[في خبر الحارث الهمداني]
وروى الشيخ المفيد عن الأصبغ بن نباتة قال: دخل الحارث الهمداني على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في نفر من الشيعة وكنت فيهم، فجعل ـ يعني الحارث ـ يتأوّد في مشيته ويخطّ الأرض بمحجنه(2) وكان مريضاً، فأقبل على أمير المؤمنين عليه السلام وكان له منه منزلة، فقال: كيف تجدك يا حارث؟
فقال: نال الدهر منّي يا أمير المؤمنين، وزادني أواراً(3) وغليلا اختصام شيعتك ببابك، فقال: وفيم خصومتهم؟ قال: في شأنك والبليّة من قبلك، فمن مفرط غال ومقتصد قال، ومن متردّد مرتاب لا يدري يقدم أم يحجم.
قال: فحسبك يا أخا همدان، ألا انّ خير شيعتي النمط الأوسط، إليهم يرجع الغالي وبهم يلحق القالي، قال: لو كشفت فداك أبي واُمّي الريب عن قلوبنا، وجعلتنا في ذلك على بصيرة من أمرنا، قال: أفانّك(4) أمر ملبوس عليك؟ انّ دين الله لا يُعرف بالرجال بل بآية الحق، فاعرف الحقّ تعرف أهله.
____________
1- أمالي الصدوق: 99 ح2 مجلس 24.
2- المحجن كالصولجان.
3- الأوارُ ـ بالضم ـ: شدّة حرّ الشمس، ولفح النار، ووهجها، والعطش. (لسان العرب)
4- في "ج": فإنّه.
يا حارث انّ الحق أحسن الحديث، والصادع به مجاهد، وبالحقّ اُخبرك فأعرني سمعك، ثمّ خبّرته(1) من كان له حظاة من أصحابك.
ألا إنّي عبد الله وأخو رسوله وصدّيقه الأوّل، صدّقته وآدم بين الروح والجسد، ثمّ صدقّته [في اُمّتكم](2) حقّاً، فنحن الأوّلون ونحن الآخرون، ألا وأنا خاصّته باختصاصه يا حارث، وخالصته محمد نبيّه، وأنا وصيّه ووليّه وصاحب نجواه وسرّه، اُوتيت فهم الكتاب وفصل الخطاب وعلم القرون والأسباب(3)، استودعت ألف مفتاح يفتح كلّ مفتاح ألف باب، يقضي كلّ باب ألف ألف عهد.
واُيّدت ـ أو قال: واُمددت ـ بثلاثة، وإنّ ذلك ليجري لي ولمن استحفظ من ذرّيتي ما جرى الليل والنهار حتّى يرث الله الأرض ومن عليها، وابشرك يا حارث ليعرفني والذي فلق الحبّة وبرئ النسمة وليّي وعدوّي في مواطن: ليعرفني عند الممات، وعند الصراط، وعند المقاسمة، قال: وما المقاسمة يا مولاي؟ قال: مقاسمة النار، اُقاسمها قسمة صحاحاً، أقول: هذا وليّي وهذا عدوّي.
ثمّ أخذ أمير المؤمنين عليه السلام بيد الحارث ثمّ قال: يا حارث أخذت بيدك كما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله بيدي فقال لي ـ واشتكيْت إليه حينئذ قريشاً والمنافقين ـ [فقال لي](4): انّه إذا كان يوم القيامة أخذت بحبل أو بحجزة(5)ـ يعني عصمة ـ من ذي العرش تعالى، وأخَذْتَ أنت يا عليّ بحجزتي، وأخذَ ذرّيتك بحجزتك، وأخذ شيعتكم بحجزتكم، فماذا يصنع الله بنبيّه، ومايصنع نبيّه بوصيّه؟!(6)
____________
1- في "ب" و "ج": خبّر به.
2- أثبتناه من "ج"، وفي "الف" و "ب" كلمة غير مفهومة.
3- في "ب": الأنساب.
4- أثبتناه من "ب" و "ج".
5- في "ج": بحبل الله أو بحجزته.
6- روى المحدث القمي رحمه الله في منتهى الآمال 2: 283 قال: حُكي انّ أبا عبد الله عليه السلام كان عنده غلام يمسك بغلته إذا هو دخل المسجد، فبينا هو جالس ومعه بغلة إذ أقبلت رفقة من خراسان، فقال له رجل من الرفقة: هل لك يا غلام أن تسأله أن يجعلني مكانك وأكون له مملوكاً وأجعل لك مالي كلّه؟ فإنّي كثير المال من جميع الصنوف، إذهب فاقبضه وأنا اُقيم معه مكانك. فقال: أسأله ذلك، فدخل على أبي عبد الله عليه السلام فقال: جعلت فداك تعرف خدمتي وطول صحبتي فإن ساق الله إليّ خيراً تمنعنيه؟
قال: أعطيك من عندي وأمنعك من غيري! فحكى له قول الرجل، فقال: إن زهدت في خدمتنا ورغب الرجل فينا قبلناه وأرسلناك، فلمّا ولّى عنه دعاه فقال له: أنصحك لطول الصحبة ولك الخيار، إذا كان يوم القيامة كان رسول الله صلّى الله عليه وآله متعلّقاً بنور الله، وكان أمير المؤمنين عليه السلام متعلّقاً بنور رسول الله، وكان الأئمة متعلّقين بأمير المؤمنين، وكان شيعتنا متعلّقين بنا يدخلون مدخلنا ويردون موردنا، فقال له الغلام: بل اُقيم في خدمتك واُؤثر الآخرة على الدنيا....
وقال رحمه الله مخاطباً أئمة الهدى ومصابيح الدجى:
عن حماكم كيف أنصرف |
وهواكم لي به شرف |
سيدي لا عشت يوم أرى |
في سوى أبوابكم أقف |
خذها إليك قصيرة من طويلة، أنت مع من أحببت ولك ما احتسبت ـ أو قال: اكتسبت ـ قالها ثلاثاً، ثمّ قام الحارث يجرّ رداءه جذلا وقال: ما اُبالي وربّي بعد هذا متى لقيت الموت أو لقيني(1).
>>>>>>
|