الباب الثامن والثلاثون في مدح الموقنين
قال الله تعالى: {والذين يؤمنون بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}(1).
فمدح الموقنين بالاخرة يعني المطمئنّين بما وعد الله فيها من ثواب وتوعد من عقاب، كأنّهم قد شاهدوا ذلك، كما روي انّ سعد بن معاذ دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال صلى الله عليه وآله: كيف أصبحت يا سعد؟ فقال: بخير يا رسول الله، أصبحت بالله مؤمناً موقناً، فقال: يا سعد انّ لكل قول حقيقة، فما مصداق ما تقول؟
فقال: يا رسول الله ما أصبحت فظننت انّي اُمسي، ولا أمسيت فظننت أنْ اُصبح، ولا مددت خطوة فظننت انّي اُتبعها باُخرى، وكأنّي بكل امة جاثية، وكل امة معها كتابها ونبيّها وامامها تدعى إلى حسابها، وكأنّي بأهل الجنة وهم يتنعّمون، وبأهل النار وهم يعذّبون، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا سعد عرفت
____________
1- البقرة: 4.
فالزم.
فلما صح يقينه كالمشاهدة أمره باللزوم، واليقين هو مطالعة أحوال الآخرة على سبيل المشاهدة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً. فدل على انّه مشاهد(1) الآخرة مع الغيب عنها.
وقال عليه السلام: ما منكم إلاّ ومن قد عاين الجنة والنار ان كنتم تصدقون بالقرآن. وصدق عليه السلام لأنّ اليقين بالقرآن يقين بكل ما تضمّنه من وعد ووعيد، وهو أيضاً في قلب العارف كالعلم البديهي الذي لا يندفع، ولأجل هذا منعنا من انّ المؤمن يكفر بعد المعرفة.
فإن عارض أحد بقوله تعالى: {انّ الذين آمنوا ثم كفروا}(2) قلنا: آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}(3)، فالاسلام نطق باللسان، والايمان نطق باللسان واعتقاد بالقلب، فلما علم سبحانه انّه لم يعتقدوا ما نطقوا به حقاً نفى عنهم انّهم مؤمنون.
فأوّل مقامات الايمان المعرفة ثم اليقين ثم التصديق ثم الاخلاص ثم الشهادة بذلك كلّه، والايمان اسم لهذه الاُمور كلّها، فأوّلها النظر بالفكر في الأدلّة ونتيجته المعرفة، فإذا حصلت لزم التصديق، وإذا حصل التصديق والمعرفة أنتجا اليقين، فإذا صحّ اليقين جالت أنوار السعادة في القلب بتصديق ما وعد به من رزق في الدنيا وثواب في الآخرة، وخشعت الجوارح من مخافة ما توعد من العقاب، وقامت بالعمل والزجر عن المحارم.
وحاسب العقل النفس على التقصير في الذكر والتنبيه على الفكر، فأصبح صاحب هذه الحال نطقه ذكراً، وصمته فكراً، ونظره اعتباراً، واليقين يدعو إلى قصر
____________
1- في "ج": يشاهد.
2- النساء: 137.
3- النساء: 137.
الأمل، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد، والزهد ينتج النطق بالحكمة لخلوّ البال من هموم الدنيا، لقوله عليه السلام: من زهد في الدنيا استراح قلبه وبدنه، ومن رغب فيها تعب قلبه وبدنه. فلا يبقى له نظر إلاّ إلى الله ولا رجوع إلاّ إليه، كما مدح الله سبحانه ابراهيم عليه السلام بقوله: {انّ ابراهيم لحليم أوّاه منيب}(1).
وعلى قدر يقين العبد يكون اخلاصه وتقواه، وهذه الأحوال الصحيحة توجب لصاحبها حالاً لا يراها بين اليقظة والنوم، ويحصل باليقين ارتفاع معارضات الوساوس النفسانية لأنّه رؤية العيان بحقائق الايمان.
وهو أيضاً ارتفاع الريب بمشاهدة الغيب، وهو سكون النفس دون جولان الموارد، ومتى استكمل القلب حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة، والرخاء مصيبة حتّى انّه يستعذب البلاء، ويستوحش لمطالعة العافية.
____________
1- هود: 75.
|