله لم يبعث نبيّاً إلاّ وله وصيّ يوصي إليه، وتحتاج الناس كلّهم إلى علمه، وهو مستغن عنهم، وقد زعمت انّه لم يوصّ كما أوصت الأنبياء، وادّعيت أشياء لست بأهلها، وما أراكم إلاّ وقد دفعتم نبوّة محمد، وقد أبطلتم سنن الأنبياء في قومهم.
قال: فالتفت الجاثليق إلى أصحابه وقال: إنّ هؤلاء يقولون انّ محمداً لم يأتهم بالنبوّة وإنّما كان أمره بالغلبة، ولو كان نبيّاً لأوصى كما أوصت الأنبياء، وخلّف فيهم كما خلّفت الأنبياء من الميراث والعلم، ولسنا نجد عند القوم أثر ذلك.
ثمّ التفت كالأسد فقال: يا شيخ أما أنت فقد أقررت انّ محمداً النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يوص إليك، ولا استخلفك وإنّما تراضوا الناس بك، ولو رضى الله عزوجل برضى الخلق، واتّباعهم لهواهم، واختيارهم لأنفسهم، ما بعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين، وآتاهم الكتاب والحكمة(3) ليبيّنوا للناس ما يأتون ويذرون وما فيه يختلفون، ولئلاّ يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل.
فقد دفعتم النبيّين عن رسالاتهم، واستغنيتم بالجهل من اختيار الناس عن اختيار الله عزوجل الرسل للعباد، واختيار الرسل لاُمّتهم، ونراكم تعظمون بذلك الفرية على الله عزوجل وعلى نبيّكم، ولا ترضون إلاّ أن تتسمون بعد ذلك بالخلافة، وهذا لا يحلّ إلاّ لنبي أو وصي نبي، وإنّما تصحّ الحجّة لكم بتأكيدكم النبوّة
____________
1- ص: 26.
2- في "الف": تسمّيتم.
3- في "ب": والحكم والنبوّة.
لنبيّكم وأخذكم بسنن الأنبياء في هداهم، وقد تغلّبتم فلابد لنا أن نحتجّ عليكم فيما ادّعيتم حتّى نعرف سبيل ما تدّعون إليه، ونعرف الحق فيكم بعد نبيّكم أصواب فعلتم بايمان أم بجهل أو كفرتم.
ثمّ قال: يا شيخ أجب، قال: فالتفت أبو بكر إلى أبي عبيدة ليجيب عنه، فلم يحر(1) جواباً، ثمّ التفت الجاثليق إلى أصحابه فقال: بناء القوم على غير أساس ولا أرى لهم حجّة، أفهمتم؟ قالوا: بلى، ثمّ قال لأبي بكر: يا شيخ أسألك؟ قال: سل، قال: أخبرني عنّي وعنك، ما أنت عند الله وما أنا [عنده](2)؟
قال: فأمّا أنا فعند نفسي مؤمن وما أدري ما أنا عند الله فيما بعد، وأمّا أنت فعندي كافر ولا أدري ما أنت عند الله، قال الجاثليق: أمّا أنت فقد منيت نفسك الكفر بعد الايمان، وجهلت مقامك في ايمانك أمحقّ أنت فيه أم مبطل، وأمّا أنا فقد منيتني الايمان بعد الكفر، فما أحسن حالي وأسوء حالك عند نفسك إذ كنتَ لا توقن بما لك عند الله، فقد شهدت لي بالفوز والنجاة، وشهدت لنفسك بالهلاك والكفر.
ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: طيبوا نفساً فقد شهد لكم بالنجاة بعد الكفر، ثمّ التفت إلى أبي بكر فقال: يا شيخ أين مكانك الساعة من الجنّة إذا ادّعيت الايمان، وأين مكاني من النار؟ قال: فالتفت أبو بكر إلى عمر وأبي عبيدة مرّة اُخرى ليجيبا عنه، فلم ينطق أحد منهما.
قال: ثمّ قال: ما أدري أين مكاني وما حالي عند الله، قال الجاثليق: يا هذا أخبرني كيف استجزت لنفسك أن تجلس في هذا المجلس وأنت محتاج إلى علم غيرك، فهل في اُمّة نبيّك من هو أعلم منك؟ قال: نعم.
قال: ما أعلمك وإيّاهم، إلاّ وقد حملوك أمراً عظيماً، وسفهوا بتقديمهم إيّاك
____________
1- في "ب": يجد.
2- أثبتناه من "ب".
على من هو أعلم منك، فإن كان الذي هو أعلم منك يعجز عمّا سألتك كعجزك فأنت وهو واحد في دعواكم، فأرى نبيّكم ـ إن كان نبيّاً ـ فقد ضيّع علم الله عزوجل وعهده وميثاقه الذي أخذه على النبيّين من قبله فيكم في إقامة الأوصياء لاُمّتهم ليفزعوا إليه فيما يتنازعون في أمر دينكم، فدلّوني على هذا الذي هو أعلم منكم فعساه في العلم أكثر(1) منكم في محاورة وجواب وبيان ما يحتاج إليه من أثر النبوّة وسنن الأنبياء، ولقد ظلمك قومك وظلموا أنفسهم فيك.
قال سلمان رضي الله عنه: فلمّا رأيت ما نزل بالقوم من البهت والحيرة والذلّ والصغار، وما حلّ بدين محمد صلّى الله عليه وآله، وما نزل بالقوم من الحزن نهضت لا أعقل أين أضع قدمي إلى باب أمير المؤمنين عليه السلام، فدققت عليه الباب فخرج وهو يقول: ما دهاك يا سلمان؟
قال: قلت: هلك دين الله وهلك الإسلام بعد محمد صلّى الله عليه وآله، وظهر أهل الكفر على دينه وأصحابه بالحجّة، فأدرك يا أمير المؤمنين دين محمد صلّى الله عليه وآله، والقوم قد ورد عليهم ما لا طاقة لهم به ولا بدّ ولا حيلة، فأنت اليوم مفرج كربها، وكاشف بلواها، وصاحب ميسمها، وتاجها، ومصباح ظلمها، وفتاح(2) مبهمها.
قال: فقال عليّ عليه السلام: ما ذاك؟ قال: قلت: قد قدم قوم [لهم قوّة](3) من ملك الروم في مائة رجل من أشراف قومهم يقدمهم جاثليق، لم أر مثله يورد الكلام على معانيه ويصرفه على تأويله، ويؤكّد حجّته، ويحكم ابتداءه، لم أسمع مثل حججه ولا سرعة جوابه من كنوز علمه.
____________
1- في "ج": أقلّ.
2- في "ب" و "ج": مفتاح.
3- أثبتناه من "ج".
فأتى أبا بكر ـ وهو في جماعة ـ فسأله عن مقامه ووصيّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأبطل دعواهم بالخلافة، وغلبهم بادّعائهم تخليفهم مقامه، فأورد على أبي بكر مسألة أخرجه بها عن ايمانه وألزمه الكفر والشكّ في دينه، فعلتهم لذلك ذلّة وخضوع وحيرة، فأدرك يا أمير المؤمنين دين محمد فقد ورد عليهم ما لا طاقة لهم به.
فنهض أمير المؤمنين صلوات الله عليه معي حتّى أتينا القوم وقد اُلبسوا الذلّة والمهانة والصغار والحيرة، فسلّم عليّ عليه السلام ثمّ جلس فقال: يا نصراني أقبل عليّ بوجهك واقصدني بمسألتك(1)، فعندي جواب ما تحتاج الناس إليه فيما يأتون ويذرون، وبالله التوفيق.
قال: فتحوّل النصراني إليه فقال: يا شاب إنّا وجدنا في كتب الأنبياء إنّ الله عزوجل لم يبعث نبيّاً قطّ إلاّ كان له وصيّ يقوم مقامه، وقد بلغنا اختلاف عن اُمّة محمد في مقام نبوّته، وادّعاء قريش على الأنصار، وادّعاء الأنصار على قريش واختيارهم لأنفسهم، فأقدمنا ملكنا وفداً وقد اختارنا لنبحث عن دين محمد صلّى الله عليه وآله، ونعرف سنن الأنبياء فيه، والاستماع من قومه الذين ادّعوا مقامه، أحقّ ذلك أم باطل؟ قد كذّبوا عليه كما كذّبت الاُمم بعد أنبيائها على نبيّها، ودفعت الأوصياء عن حقّها.
وإنّا وجدنا قوم موسى عليه السلام بعده عكفوا على العجل(2)، ودفعوا هارون عن وصيّته، واختاروا ما أنتم عليه، وكذلك سنّة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا، فقدمنا فاُرشدنا إلى هذا الشيخ، فادّعى مقامه والأمر له من بعده، فسألناه عن الوصيّة إليه عن نبيّه فلم يعرفها، وسألته عن قرابته منه إذا
____________
1- في "ج": بحاجتك.
2- في "ب": السامري.
كانت الدعوة من ابراهيم عليه السلام فيما سبقت في الذرية(1) في إمامته انّه لا ينالها إلاّ ذريّة بعضها من بعض، ولا ينالها إلاّ مصطفى مطهّر، فأردنا أن نتبيّن(2) السنّة من محمد صلّى الله عليه وآله وما جاء به النبيّون صلوات الله عليهم، واختلاف الاُمّة على الوصي كما اختلفت على من مضى من الأوصياء، ومعرفة العترة فيهم.
فإن وجدنا لهذا الرسول وصيّاً قائماً بعده وعنده علم ما يحتاج إليه الناس، ويجيب بجوابات نبيّه، ويخبر عن أسباب البلايا والمنايا وفصل الخطاب والأنساب، وما يهبط من العلم ليلة القدر في كلّ سنة، وما تنزل به الملائكة والروح إلى الأوصياء صدّقنا بنبوّته، وأجبنا دعوته، واقتدينا بوصيّته، وآمنّا به(3) وبكتابه وما جاءت به الرسل من قبله، وإن يكن غير ذلك رجعنا إلى ديننا، وعلمنا انّ أحمد لم يُبعث.
وقد سألنا هذا الشيخ فلم نجد عنده تصحيح بنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله، وإنّما ادّعوا له وكان جبّاراً غلب على قومه بالقهر وملكهم، ولم يكن عنده أثر النبوّة، ولا ما جاءت به الأنبياء قبله، وانّه مضى وتركهم بهماً يغلب بعضهم بعضاً، وردّهم جاهلية جهلاء مثل ما كانوا يختارون بآرائهم لأنفسهم أيّ دين أحبّوا، وأيّ ملك أرادوا.
فأخرجوا محمداً صلّى الله عليه وآله من سبيل الأنبياء، وجهلوه في رسالته، ودفعوا وصيّته، وزعموا انّ الجاهل يقوم مقام العالم، وفي ذلك هلاك الحرث والنسل، وظهور الفساد في الأرض والبرّ والبحر، وحاشا لله عزوجل أن يبعث نبيّاً إلاّ مطهّراً مسدّداً مصطفى على العالمين، وانّ العالم أمير على الجاهل أبداً إلى يوم
____________
1- زاد في "ج" بعد قوله في الذرية: انّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين وانّ الإمامة لا ينالها....
2- في "ج": يتبيّن لنا.
3- في "ج": اقتدينا بوصيّه واُمنائه.
القيامة.
فسألته عن اسمه فقال الذي إلى جنبه: هذا خليفة رسول الله، فقلت: إنّ هذا الاسم لا نعرفه لأحد بعد النبي إلاّ أن يكون لغة من لغات العرب، فأمّا الخلافة فلا تصلح إلاّ لآدم وداود عليهما السلام، والسنّة فيها للأنبياء والأوصياء، وإنّكم لتعظمون الفرية على الله وعلى رسوله، فانتفى من العلم واعتذر من الاسم وقال: إنّما تراضوا الناس بي فسمّوني خليفة، وفي الاُمّة من هو أعلم منّي، فاكتفينا بما حكم على نفسه وعلى من اختاره، وقدمت مسترشداً وباحثاً عن الحقّ، فإن وضح لي اتّبعته ولم تأخذني في الله عزوجل لومة لائم، فهل عندك أيّها الشاب شفاء لما في صدورنا؟.
قال عليّ عليه السلام: بلى عندي شفاء لصدوركم، وضياء لقلوبكم، وشرح لما أنتم عليه، وبيان لا يختلجكم الشك معه، واخبار من اُموركم، وبرهان لدلالتكم، فأقبل إليّ بوجهك، وفرّغ لي مسامع قلبك، واحضرني ذهنك، وعِ ما أقول لك، انّ الله بمنّه وطوله وفضله ـ له الحمد كثيراً دائماً ـ قد صدق وعده، وأعزّ دينه، ونصر محمداً عبده ورسوله، وهزم الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، تبارك وتعالى.
اختصّ محمداً صلّى الله عليه وآله واصطفاه وهداه وانتجبه لرسالته إلى الناس كافّة برحمته، وإلى الثقلين برأفته، وفرض طاعته على أهل السماء وأهل الأرض، وجعله إماماً لمن قبله من الرسل، وخاتماً لمن بعده من الخلق، وورّثه مواريث الأنبياء، وأعطاه مقاليد الدنيا والآخرة، واتّخذه نبيّاً ورسولا وحبيباً وإماماً، ورفعه إليه فقرّبه عن يمين عرشه بحيث لا يبلغه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل.
فأوحى الله إليه في وحيه: {ما كذب الفؤاد ما رأى}(1) وأنزل علاماته على الأنبياء، وأخذ ميثاقهم: {لتؤمننّ به ولتنصرنّه}(2) ثمّ قال: {ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}(3).
وقال: {يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النور الذي اُنزل معه اُولئك هم المفلحون}(4).
فما مضى صلّى الله عليه وآله حتّى أتمّ الله عزوجل مقامه، وأعطاه وسيلته، ورفع له درجته، فلن يذكر الله عزوجل إلاّ كان معه مقروناً، وفرض دينه، ووصل طاعته بطاعته، فقال: {من يُطع الرسول فقد أطاع الله}(5) وقال: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(6).
فأبلغ عن الله عزوجل رسالته، وأوضح برهان ولايته، وأحكم آياته، وشرع شرائعه وأحكامه، ودلّهم على سبيل نجاتهم، وباب هدايته وحكمته، وكذلك بشّر به النبيّون عليهم السلام قبله، وبشّر به عيسى روح الله وكلمته، إذ يقول في الانجيل: أحمد العربي الاُمّي، صاحب الجمل الأحمر والقضيب.
وأقام لاُمّته وصيّه فيهم، وعيبة علمه، وموضع سرّه، ومحكم آيات كتابه، وتاليه حقّ تلاوته وتأويله، وباب حِطّتِهِ، ووارث كتابه، وخلّفه مع كتاب الله فيهم،
____________
1- النجم: 11.
2- النجم: 11.
3- النجم: 11.
4- الأعراف: 157.
5- النساء: 80.
6- النساء: 80.
وأخذ فيهم الحجّة فقال: قد خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا(1)، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وهما الثقلان كتاب الله الثقل الأكبر، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، سبب بأيديكم وسبب بيد الله عزوجل، وإنّهما لم يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فلا تقدموهم فتمرقوا، ولا تأخذوا عن غيرهم فتعطبوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم.
وأنا وصيّه، والقائم بتأويل كتابه، والعارف بحلاله وحرامه، وبمحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وأمثاله وعبره وتصاريفه، وعندي علم ما تحتاج إليه اُمّته من بعده وكلّ قائم وملتوي، وعندي علم البلايا والمنايا والوصايا والأنساب، وفصل الخطاب، ومولد الإسلام، ومولد الكفر، وصاحب الكرّات، ودولة الدول.
فاسألني عمّا يكون إلى يوم القيامة، وعمّا كان على عهد عيسى عليه السلام منذ بعثه الله تبارك وتعالى، وعن كلّ وصيّ، وكلّ فئة تضلّ مائة وتهدي مائة، وعن سائقها وقائدها وناعقها إلى يوم القيامة، وكلّ آية نزلت في كتاب الله، في ليل نزلت أم نهار، وعن التوراة والانجيل والقرآن العظيم، فإنّه صلّى الله عليه وآله لم يكتمني شيئاً من علمه ولا شيئاً تحتاج إليه الاُمم من أهل التوراة والانجيل، وأصناف الملحدين، وأحوال المخالفين، وأديان المختلفين.
وكان صلّى الله عليه وآله خاتم النبيّين بعدهم، وعليهم فرضت طاعته والايمان به والنصر له(2)، تجدون ذلك مكتوباً في التوراة والانجيل والزبور، وفي الصحف الاُولى صحف ابراهيم وموسى، ولم يكن ليضيّع عهد الله عزوجل في خلقه ويترك الاُمّة تائهين بعده، وكيف يكون ذلك وقد وصفه الله بالرأفة والرحمة والعفو
____________
1- في "ج": لن تضلّوا أبداً.
2- في "ج": النصرة له.
والأمر بالمعروف [والنهي عن المنكر](1) وإقامة القسطاس المستقيم.
وانّ الله عزوجل أوحى إليه كما أوحى الى نوح والنبيّين من بعده، وكما أوحى الى موسى وعيسى عليهما السلام، فصدّق الله، وبلّغ رسالته، وأنا على ذلك من الشاهدين، وقد قال الله تبارك وتعالى: {فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}(2).
وقال: {كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}(3).
وقد صدّقه الله وأعطاه الوسيلة إليه وإلى الله عزوجل فقال: {يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين}(4) فنحن الصادقون، وأنا أخوه في الدنيا والآخرة، والشاهد منه عليهم بعده، وأنا وسيلته بينه وبين اُمّته، وأنا وولدي ورثته، وأنا وهم كسفينة نوح في قومه، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق.
وأنا وهم كباب حطّة في بني اسرائيل، وأنا بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبيّ بعده، وأنا الشاهد منه في الدنيا والآخرة، ورسول الله صلّى الله عليه وآله على بيّنة من ربّه، وتعرض طاعتي ومحبّتي بين أهل الايمان(5) وأهل الكفر وأهل النفاق، فمن أحبّني كان مؤمناً، ومن أبغضني كان كافراً، والله ما كذبت ولا كُذّبت ولاضللت ولا ضلّ بي، وانّي لعلى بيّنة بيّنها ربّي عزوجل لنبيّه محمد صلّى الله عليه وآله فبيّنها لي، فاسألوني عمّا كان وعمّا هو كائن إلى يوم القيامة.
قال: والتفت الجاثليق إلى أصحابه فقال: هذا هو والله الناطق بالعلم
____________
1- أثبتناه من "ج".
2- النساء: 41.
3- الرعد: 43.
4- التوبة: 119.
5- في "ب" و "ج": وفرض... على أهل الايمان.
والقدرة، الفاتق الراتق، ونرجوا [من الله](1) أن يكون قد صادفنا حظّنا، ونور هدايتنا، وهذه والله حجج الأوصياء من الأنبياء على قومهم.
قال: ثمّ التفت إلى عليّ عليه السلام فقال: كيف عدل بك القوم عن قصدهم إيّاك، وادّعوا ما أنت أولى به منهم؟ ألا وقد وقع القول عليهم فضرّوا أنفسهم، وما ضرّ ذلك الأوصياء مع ما أغناهم الله عزوجل به من العلم، واستحقاق مقامات رسله، فأخبرني أيّها العالم الحكيم عنّي وأنت، ما أنت عند الله وما أنا عنده؟.
قال عليّ عليه السلام: أمّا أنا فعند الله عزوجل مؤمن وعند نفسي مؤمن، مستيقن بفضله ورحمته وهدايته ونعمته عليّ، وكذلك أخذ الله جلّ جلاله ميثاقي على الايمان، وهداني لمعرفته، ولا أشك في ذلك ولا أرتاب، لم أزل على ما أخذه الله عليّ من الميثاق، ولم اُبدّل ولم اُغيّر، وذلك بمنّ الله ورحمته وصنعه، أنا في الجنّة لا أشك في ذلك ولا أرتاب، لم أزل على ما أخذ الله عزوجل عليّ من الميثاق، فإنّ الشك شرك لما أعطاني الله من اليقين والبيّنة.
وأمّا أنت فعند الله كافر بجحودك الميثاق والاقرار الذي أخذ الله عليك بعد خروجك من بطن اُمّك، وبلوغك العقل، ومعرفة التمييز للجيّد والردي، والخير والشر، واقرارك بالرسل، وجحودك لما أنزل الله في الانجيل من أخبار النبيّين عليهم السلام ما دمت على هذه الحال كنت في النار لا محالة.
قال: فأخبرني عن مكاني من النار ومكانك من الجنّة، فقال علي عليه السلام: فلم أدخلها فأعرف مكاني من الجنّة ومكانك من النار، ولكن أعرف(2)ذلك من كتاب الله عزوجل، انّ الله جلّ جلاله بعث محمداً صلّى الله عليه وآله بالحق، وأنزل عليه كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من
____________
1- أثبتناه من "ب" و "ج".
2- في "ب": أعرفك.
حكيم حميد، أحكم فيه جميع علمه.
وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله عن الجنّة بدرجاتها ومنازلها، وقسّم الله جلّ جلاله الجنان بين خلقه لكلّ عامل منهم ثواباً منها، وأحلّهم على قدر فضائلهم في الأعمال والايمان، فصدّقنا الله وعرفنا منازل الأبرار، وكذلك منازل الفجّار وما أعدّ لهم من العذاب في النار وقال: {لها سبعة أبواب لكلّ باب منهم جزء مقسوم}(1) فمن مات على كفره وفسوقه وشركه ونفاقه وظلمه فلكلّ باب منهم جزء مقسوم، وقد قال عزوجل: {إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين}(2) وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله هو المتوسّم، وأنا والأئمة من ذرّيتي المتوسّمون إلى يوم القيامة.
قال: فالتفت الجاثليق إلى أصحابه وقال: قد أصبتم إرادتكم وأرجو أن تظفروا بالحقّ الذي طلبنا، إلاّ انّه(3) قد نصبت له مسائل فإن أجابنا عنها نظرنا في أمرنا وقبلت منه.
قال عليّ عليه السلام: فإن أجبتك عمّا سألتني عنه ـ وفيه تبيان وبرهان واضح لا تجد له مدفعاً، ولا من قبوله بدّاً ـ أن تدخل في ديننا؟ قال: نعم، فقال عليّ عليه السلام: الله عليك راع كفيل إذا أوضح لك الحق وعرفت الهدى أن تدخل في ديننا أنت وأصحابك؟ قال الجاثليق: نعم، لك الله عليّ راع كفيل انّي أفعل ذلك.
فقال عليه السلام: فخذ على أصحابك الوفاء، قال: فأخذ عليهم العهد، ثمّ قال عليّ عليه السلام: سل عمّا أحببت، قال: أخبرني عن الله عزوجل أحمل العرش أم العرش يحمله؟
قال عليه السلام: الله حامل العرش، والسماوات والأرض وما فيهما وما
____________
1- الحجر: 44.
2- الحجر: 75.
3- في "ج": إلاّ انّي.
بينهما، وذلك قول الله عزوجل: {انّ الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده انّه كان حليماً غفوراً}(1)، قال: فأخبرني عن قوله عزوجل: {ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية}(2) فكيف ذلك وقلت انّه يحمل العرش والسماوات والأرض؟.
قال عليّ عليه السلام: انّ العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة: نور أحمر احمرّت منه الحمرة، ونور أخضر اخضرّت منه الخضرة، ونور أصفر اصفرّت منه الصفرة، ونور أبيض ابيضّ منه البياض، وهو العلم الذي حمله الله الحملة، وذلك نور من عظمته، فبعظمته ونوره ابيضّت قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه.
إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة، والأديان المنشئة(3)، وكلّ محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وكلّ شيء محمل والله عزوجل الممسك لها أن تزولا، والمحيط بها وبما فيها من شيء، وهو حياة كلّ شيء، ونور كلّ شيء، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
قال: فأخبرني عن الله عزوجل أين هو؟ قال عليه السلام: هو هاهنا وهاهنا، وهاهنا وهاهنا، وهو فوق وتحت ومحيط بنا ومعنا، وهو قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا
____________
1- فاطر: 41.
2- الحاقة: 17.
3- في "ب" و "ج": المتشتّتة.
أكثر إلاّ هو معهم أين ما كانوا ثمّ ينبئهم بما عملوا يوم القيامة}(1) والكرسي محيط بالسماوات والأرض، ولا يؤده حفظهما وهو العليّ العظيم.
فالذين يحملون العرش هم العلماء، هم الذين حملهم الله علمه، وليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلق الله(2) عزوجل في ملكوته، وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه، وأراه الله عزوجل خليله عليه السلام، قال: {وكذلك نُري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} فكيف يحمل العرش الله وبحياته حييت قلوبهم، وبنوره اهتدوا إلى معرفته [وانقادوا](3)؟
قال: فالتفت الجاثليق إلى أصحابه فقال: هذا والله الحقّ من عند الله عزوجل على لسان المسيح والنبيّين والأوصياء عليهم السلام، قال: أخبرني عن الجنّة، في الدنيا هي أم في الآخرة؟ وأين الآخرة والدنيا؟.
قال عليه السلام: الدنيا في الآخرة، والآخرة محيطة بالدنيا، إذا كانت النقلة عن الحياة إلى الموت ظاهرة، وكانت الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، وذلك أنّ الدنيا نقلة والآخرة حياة، ومقام مثل ذلك النائم، وذلك انّ الجسم ينام والروح لا تنام، والبدن يموت والروح لا تموت، قال الله عزوجل: {وانّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}(4).
والدنيا رسم الآخرة، والآخرة رسم الدنيا، وليس الدنيا الآخرة ولا الآخرة الدنيا، إذا فارق الروح الجسم يرجع كلّ واحد منهما إلى ما منه بدأ وما منه خلق، وكذلك الجنّة والنار في الدنيا موجودة وفي الآخرة موجودة، لأنّ العبد إذا مات صار في دار من الأرض، أمّا روحة في روضة من رياض الجنّة، وأمّا بقعة من بقاع
____________
1- المجادلة: 7; وزاد في "ج": انّ الله بكلّ شيء عليم. وهو تمام الآية.
2- في البحار: خلقه الله عزوجل.
3- أثبتناه من البحار.
4- العنكبوت: 64.
النار، وروحه إلى أحد دارين: امّا في دار نعيم مقيم لا موت فيها، وامّا في دار عذاب أليم لا موت فيها، والرسم لمن عقل موجود واضح، وقد قال الله عزوجل: {كلاّ لو تعلمون علم اليقين * لترونّ الجحيم * ثمّ لترونّها عين اليقين * ثمّ لتسألنّ يومئذ عن النعيم}(1)، وعنى الكفّار فقال: {كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً}(2) ولو علم الإنسان علم ما هو فيه مات حيّاً(3) ما من الموت، ومن نجا فبفضل اليقين.
قال: فأخبرني عن قوله عزوجل: {وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون}(4) فإذا طويت السماء وقبضت الأرض فأين تكون الجنّة والنار، وهما فيهما؟.
قال: فدعا بدواة وقرطاس ثمّ كتب فيه الجنّة والنار، ثمّ درج القرطاس ودفعه إلى النصراني وقال له: أليس قد طويت هذا القرطاس؟ قال: نعم، قال: فافتحه، قال: ففتحه، قال: هل ترى آية النار وآية الجنّة أمحاهما [طيّ](5)القرطاس؟ قال: لا، قال: فهكذا في قدرة الله تعالى إذا طويت السماوات وقبضت الأرض لم تبطل الجنّة والنار كما لا يبطل طيّ هذا الكتاب آية الجنّة وآية النار.
قال: فأخبرني عن قول الله عزوجل: {كلّ شيء هالك إلاّ وجهه}(6) ما هذا الوجه؟ وكيف هو؟ وأين يؤتى(7)؟ وما دليلنا عليه؟ قال عليّ عليه السلام: يا غلام عليّ بحطب ونار، فأتى بحطب ونار، فأمر أن تُضرم، فلمّا استوقدت واشتعلت قال
____________
1- الكهف: 101.
2- الكهف: 101.
3- في "ج": خوفاً.
4- الزمر: 67.
5- أثبتناه من "ج" والبحار.
6- القصص: 88.
7- في "ب": وأين هو.
له: يا نصراني هل تجد لهذه النار وجهاً دون وجه؟ قال: لا [بل](1) حيثما أتيتها(2)فهو وجه.
قال عليه السلام: فإذا كانت هذه النار المخلوقة المدبرة في صنعها(3) وسرعة زوالها لا تجد لها وجهاً، فكيف من خلق هذه النار وجميع ما في ملكوته من شيء أجابه؟ كيف يوصف بوجه، أو بحدّ يُحدّ، أو يُدرك ببصر، أو يُحيط به عقل، أو يضبطه وهم، وقال الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(4)؟!.
قال الجاثليق: صدقت أيّها الوصيّ العليم الحكيم الرفيق الهادي، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالحقّ بشيراً ونذيراً، وانّك وصيّه وصديقه ودليله، وموضع سرّه، وأمينه على أهل بيته، ووليّ المؤمنين من بعده، من أحبّك وتولاّك هديته ونوّرت عينه وقلبه، وأعنته وكفيته وشفيته، ومن تولّى عنك، وعدل عن سبيلك غبن عن حظّه، واتّبع هواه بغير هدى من الله ورسوله، وكفى هداك ونورك هادياً وكافياً وشافياً.
قال: ثمّ التفت إلى القوم فقال: يا هؤلاء قد أصبتم اُمنيتكم وأخطأتم سنّة نبيّكم، فاتّبعوه تهتدوا وترشدوا، فما دعاكم إلى ما فعلتم؟ ما أعرف لكم عذراً بعد آيات الله والحجّة عليكم، أشهد انّها سنّة في الذين خلوا من قبلكم ولا تبديل لكلمات الله، وقد قضى عزوجل الاختلاف على الاُمم والاستبدال بأوصيائهم بعد أنبيائهم، وما العجب إلاّ منكم بعدما شاهدتم، فما هذه القلوب القاسية، والحسد الظاهر، والضغن والافك المبين؟!.
قال: وأسلم النصراني ومن معه، وشهدوا لعليّ عليه السلام بالوصيّة، ولمحمّد
____________
1- أثبتناه من "ج".
2- في "ج": لقيتها.
3- في "ب" و "ج": ضعفها.
4- الشورى: 11.
صلّى الله عليه وآله بالحق والمروة(1)، وانّه الموصوف المنعوت في التوراة والانجيل، ثمّ خرجوا منصرفين إلى ملكهم ليردّدوا إليه(2) ما عاينوا وما سمعوا.
فقال عليّ عليه السلام: الحمد لله الذي أوضح برهان محمد صلّى الله عليه وآله، وأعزّ دينه ونصره، وصدّق رسوله وأظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون، والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله.
قال: فتباشر القوم بحجج عليّ عليه السلام وبيان ما أخرجه إليهم وانكشفت(3) عنهم الذلة، وقالوا: أحسن الله جزاك(4) يا أبا الحسن في مقامك بحقّ نبيّك، ثمّ تفرّقوا وكأنّ الحاضرين لم يسمعوا شيئاً ممّا فهمه القوم الذين هم عندهم أبداً، وقد نسوا ما ذكّروا به، والحمد لله ربّ العالمين.
قال سلمان الخير: فلمّا خرجوا من المسجد وتفرّق الناس وأرادوا الرحيل أتوا عليّاً عليه السلام مسلّمين عليه، ويدعون الله له(5)، واستأذنوا فخرج إليهم عليّ عليه السلام فجلسوا، فقال الجاثليق: يا وصيّ محمد وأبا ذرّيته ما نرى الاُمّة إلاّ هالكة كهلاك من مضى من بني اسرائيل من قوم موسى، وتَرْكهم هارون وعكوفهم على أمر السامري، وإنّا وجدنا لكلّ نبيّ بعثه الله عدوّاً شياطين الانس والجن يفسدان على النبي دينه، ويهلكان اُمّته، ويدفعان وصيّه، ويدعيان الأمر بعده(6).
وقد أرانا الله عزوجل ما وعد الصادقين من المعرفة بهلاك هؤلاء القوم،
____________
1- في البحار: النبوّة.
2- في البحار: ليردّوا عليه.
3- في "ج": كشف.
4- في "ب": جزاك الله.
5- في "ج": مودّعين له.
6- في "ب": انّ الأمر بعده.
وبيّن سبيلك وسبيلهم، وبصرنا ما أعماهم عنه، ونحن أولياؤك، وعلى دينك، وعلى طاعتك، فمرنا بأمرك إن أحببت أقمنا معك ونصرناك على عدوّك، وإن أمرتنا بالمسير سرنا وإلى ما صرفتنا إليه صرنا، وقد نرى صبرك على ما ارتكب منك، وكذلك سيماء الأوصياء وسنّتهم بعد نبيّهم، فهل عندك من نبيّك صلّى الله عليه وآله فيما أنت فيه وهم؟
قال علي عليه السلام: نعم والله عندي لعهداً من رسول الله صلّى الله عليه وآله ممّا هم صائرون إليه وما هم عاملون، وكيف يُخفي عليّ أمر اُمّته وأنا منه بمنزلة هارون من موسى، ومنزلة شمعون من عيسى؟! أوما تعلمون انّ وصيّ عيسى شمعون بن حمّون الصفا ـ ابن خاله ـ اختلفت عليه اُمّة عيسى عليه السلام، وافترقوا أربع فرق، فافترقت الأربع على اثنين وسبعين فرقة كلّها هالكة إلاّ فرقة، وكذلك اُمّة موسى عليه السلام افترقت على احدى وسبعين فرقة كلّها هالكة إلاّ فرقة.
وقد عهد إليّ محمد صلّى الله عليه وآله انّ اُمّته يفترقون على ثلاث وسبعين فرقة، ثلاث عشرة فرقة تدّعي مودّتنا، كلّها هالكة إلاّ فرقة واحدة، وإنّي لعلى بيّنة من ربّي، وإنّي عالم بما يصير القوم له، ولهم مدّة وأجل معدود لأنّ الله عزوجل يقول: {وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين}(1).
وقد صبر(2) عليهم القليل لما هو بالغ أمره وقدره المحتوم فيهم، وذكر نفاقهم وحسدهم انّه سيخرج أضغانهم، ويبيّن مرض قلوبهم بعد فراق نبيّهم صلّى الله عليه وآله، قال تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تُنبئهم بما في قلوبهم
____________
1- الأنبياء: 111.
2- في "ج": صبرت.
قل استهزءوا انّ الله مخرج ما تخدرون} [أي تعلمون](1) {ولئن سألتهم ليقولنّ انّما كنّا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذّب طائفة بأنّهم كانوا مجرمين}(2).
فقد عفا عن القليل من هؤلاء، ووعدني أن يظهرني على أهل الفتنة، ويردّ الأمر إليّ ولو كره المبطلون، وعندكم كتاب من رسول الله صلّى الله عليه وآله في المصالحة والمهادنة على أن لا تحدثوا ولا تأووا محدثاً، فلكم الوفاء بما وفيتم، ولكم العهد والذمّة ما أقمتم على الوفاء بعهدكم، وعلينا مثل ذلك لكم.
وليس هذا أوان نصرنا، ولا يسلّ سيف، ولا يقام عليهم بحق ما لم يقبلوا أو يعطوني طاعتهم إذ كنت فريضة من الله عزوجل ومن رسوله صلّى الله عليه وآله، مثل الحج والزكاة والصلاة والصيام، فهل يقام بهذه الحدود إلاّ بعالم قائم يهدي إلى الحق وهو أحقّ أن يتّبع، ولقد أنزل الله سبحانه: {قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتّبع أمّن لا يهدي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون}(3).
فأنا ـ رحمك الله ـ فريضة من الله ومن رسوله عليكم، بل أفضل الفرائض وأعلاها وأجمعها للحق وأحكمها لدعائم الايمان وشرائع الإسلام، وما يحتاج إليه الخلق لصلاحهم ولفسادهم ولأمر دنياهم وآخرتهم، فقد تولّوا عنّي ودفعوا فضلي، وفَرَضَ رسول الله صلّى الله عليه وآله إمامتي وسلوك سبيلي، فقد رأيتم ما شملهم من الذل والصغار من بعض الحجة.
وكيف أثبت الله عزوجل عليهم الحجة وقد نسوا ما ذكّروا به من عهد نبيّهم، وما أكّد عليهم من طاعتي، وأخبرهم من مقامي، وبلغهم من رسالة الله عزوجل في
____________
1- أثبتناه من "ب".
2- التوبة: 64 و66.
3- يونس: 35.
فقرهم إلى علمي، وغنائي عنهم وعن جميع الاُمّة ممّا أعطاني الله عزوجل، فكيف آسى على من صدّ(1) عن الحق بعدما تبيّن له، واتّخذ إلهه هواه، وأضلّه الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله.
انّ هداه للهدى، وهما السبيلان: سبيل الجنّة وسبيل النار والدنيا والآخرة، فقد ترى ما نزل بالقوم من استحقاق العذاب الذي عذّب به من كان قبلهم من الاُمم، وكيف بدّلوا كلام الله، وكيف جرت السنّة من الذين خلوا من قبلهم، فعليكم بالتمسّك بحبل الله وعروته، وكونوا حزب الله(2) ورسوله، وألزموا عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وميثاقه عليكم، فإنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً.
وكونوا في أهل ملّتكم كأصحاب الكهف، وإيّاكم أن تفشوا أمركم إلى أهل أو ولد أو حميم أو قريب، فإنّه دين الله عزوجل الذي أوجب له التقيّة ولأوليائه فيقتلكم قومكم، وإن أصبتم من الملك فرصة ألقيتم على قدر ما ترون من قبوله، وانّه باب الله وحصن الايمان لا يدخله إلاّ من أخذ الله ميثاقه، ونوّر له في قلبه(3)، وأعانه على نفسه، انصرفوا إلى بلادكم على عهدكم الذي عاهدتموني عليه، فإنّه سيأتي على الناس برهة من دهرهم ملوك بعدي وبعد هؤلاء يغيّرون دين الله عزوجل، ويحرّفون كلامه، ويقتلون أولياء الله، ويعزّون أعداء الله.
وتكثر البدع، وتدرس السنن حتّى تملأ الأرض جوراً وعدواناً وبدعاً، ثمّ يكشف الله بنا أهل البيت جميع البلاء عن أهل دعوة الله بعد شدّة من البلاء العظيم حتّى تملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً.
ألا وقد عهد إليّ رسول الله صلّى الله عليه وآله انّ الأمر صائر إليّ بعد الثلاثين من وفاته وظهور الفتن، واختلاف الاُمّة عليّ، ومروقهم من دين الله
____________
1- في "ب": ضلّ.
2- في "ب": من حزب الله.
3- في "الف": في قبره.
عزوجل، وأمرني بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين، فمن أدرك منكم ذلك الزمان وتلك الاُمور وأراد أن يأخذ بحظّه من الجهاد معي فليفعل، فإنّه والله الجهاد الصافي، صفّاه لنا كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله، فكونوا رحمكم الله من أجلاس(1) بيوتكم إلى أوان ظهور أمرنا، فمن مات منكم كان من المظلومين، ومن عاش منكم أدرك ما تقرّ به عينه إن شاء الله تعالى.
ألا وإنّي اُخبركم انّه سيحملون على خطّة [من](2) جهلهم، وينقضون علينا عهد نبيّنا صلّى الله عليه وآله لقلّة علمهم بما يأتون ويذرون، وسيكون منهم ملوك يدرس عندهم العهد، وينسوا ما ذكّروا به، ويحلّ بهم ما يحلّ بالاُمم حتّى يصيروا إلى الهرج والاعتداء وفساد العهد(3)، وذلك لطول المدّة وشدّة المحنة التي اُمرت بالصبر عليها، وسلّمت لأمر الله في محنة عظيمة يكدح فيها المؤمن حتّى يلقى الله ربّه.
واهاً للمتمسّكين بالثقلين وما يعمل بهم، وواهاً لفرج آل محمد صلّى الله عليه وآله من خليفة مستخلف عريف مترف(4) يقتل خلفي وخلف الخلف، بلى اللّهمّ لا تخلو الأرض من قائم بحجّة امّا ظاهراً مشهوراً أو باطناً مستوراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته، ويكون نحلة لمن اتّبعه واقتدى به.
وأين اُولئك؟ وكم اُولئك؟ اُولئك الأقلّون عدداً، الأعظمون عند الله خطراً، بهم يحفظ الله دينه وعلمه حتّى يزرعها في صدور أشباههم ويودعها أمثالهم، هجم بهم العلم على حقيقة الايمان، واستروحوا روح اليقين، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، واستلانوا ما استوعر منه المترفون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها
____________
1- في البحار: أحلاس.
2- أثبتناه من "ج".
3- في "ب": العهود.
4- في البحار: عتريف.
معلّقة بالمحلّ الأعلى، اُولئك حجج الله في أرضه واُمناؤه على خلقه، هاه شوقاً إليهم(1) وإلى رؤيتهم، وواهاً على صبرهم على عدوّهم، وسيجمعنا الله وإيّاهم في جنّات عدن ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم.
ثمّ قال: ثمّ بكى وبكى القوم معه، ثمّ ودّعوه وقالوا: نشهد لك بالوصيّة والإمامة والاخوّة وانّ عندنا لصفتك وصورتك، وسيقدم وفد بعد هذا الرجل من قريش على الملك، ولنخرجنّ إليهم صورة الأنبياء، وصورة نبيّك وصورتك، وصورة ابنيك الحسن والحسين، وصورة فاطمة زوجتك سيّدة نساء العالمين بعد مريم الكبرى البتول، وانّ ذلك لمأثور عندنا ومحفوظ، ونحن راجعون إلى الملك ومخبروه بما أودعتنا من نور هدايتك وبرهانك وكرامتك وصبرك على ما أنت فيه، ونحن المرابطون لدولتك، الراعون(2) لك ولأمرك، فما أعظم هذا البلاء، وما أطول هذه المدّة، ونسأل الله التوفيق والثبات، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(3).
>>>>>>
|