الحادي عشر: استنكار الاَمثال القرآنية
يظهر من بعض الآيات أنّ بعض المخاطبين بالاَمثال كانوا يستنكرونها ويستغربون منها، و ما ذلك إلا لاَنّ المثل كان يكشف عن نواياهم ويبيّـن واقع عقيدتهم، ويسفّه أحلامهم، فيبعث فيهم القلق والاضطراب، ذلك عندما يجمع سبحانه في أمثاله تارة بين الذباب و العنكبوت والبعوضة ـ كما مرّ ـ وأُخرى بين الكلب والحمار : كقوله سبحانه: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْب إنْ تَحْمِل عَلَيهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ). (2) (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوراة ثمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً).(3) وقد نقل سبحانه استنكارهم، وقال: (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوقَها فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ وَأَمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثيراً وَيَهْدي بِهِ كَثيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلا ____________ 1 ـ البقرة:264. 2 ـ الاَعراف:176. 3 ـ الجمعة:5.
( 43 )الفاسِقين ). (1) قال الزمخشري: والتمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعاني، وإدناء المتوهّم من الشاهد، فإن كان المتمثَّل له عظيماً كان المتمثّل به مثله، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك. (2) وربما سرت تلك الشبهة إلى عصرنا الحاضر، فقد استغرب بعضهم من ضرب المثل بالحشرات والاَُمور الحقيرة الضئيلة، ولكنّه غفل عن أنّ العبرة في ضرب الاَمثال ليس بأدواتها وآلاتها، وإنّما بمكنوناتها وغاياتها،وما يدرينا بسرّ الاِعجاز في التركيب الجثماني للبعوضة، مثلاً، وما فيه من إبداع وتحدٍّ وإعداد، ولعل فيه من الاِنجاز الخلقي ما لا نشاهده بأكثر الاَجسام ضخامة وكبراً، على أن المبدع لها جميعاً هو الله وكفى، "والله رب الصغير والكبير وخالق البعوضة والفيل، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل، إنّها معجزة الحياة، معجرة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله على أنّ العبرة في المثل ليست في الحجم، إنّما الاَمثال أدوات للتنوير والتبصير، وليس في ضرب الاَمثال ما يعاب، وما من شأنه الاستحياء من ذكره. والله ـ جلّت حكمته ـ يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس". (3)
|