متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الباب الرابع عشر: في المبادرة بالعمل
الكتاب : إرشاد القلوب ج1    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

الباب الرابع عشر
في المبادرة بالعمل


يقول مصنف هذا الكتاب رحمه الله: انتبه أيّها الإنسان من رقدتك، وافق من سكرتك، واعمل وأنت في مهل قبل حلول الأجل، وجد بما(1) في يديك لما بين يديك(2)، فإنّ أمامك عقبةً كؤداً لا يقطعها الاّ المخفّون، فأحسن الإستعداد لها من دار تدخلها عرياناً وتخرج منها عرياناً، كما قال تعالى:

{ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّة وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم}(3).

وقال النبي صلى الله عليه وآله: اعملوا في الصحّة قبل السقم، وفي الشباب قبل الهرم، وفي الفراغ قبل الشغل، وفى الحياة قبل الموت، وقد نزل جبرئيل عليه السلام اليّ وقال لي: يا محمد ربّك يقرئك السلام ويقول لك: "كل ساعة تذكرني

____________

1- في "ب": وخذ مما.

2- في "ج": بعد موتك.

3- الأنعام: 94.


الصفحة 114
فيها فهي لك عندي مدّخرة، وكل ساعة لا تذكرني فيها فهي منك ضائعة".

وأوحى الله إلى داود: [ياداود](1) كل ساعة لا تذكرني فيها عدمتها من ساعة.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ان امرء ضيّع من عمره ساعة في غير ما خلق له لجدير أن يطول عليها حسرته يوم القيامة(2).

[(3)وقد روي انّ شاباً ورث من أبيه مالاً جزيلاً، فجعل يخرجه في سبيل الله، فشكت اُمّه ذلك إلى صديق كان لأبيه وقالت: انّي أخاف عليه الفقر، فأمره ذلك الصديق أن يستبقي لنفسه من الأموال.

فقال له الشاب: ما تقول في رجل ساكن في ربط البلد، وقد عزم على أن يتحوّل إلى داخل المدينة، فجعل يبعث غلمانه برحله ومتاعه إلى داره بالمدينة، فذلك خير أم من كان يرحل بنفسه ويترك متاعه خلفه لا يدري يُبعث به إليه أو لا؟ فعرف الصديق انّه صادق في مثاله، فأمره بإنفاقه في الصدقات.

فعليك يا أخي بدوام الصدقات، فدوامها من دليل سعادات الدنيا والآخرة، ولا تحقرنّ قليلها فذلك القليل ينتظم إلى قليل مثله فيصير كثيراً.

وبادر بإخراج الزكاة إذا وجبت من المال أو كانت تطوّعاً، فإنّ الصدقة لا تخرج من يد المؤمن حتّى يفك بها سبعين شيطاناً، كلّهم [قد عضّ على قلب ابن آدم](4) ينهونه عن اخراجها، ولا تستكثر يا أخي ما تعطيه في الصدقة، وطاعة الله إذا استكثرها المؤمن صغرت عند الله، وإذا صغرت عند المؤمن كبرت عند الله.

وفي خبر انّ موسى عليه السلام قال لإبليس: أخبرني بالذنب الذي إذا

____________

1- أثبتناه من "ب" و"ج".

2- عنه معالم الزلفى: 245.

3- من هنا إلى ص 126 لم يرد في "الف" و"ب"، بل أثبتناه من "ج" و"د".

4- أثبتناه من "د".


الصفحة 115
عمله ابن آدم استحوذت عليه، فقال ابليس: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله وصدقته، ونسي ذنوبه، استحوذت عليه(1).

وايّاك ثم ايّاك أن تنهر سائلاً أو تردّه خائباً ولو بشق تمرة، وان ألحّ في السؤال لا تسأم بل ردّه ردّاً جميلاً إذا لم يكن عندك شيء تعطيه، فانّه أبقى لنعمة الله عليك، فانّه ربّما كان السائل ملكاً بعثه الله إليك في صورة بشر، يختبرك به ليرى كيف تصنع بما رزقك وأعطاك. ففي الحديث انّ الله تعالى لمّا ناجى موسى قال: يا موسى أنل السائل ولو باليسير والاّ فردّه ردّاً جميلاً، فانّه يأتيك من ليس بإنس ولا جان، بل ملك من ملائكة الرحمان يسألونك عمّا خوّلك، ويختبرونك فيما رزقك.

وروي انّ بعض العلماء كان جالساً في المسجد وحوله أصحابه، فدخل مسكين فسأل شيئاً فقال لهم العالم: أتدرون ما يقول لكم هذا المسكين؟ يقول: أعطوني أحمله لكم إلى دار الآخرة يكون لكم ذخيرة، تقدمون عليه غداً في عرصة المحشر.

فيا أخي يجب عليك أن تبعث معهم شيئاً جزيلاً من مالك إلى دار البقاء، ليكون ثوابك غداً الجنّة في دار النعيم الباقي الدائم.

ولله درّ القائل حيث يقول:


يا صاح انّك راحل فتزوّد فعساك في ذا اليوم ترحل أو غد
لا تغفلنّ فالموت ليس بغافل(2) هيهات بل هو للأنام بمرصد
فليأتينّ منه عليك بساعة فتود انّك قبلها لم تولد
ولتخرجنّ إلى القبور مجرّداً ممّا شقيت(3) بجمعه صفر اليد

____________

1- البحار 13: 350 ح39; عن قصص الأنبياء.

2- في "د": الموت يأتيك بغتة.

3- في "د": سعيت.


الصفحة 116
قال الخليل بن أحمد لصديق له من الأغنياء: انّما تجمع مالك لأجل ثلاثة أنفس كلّهم أعداؤك، اما زوج امرأتك بعدك، واما زوج ابنتك، أو ولدك، وكل يتمنّى موتك ويستطيل عمرك، فان كنت عاقلاً ناصحاً لنفسك فخذ مالك معك زاداً لآخرتك، ولا تؤثر أحد هؤلاء على نفسك.

ولقد أجاد الشاعر حيث قال:


تورّع ما حرّم الله وامتثل أوامره وانظر غداً ما أنت عامله
فأنت بذي الدار لا شك تاجر لدار غد فانظر غداً من تعامله

وقال رجل صالح لبعض العلماء: أوصني، قال: اوصيك بشيء واحد، اعلم انّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما.

وهذا القول إذا تدبّره العاقل علم انّه أبلغ العظات، وقيل لعالم: ما أحمد الأشياء وأحلاها في قلب المؤمن؟ قال: شيء واحد وهو ثمرة العمل الصالح، قيل له: فما نهاية السرور؟ قال: الأمن من الوجل عند حلول الأجل، ثم تمثّل بهذين البيتين:


ولدتك إذ ولدتك امّك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

وقال رجل للصادق عليه السلام: أوصني، قال له: أعد جهازك، وأكثر من زادك لطول سفرك، وكن وصيّ نفسك، ولا تأمن غيرك أن يبعث إليك بحسناتك إلى قبرك، فانّه لن يبعثها أحد من ولدك إليك(1).


ما أبين الحق لذي عينين انّ الرحيل أحد اليومين
تزوّدوا من صالح الأعمال وتصدّقوا من خالص الأموال

فقد دنى الرحلة والزوال

____________

1- البحار 78: 270 ح111 نحوه.


الصفحة 117

خرجت من الدنيا فقامت قيامتي غداة أقل الحاملون جنازتي
وعجّل أهلي(1) حفر قبري فصيّروا خروجي عنهم من أجل كرامتي

يجب على العاقل أن يحافظ على أوّل أوقات الصلاة، ويسارع إلى فعل الخيرات، فيكثر من أعمال البر والصدقات، فإنّ العمر لحظات، يقال: فلان قد مات، فإذا عاين في قبره الأهوال والحسرات قال: أعيدوني إلى الدنيا لأتصدّق بمالي، فيقال: هيهات.

فاغتنم أيّها اللبيب ما بقي لك من الأوقات، فإنّ بقيّة عمرك لا بقاء لها فاستدرك بها ما فات، واجتهد أن تجعل بصرك لاُخراك، فهو أعود عليك من نظرك إلى دنياك، فإنّ الدنيا فانية والاُخرى باقية، والسعيد من استعد لما بين يديه، وأسلف عملاً صالحاً يقدم عليه قبل نزول المنون، يوم لا ينفع مال ولا بنون.


وبادر شبابك أن يهرما وصحّة جسمك أن يسقما
وأيّام عزّك قبل الممات فما كل من عاش أن يسلما
وقدّم فكل امرء قادم على كل ما كان قد قدما

أقول في جمع المال والبخل به على نفسه وانفاقه في مرضات الله تعالى كما قال تعالى في كتابه: {ولا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة}(2).

وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله قال: يصوّر الله مال أحدكم شجاعاً أقرع، فيطوق في حلقه ويقول: أنا مالك الذي منعتني أن تتصدّق به، ثم ينهشه بأنيابه، فيصيح عند ذلك صياحاً عظيماً.

ثم عليك يا طالب الجنّة ونعيمها بترك حب الدنيا وزينتها، لأنّ الله تعالى قد

____________

1- في "د": عجّلوا.

2- آل عمران: 180.


الصفحة 118
ذمّها في كتابه العزيز فقال: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون}(1)، أي لا ينقصون من المال والجاه، ثم قال تعالى: {اولئك الذين ليس لهم في الآخرة الاّ النار وحبط ما صنعوا فيها}(2)، والإحباط هو ابطال أعمالهم في الدنيا.

وقال الله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنّم يصلاها مذموماً مدحوراً}(3).

وقال تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}(4)، وحرث الآخرة هو العمل للآخرة الذي يستحق به العبد دخول الجنّة، لأنّ الحرث هو زرع الأرض.

وقال بعض الصالحين:


وما الناس الاّ هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدوّ في ثياب صديق

وقال آخر:


كاحلام نوم أو كظل زائل انّ اللبيب بمثلها لا يخدع

وقال النبي صلى الله عليه وآله: انّ أهل الجنّة لا يندمون على شيء من امور الدنيا الاّ على ساعة مرّت بهم في الدنيا لم يذكروا الله تعالى فيها.

وقال صلى الله عليه وآله: ما من يوم يمر الاّ والباري عزوجل ينادي: عبدي ما أنصفتني أذكرك وتنسى ذكري، وأدعوك إلى عبادتي وتذهب إلى غيري، وأرزقك من خزانتي وآمرك لتتصدّق لوجهي فلا تطيعني، وأفتح عليك أبواب

____________

1- هود: 15.

2- هود: 15.

3- الأسراء: 18.

4- الشورى: 20.


الصفحة 119
الرزق واستقرضك من مالي فتجبهني(1)، واذهب عنك البلاء وأنت معتكف على فعل الخطايا، يا ابن آدم! ما يكون جوابك لي غداً إذا جئتني؟.

وقال بعض العلماء: يا أخي! انّ الموتى لم يبكوا من الموت لأنّه محتوم لابد منه، وانّما يبكون من حسرة الفوت، كيف لا يتزوّدون من الأعمال الصالحة التي يستحقون بها الدرجات العلى، بل ارتحلوا من دار لم يتزوّدوا منها، وحلّوا بدار لم يعمروها ولم يتزوّدوا لها، فيقولون حينئذ: يا حسرتا على ما فرّطنا في جنب الله.

وقال صلى الله عليه وآله: ما من ليلة الاّ وملك ينادي: يا أهل القبور بم تغتبطون اليوم وقد عاينتم هول المطلع، فيقول الموتى: انّما نغبط المؤمنون في مساجدهم، لأنّهم يصلّون ولا نصلّي، ويؤتون الزكاة ولا نزكّي، ويصومون شهر رمضان ولا نصوم، ويتصدّقون بما فضل عن عيالهم ونحن لا نتصدّق، [ويذكرون الله كثيراً ونحن لا نذكر، فواحسرتنا على ما فاتنا في دار الدنيا](2).

وقال لقمان لابنه: يا بني! ان كنت تحب الجنّة فإنّ ربّك يحب الطاعة، فاحب ما يحب [ليعطيك ما تحبّ](3)، وان كنت تكره النار فإنّ ربّك يكره المعصية، فاكره ما يكرهه لينجيك مما تكره.

واعلم انّ من وراء الموت ما هو أعظم وأدهى، قال الله تعالى في محكم كتابه: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض الاّ من شاء الله ثم نفخ فيه اُخرى فإذا هم قيام ينظرون}(4).

وقد روت الثقات عن زين العابدين عليه السلام: انّ الصور قرن عظيم له رأس واحد وطرفان، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى

____________

1- في "د": فتبخلني.

2- أثبتناه من "د".

3- أثبتناه من "د".

4- الزمر: 68.


الصفحة 120
الذي يلي السماء مثل ما بين تخوم الأرضين السابعة إلى فوق السماء السابعة. فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق، ووسْع فمه ما بين السماء والأرض، وله في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الموت، ونفخة البعث.

فإذا فنيت أيام الدنيا أمر الله عزّوجل اسرافيل أن ينفخ فيه نفخة الفزع، فإذا رأت الملائكة اسرافيل وقد هبط ومعه الصور قالوا: قد أذن الله في موت أهل السماء والأرض، فيهبط اسرافيل عند بيت المقدس مستقبل الكعبة، فينفخ في الصور نفخة الفزع.

قال الله تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض الاّ من شاء الله وكلّ أتوه داخرين} إلى قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون}(1).

وتزلزلت الأرض وتذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كلّ ذات حمل حملها، ويصير الناس يميدون، ويقع بعضهم على بعض كأنّهم سكارى، وما هم بسكارى ولكن من عظيم ما هم فيه من الفزع، وتبيضّ لحى الشبان من شدّة الفزع.

وتطير الشياطين هاربة إلى أقطار الأرض، ولولا انّ الله تعالى يمسك أرواح الخلائق في أجسادهم لخرجت من هول تلك النفخة، فيمكثون على هذه الهيئة ما شاء الله تعالى، ثم يأمر الله تعالى اسرافيل ان ينفخ في الصور نفخة الصعق، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض، فلا يبقى في الأرض انس ولا جن ولا شيطان ولا غيرهم ممن له روح الاّ صعق ومات.

ويخرج الصوت من الطرف الذي يلى السماء، فلا يبقى في السماوات ذو روح الاّ مات، قال الله تعالى: {الاّ من شاء الله}، وهو جبرئيل وميكائيل واسرافيل

____________

1- النمل: 89 - 87.


الصفحة 121
وعزرائيل فاؤلئك الذين شاء الله، فيقول الله تعالى: يا ملك الموت من بقي من خلقي؟ فقال: يا رب أنت الحي الذي لا يموت، بقي جبرئيل وميكائيل واسرافيل وبقيت أنا.

فيأمر الله بقبض أرواحهم فيقبضها، ثم يقول الله: يا ملك الموت من بقي من خلقي؟ فيقول ملك الموت: يا رب بقي عبدك الضعيف المسكين ملك الموت، فيقول الله له: مت يا ملك الموت باذني، فيموت ملك الموت ويصيح عند خروج روحه صيحة عظيمة لو سمعها بنو آدم قبل موتهم لهلكوا، ويقول ملك الموت: لو كنت أعلم انّ في نزع أرواح بني آدم هذه المرارة والشدّة والغصص لكنت على قبض أرواح المؤمنين شفيقاً.

فإذا لم يبق أحد من خلق الله في السماء والأرض، نادى الجبّار جلّ جلاله: يا دنيا أين الملوك وأبناء الملوك؟ أين الجبابرة وأبناؤهم؟ وأين مَن ملك الدنيا بأقطارها؟ أين الذين كانوا يأكلون رزقي ولا يخرجون من أموالهم حقّي؟، ثم يقول: {لمن الملك اليوم} فلا يجيبه أحد، فيجيب هو عن نفسه فيقول: {لله الواحد القهّار}(1).

ثم يأمر الله السماء فتمور أي تدور بأفلاكها ونجومها كالرحى، ويأمر الجبال فتسير كما تسير السحاب، ثم تبدل الأرض بأرض اُخرى لم يكتسب عليها الذنوب ولا سفك عليها دم، بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرّة، وكذا تبدل السماوات كما قال الله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهّار}(2).

ويعيد عرشه على الماء، كما كان قبل خلق السماوات والأرض، مستقلاً بعظمته وقدرته، ثم يأمر الله السماء ان تمطر على الأرض [أربعين يوماً](3) حتّى يكون

____________

1- غافر: 16.

2- ابراهيم: 48.

3- أثبتناه من "د".


الصفحة 122
الماء فوق كل شيء اثنى عشر ذراعاً، فتنبت به أجساد الخلائق كما ينبت البقل.

فتساق أجزاؤهم التي صارت تراباً بعضها إلى بعض بقدرة العزيز الحميد، حتّى انّه لو دفن في قبر واحد ألف ميت وصارت لحومهم وأجسادهم وعظامهم النخرة كلّها تراباً مختلطة بعضها في بعض، لم يختلط تراب ميت بميت آخر، لأنّ في ذلك القبر شقيّاً وسعيداً، جسد ينعم بالجنّة وجسد يعذّب بالنّار (نعوذ بالله منها).

ثم يقول الله تعالى: ليحيى جبرئيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، فيحيون باذن الله. فيأمر الله اسرافيل أن يأخذ الصور بيده، ثم يأمر الله أرواح الخلائق فتأتي فتدخل في الصور، ثم يأمر الله اسرافيل أن ينفخ في الصور للحياة، وبين النفختين أربعين سنة.

قال: فتخرج الأرواح من أثقاب الصور كأنّها الجراد المنتشر، فتملأ ما بين السماء والأرض، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد وهم نيام في القبور كالموتى، فتدخل كل روح في جسدها، فتدخل في خياشيمهم فيحيون بإذن الله تعالى، فتنشق الأرض عنهم كما قال: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنّهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون}(1).

وقال تعالى: {ثم نفخ فيه اُخرى فإذا هم قيام ينظرون}(2)، ثم يدعون إلى عرصة المحشر، [فإذا دخلوا عرصة القيامة أمر](3) الله الشمس أن تنزل من السماء الرابعة إلى السماء الدنيا قريب حرّها من رؤوس الخلائق، فيصيبهم من حرّها أمر عظيم حتّى يعرفون من شدة حرّها كربها، حتّى يخوضون في عرقهم.

____________

1- المعارج: 44-43.

2- الزمر: 68.

3- أثبتناه من "د".


الصفحة 123
ثم يبقون على ذلك حفاة عراة عطاشا، وكل واحد دالع لسانه على شفتيه، قال: فيبكون عند ذلك حتّى ينقطع الدمع، ثم يبكون بعد الدموع دماً.

قال الراوي وهو الحسن بن محبوب يرفعه إلى يونس بن أبي فاختة، قال: رأيت زين العابدين عليه السلام عند بلوغه إلى هذا المكان ينتحب ويبكي بكاء الثكلى ويقول: آه ثم آه على عمري كيف ضيّعته في غير عبادة الله وطاعته لأكون في هذا اليوم من الناجين الفائزين.

قلت: وذلك في تفسير قوله تعالى آخر سورة المؤمنين: {حتّى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون * لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت}(1) يعني فيما تركته ورائي لورّاثي، فأتصدّق به وأكون من الصالحين فيقول له ملك الموت: {كلاّ انّها كلمة هو قائلها}(2).

أي كلاّ لا رجوع لك إلى دار الدنيا، وقوله: انّها كلمة هو قائلها، أي قال هذه الكلمة لمّا شاهد من شدّة سكرات الموت، وأهوال ما عاينه من عذاب القبر وهول المطلع، ومن هول سؤال منكر ونكير.

قال الله تعالى: {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وانّهم لكاذبون}(3) أي لو ردّوا إلى دار الدنيا، ومددنا لهم في العمر لعادوا إلى ما كانوا عليه من بخلهم بأموالهم فلم يتصدّقوا، ولم يطعموا الجيعان، ولم يكسوا العريان، ولم يواسوا الجيران، بل يطيعون الشيطان في البخل وترك الطاعة.

ثم قال تعالى: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}(4) والبرزخ في التفسير القبر.

____________

1- المؤمنون: 100.

2- المؤمنون: 100.

3- الأنعام: 28.

4- المؤمنون: 100.


الصفحة 124
ثم قال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فاؤلئك هم المفلحون * ومن خفّت موازينه فاؤلئك الذين خسروا أنفسهم في جهنّم خالدون * تلفح وجوههم النار}(1)، الآية.

قوله: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم، ففي الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله: انّ الخلائق إذا عاينوا القيامة ودقّة الحساب وأليم العذاب، فإنّ الأب يومئذ يتعلّق بولده فيقول: أي بني كنت لك في دار الدنيا، ألم اُربّك واُغذّيك واُطعمك من كدّي، وأكسيك واعلّمك الحكم والآداب، واُدرّسك آيات الكتاب، واُزوّجك كريمة من قومي، وأنفقت عليك وعلى زوجتك في حياتي، وآثرتك على نفسي بمالي بعد وفاتي؟.

فيقول: صدقت فيما قلت يا أبي، فما حاجتك؟ فيقول: يا بني انّ ميزاني قد خفّت ورجحت سيّئاتي على حسناتي، وقالت الملائكة: تحتاج كفّة حسناتك إلى حسنة واحدة حتّى ترجح بها، وانّي اُريد أن تهب لي حسنة واحدة اثقل بها ميزاني في هذا اليوم العظيم خطره.

قال: فيقول الولد: لا والله يا أبت، إنّي أخاف ممّا خفته أنت، ولا اُطيق أعطيك من حسناتي شيئاً. قال: فيذهب عنه الأب باكياً نادماً على ما كان أسدى إليه في دار الدنيا.

وكذلك قيل انّ الاُمّ تلقي ولدها في ذلك اليوم فتقول له: يا بني ألم يكن بطني لك وعاءً؟ فيقول: بلى يا اُمّاه، فتقول: ألم يكن ثديي لك سقاءً؟ فيقول: بلى يا اُماه، فتقول له: انّ ذنوبي أثقلتني فاُريد أن تحمل عنّي ذنباً واحداً، فيقول: إليك عنّي يا اُمّاه، فانّي مشغول بنفسي فترجع عنه باكية، وذلك تأويل قوله تعالى: {فلا أنساب

____________

1- المؤمنون: 104-101.


الصفحة 125
بينهم يومئذ ولا يتساءلون}(1).

قال: ويتعلّق الزوج بزوجته، فيقول: يا فلانة! أيّ زوج كنت لك في الدنيا؟ فتثني عليه خيراً وتقول: نعم الزوج كنت لي، فيقول لها: أطلب منك حسنة واحدة لعلّي أنجو بها ممّا ترين من دقّة الحساب، وخفّة الميزان، والجواز على الصراط، فتقول له: لا والله، انّي لا اُطيق ذلك، وانّي أخاف مثل ما تخافه أنت، فيذهب عنها بقلب حزين حيران في أمره.

وذلك ورد في تأويل قوله تعالى: {وان تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى}(2)، يعني انّ النفس المثقلة بالذنوب تسأل أهلها وقرابتها أن يحملوا عنها شيئاً من حملها وذنوبها، فانّهم لا يحملونه بل يكون حالهم يوم القيامة نفسي نفسي، كما قال تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه * واُمّه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه}(3).

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أخبرني جبرئيل قال: بينما الخلائق وقوف في عرصة القيامة إذ أمر الله تعالى ملائكة النار أن يقودوا جهنّم، فيقودوها سبعون ألف ملك في سبعين ألف زمام، فيجد الخلائق حرّها ووهجها من مسيرة شهر للراكب المجد، وقد تطاير شررها وعلا زفيرها.

فإذا دنت من عرصة القيامة صارت ترمي بشرر كالقصر، فلا يبقى يومئذ من نبي ولا وصي نبي ولا شهيد الاّ وقع من قيامه جاثياً على ركبتيه وغيرهم من سائر الخلائق إلاّ ويخرّ على وجهه، وكل منهم ينادي بأعلى صوته: يا رب نفسي نفسي الاّ أنت يا نبي الله، فانّك قائم تقول: يا رب نجّ ذريتي وشيعتي ومحبّ ذريتي.

____________

1- المؤمنون: 101.

2- فاطر: 18.

3- عبس: 37-34.


الصفحة 126
قال: فيطلب النبي أن تتأخّر عنهم جهنّم، فيأمر الله تعالى خزنتهاأن يرجعوها إلى حيث أتت منه، وذلك في تفسير قوله تعالى في سورة الفجر: {وجيء يومئذ بجهنّم يومئذ يتذكّر الإنسان وأنّي له الذكرى}(1)، معني يومئذ: أي يوم القيامة، ومعنى يتذكّر: أي ابن آدم يتذكّر ذنوبه ومعاصيه، ويندم كيف ما قدم ماله ليقدم عليه يوم القيامة، وقوله تعالى (وأنّى له الذكرى) أي أنّى له الذكرى يوم القيامة حيث ترك الذكرى في دار الأعمال، وما تذكر حاله في دار الجزاء، فما عاد تنفعه الذكرى يومئذ.

وقوله يحكي عن ابن آدم: {يقول يا ليتني قدّمت لحياتي}(2) أي قدّمت أمامي، فتصدّقت به لوجه ربي، وتزيّدت من عمل الخير والصلاة والعبادات والتسبيح، وذكر الله تعالى حتّى نلت به في هذا اليوم درجات العلى في الآخرة، والنعيم الدائم في أعلى الجنان مع الشهداء والصالحين.

وانّما سمّى الله الآخرة الحياة، لأنّ نعيم الجنّة خالد دائم لا نفاد له، باق ببقاء الله تعالى، بخلاف الدنيا فإنّ الحياة فيها منقطعة، مع انّه مشوب بالهم والغم والمرض والخوف والضعف والشيب والدين وغير ذلك.

فاستيقظ يا أخي من نومك، واخرج من غفلتك، حاسب نفسك قبل يوم الحساب، واخرج من تبعات العباد، وصالح الذين أخذت منهم الربا، واعتذر إلى من قذفته بالزنا واغتبته ونلت من عرضه، فإنّ العبد مادام في الدنيا تقبل توبته إذا تاب من ذنوبه، وإذا اعتذر من غرمائه رحموه وعفو عنه واسقطوا عنه حقوقهم الذي عليه، فأمّا في الآخرة فلا حق يوهب، ولا معذرة تقبل، ولا ذنب يغفر، ولا بكاء ينفع](3).

____________

1- الفجر: 23.

2- الفجر: 24.

3- إلى هنا تمّ ما نقلناه من "ج" و"د".


الصفحة 127
وقال عليه السلام: ما فرغ امرء فرغة الاّ كانت فرغته عليه حسرة(1) يوم القيامة، فما خلق امرء ليلهوا(2).

وانظروا إلى قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}(3).

وقال تعالى: {أفحسبتم انّما خلقناكم عبثاً}(4).

واعلموا أيّها الإخوان انّ العمر متجر عظيم الربح، وكلّ نَفَس منه جوهرة، وكيف لا يكون ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من قال "أشهد أن لا اله الاّ الله، وحده لا شريك له، الهاً واحداً أحداً فرداً صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً"، كتب الله له بكلامه خمساً وأربعين ألف ألف حسنة، ومحى عنه خمساً وأربعين ألف ألف سيّئة، ورفع له خمساً وأربعين ألف ألف درجة في علّيين(5).

وقال له جبرئيل: يا رسول الله صلى الله عليك وآلك، كل شيء يحصى ثوابه الاّ قول الرجل: "لا اله الاّ الله وحده وحده لا شريك له" فانّه لا يحصي ثوابه الاّ الله تعالى، فإنّ الله تعالى ادخر لك ولاُمّتك قوله: {فاذكروني أذكركم}(6).

وانّه سبحانه يقول: أهل ذكري في ضيافتي، وأهل طاعتي في نعمتي، وأهل شكري في زيادتي، وأهل معصيتي لا اؤيسهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن مرضوا فأنا طبيبهم، اُداويهم بالمحن والمصائب لاُطهّرهم من الذنوب والمعايب(7).

وقال علي بن الحسين عليه السلام: العقل دليل الخير، والهوى مركب المعاصي، والفقه وعاء العمل، والدنيا سوق الآخرة، والنفس تاجر، والليل والنهار

____________

1- في "ج": ما فزع امرء فزعة الاّ كانت فزعته.

2- عنه معالم الزلفى: 245.

3- القيامة: 36.

4- المؤمنون: 115.

5- التوحيد للصدوق: 30 ح35; عنه البحار 93: 206 ح5.

6- البقرة: 152.

7- راجع البحار 77: 42 ح10.


الصفحة 128
رأس المال، والمكسب الجنّة، والخسران النار، وهذه والله هي التجارة التي لا تبور، والبضاعة التي لا تخسر.

سوق مثله(1) صلوات الله عليه وآله، وسوق الفائزين من شيعته وشيعة آبائه وأبنائه عليهم السلام، ولقد جمع الله هذا كلّه بقوله: {يا أيّها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاؤلئك هم الخاسرون}(2).

وقال سبحانه: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}(3).

وقال سبحانه: {فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد الاّ الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم}(4).

وقال سبحانه: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}(5).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: انّ الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد الغشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح لله عزّت أسماؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم(6)، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة.

يذكّرون بأيّام الله،[ويخوّفون مقامه](7)، بمنزلة الأدلّة في الفلوات(8)، مَنْ أَخَذ القصد حمدوا إليه الطريق، وبشّروه بالنجاة، ومَنْ أَخَذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق،

____________

1- كذا، وفي "ج": وقال مثله.

2- المنافقون: 9 3- النور: 37.

4- النجم: 29-30.

5- الكهف: 28.

6- في "ج": قلوبهم.

7- أثبتناه من نهج البلاغة.

8- في النسخ: القلوب، وأثبتنا قوله:"الفلوات" من نهج البلاغة.


الصفحة 129
وحذّروه من الهلكة.

كانوا لذلك مصابيح تلك الظلمات، وأدلّة تلك الشبهات، وانّ للذكر أهلاً أخذوه بدلاً من الدنيا فلم تشغلهم تجارة ولا بيع، يقطعون به أيّام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين.

يأمرون بالمعروف ويأتمرون به، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه، فكأنّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك، وكأنّما اطلعوا على عيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، وحقّقت القيامة عليهم عذابها، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس، ويسمعون ما لا يسمعون.

فلو مثّلتهم بعقلك(1) في مقاماتهم المحمودة، ومجالسهم المشهودة، قد نشروا دواوين أعمالهم، ففزعوا لحساب أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة اُمروا بها فقصّروا عنها، أو نُهوا عنها ففرّطوا فيها، وحملوا ثقل أوزارهم على ظهورهم فضعفوا عن الإستقلال بها، فنشجوا نشيجاً(2)، وتجاوبوا نحيباً، يعجّون إلى الله من مقام ندم واعتراف بذنب، لرأيت أعلام هدى، ومصابيح دجى.

قد حفّت بهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، واُعدّت لهم مقاعد الكرامات في مقعد اطلع الله عليهم فيه فرضى سعيهم، وحمد مقامهم، يتنسّمون بدعائه روح التجاوز، رهائن فاقة إلى فضله، واُسارى ذلّة لعظمته.

جرح طول الأذى قلوبهم، وأقرح طول البكاء عيونهم، لكل بابِ رغبة إلى الله منهم يدٌ قارعة، يسألون من لا تضيق لديه المنادح، ولا يخيب عليه السائلون، فحاسب نفسك لنفسك، فإنّ غيرها من النفوس لها حسيب غيرك(3).

____________

1- في "ب": بقلبك.

2- نشج الباكي ينشج نشيجاً: غصّ بالبكاء في حلقه.

3- نهج البلاغة: الخطبة 222; عنه البحار 69: 325 ح39.


الصفحة 130
وروي انّ النبي صلى الله عليه وآله قال: ارتعوا في رياض الجنّة، فقالوا: وما رياض الجنّة؟ فقال: الذكر غدوّاً ورواحاً، فاذكروا(1).

ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإنّ الله تعالى ينزل العبدَ حيث أنزل اللهَ العبدُ من نفسه، ألا انّ خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها عند ربكم في درجاتكم، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه وتعالى، وقد أخبر عن نفسه وقال: "أنا جليس من ذكرني" وأي منزلة أرفع منزلة من جليس الله تعالى(2).

وروي انّه ما اجتمع قوم يذكرون الله الاّ اعتزل الشيطان عنهم والدنيا، فيقول الشيطان للدنيا: ألا ترين ما يصنعون؟ فتقول الدنيا: دعهم فلو قد تفرّقوا أخذت بأعناقهم(3).

وقال النبي صلى الله عليه وآله: يقول الله تعالى: من أحدث ولم يتوضّأ فقد جفاني، ومن أحدث وتوضّأ ولم يصلّ ركعتين(4) فقد جفاني، ومن أحدث وتوضّأ وصلّى ركعتين ودعاني فلم أجبه فيما يسأل من أمر دينه ودنياه فقد جفوته، ولست بربٍّ جاف(5).

وروي انّه إذا كان آخر الليل يقول الله سبحانه: هل من داع فاُجيبه؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟(6).

وروي انّ الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود! من أحب حبيباً صدّق قوله، ومن آنس بحبيب قبل قوله ورضى فعله، ومن وثق بحبيب اعتمد

____________

1- عنه مستدرك الوسائل 5: 301 ح5920.

2- راجع البحار 93: 163 ضمن حديث 42; عن عدة الداعي.

3- عنه مستدرك الوسائل 5: 287 ح5876; وأورده في أعلام الدين: 273.

4- زاد في "ج": ولم يدعني.

5- عنه البحار 80: 308 ح 18.

6- راجع البحار 87: 167 ح 9; عن عدة الداعي; وأورده في أعلام الدين: 277.


الصفحة 131
عليه، ومن اشتاق إلى حبيب جدّ في المسير إليه. يا داود! ذكري للذاكرين، وجنّتي للمطيعين، وزيارتي للمشتاقين، وأنا خاصّة المحبّين(1).

وقال عليه السلام: على كل قلب جاثم من الشيطان، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا ترك الذكر التقمه، فجذبه وأغواه واستزلّه وأطغاه(2).

وروى كعب الأحبار قال: أوحى الله إلى نبي من أنبيائه: إن أردت أن تلقاني غداً في حضرة القدس فكن في الدنيا ذاكراً غريباً محزوناً مستوحشاً، كالطير الوحداني الذى يطير في الأرض المقفرة، ويأكل من رؤوس الأشجار المثمرة، فإذا جاءه الليل آوى إلى وكره، ولم يكن مع الطير استيحاشاً من الناس واستيناساً بربّه(3).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: انّ الملائكة يمرّون على مجالس الذكر، فيقفون على رؤوسهم ويبكون لبكائهم، ويؤمّنون على دعائهم، وإذا صعدوا إلى السماء يقول الله: ملائكتي أين كنتم؟ وهو أعلم بهم. فيقولون: ربنا أنت أعلم، كنّا حضرنا مجلساً من مجالس الذكر، فرأيناهم يسبحونك ويقدّسونك ويستغفرونك، يخافون نارك، ويرجون ثوابك.

فيقول سبحانه: اُشهدكم انّي قد غفرت لهم، وآمنتهم من ناري، وأوجبت لهم الجنّة، فيقولون: ربنا تعلم انّ فيهم من لا يذكرك؟! فيقول سبحانه: قد غفرت له بمجالسته أهل ذكري، فإنّ الذاكرين لا يشقى بهم جليسهم(4).

وروي عن بعض الصالحين انّه قال: نمت ذات ليلة فسمعت هاتفاً يقول: أتنام عن حضرة الرحمان وهو يقسم الجوائز بالرضوان، بين الأحبّة والخلاّن، فمن

____________

1- عنه البحار 14: 40 ح 23; وأورده في أعلام الدين: 279.

2- راجع البحار 70: 61 ح 42; عن عدّة الداعي; وفي أعلام الدين: 279.

3- أورده في اعلام الدين: 279.

4- البحار 75: 468 ح 20; وأورده في أعلام الدين: 280.


الصفحة 132
أراد منّا المزيد فلا ينانم ليله الطويل، ولا يقنع من نفسه بالقليل(1).

وقال كعب الأحبار: مكتوب في التوراة: يا موسى من أحبّني لم ينسني، ومن رجى معروفي ألحّ في مسألتي، يا موسى لست بغافل عن خلقي، ولكن احب أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء، وترى حفظتي تقرّب بني آدم اليّ ممّا أنا مقوّيهم عليه ومسببه لهم.

يا موسى قل لبني اسرائيل: لا تبطركم النعمة فيعاجلكم السلب، ولا تغفلوا عن الذكر والشكر فتسلبوا النعم، ويحلّ بكم الذلّ، وألحّوا بالدعاء تشملكم الإجابة وتهنّيكم النعمة بالعافية(2).

وجاء في قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته}(3) قال: يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي ذر: يا أباذر! أقلل من الشهوات يقلل عليك الفقر، وأقلل من الذنوب يخف عليك الحساب، واقنع بما اُوتيته يسهل عليك الموت، وقدّم مالك أمامك يسرّك اللحاق به، وانظر العمل الذي تحب أن يأتيك الموت وأنت عليه فاعمله، ولا تتشاغل عمّا فرض عليك بما ضمن لك، واسع لملك لا زوال له في منزل لا انتقال عنه(4).

____________

1- أورده المصنّف في أعلام الدين: 281.

2- راجع البحار 77: 42 ح 11.

3- آل عمران: 102.

4- أورده المصنّف في أعلام الدين: 344.


الصفحة 133


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net