11 - الإمام الباقر وقضية الجبر والاختيار
كان الإمام الباقر يقول: " يا معشر الشيعة، شيعة آل محمد، كونوا النمرقة (أي الوسادة) الوسطى، يرجع إليكم الغالي، ويلحق إليكم التالي "، وفسر " الغالي " بأنه من يقول فيه ما لا يقول في نفسه، و " التالي " بأنه المرتاد، يريد
____________
(1) بن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 6 / 41 - 42.
الخير، ويؤجر عليه، وهذا هو السبب في أن الأئمة لم يدخلوا في معترك الصفات والجبر والاختيار والقدر، ولم يدلوا بدلوهم في طريق الكلام المتشعبة، إلا ليجمعوا الآراء كلها، فيخرجوا منها، كما دخلت هي في القرآن، ومعنى هذا أن أهل الجبر اختاروا ناحية من القرآن، واختار أهل الاختيار ناحية أخرى، والأمر كذلك بالنسبة للصفات، والكل يستند إلى آيات من القرآن (1).
وكان دور الأئمة أن يعودوا بهذه الآراء المتشعبة والمختلفة إلى القرآن من جديد، فيحملوا على التحديد والاختيار، ويردوا الأمر إلى نصابه، فحين سئل الإمام الباقر عن الجبر والاختيار (2) قال: " إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب، ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون " (3).
ثم سئل: هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قال: نعم، أوسع مما بين الأرض والسماء.
فالإمام الباقر إذن: ينفي الجبر على الإطلاق أولا، ثم ينفي الاختيار على الإطلاق أيضا، ومعنى هذا: أنه يجمعهما، ثم يجعل بين الجبر والقدرة منزلة ثالثة.
____________
(1) كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع - 1 / 171 (بغداد 1963).
(2) أنظر عن قضية القضاء والقدر - أو الجبر والاختيار - (محمد متولي الشعراوي: القضاء والقدر - القاهرة 1989، ابن تيمية: الجزء الثامن من فتاوي ابن تيمية - الرياض 1381 هـ، أحمد بن ناصر الحمد: ابن حزم وموقفه من الإلهيات ص 406 - 464 (نشر جامعة أم القرى بمكة المكرمة - 1406 / 1986 م)، عبد الفتاح أحمد فؤاد: الأصول الإيمانية لدى الفرق الإسلامية ص 108 - 116، 173، 180، 450، 456 (الإسكندرية 1990)، عبد القادر محمود: الإمام جعفر الصادق - رائد السنة والشيعة ص 38 - 55 (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية - مصر).
(3) الشيبي: المرجع السابق ص 171، ثم قارن: الكليني: الكافي 36، الصدوق القمي:
الإعتقادات ص 470 - 471.
وهكذا يعيد الإمام الباقر المياه إلى مجاريها الحقيقية قياما بواجبه الذي يحتمه عليه جوهر التشيع الأساسي (1).
12 - من أقوال الإمام الباقر
عن عبد الله بن المبارك قال: قال الإمام محمد بن علي الباقر: " من أعطي الخلق والرفق، فقد أعطي الخير والراحة، وحسن حاله في دنياه وآخرته، ومن حرمهما كان ذلك سبيلا إلى كل شر وبلية - إلا من عصمه الله " (2).
وقال: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد تماما إلا قال:
فلستم إخوانا، كما تزعمون.
وقال: أعرف مودة أخيك لك، بما له من المودة في قلبك، فإن القلوب تتكافأ وقال: - قد سمع عصافير يصحن - أتدري ماذا يقلن؟ قلت: لا، قال:
يسبحن الله، ويسألنه رزقهن يوما بيوم.
وقال: تدعو الله بما تحب، وإذا وقع الذي تكره، لم تخالف الله عز وجل فيما أحب.
وقال: ما من عبادة أفضل من عفة بطن أو فرج، وما من شئ أحب إلى الله عز وجل، من أن يسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء، وإن أسرع الخير صوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمي عليه من نفسه، وأن يأمر الناس، بما لا يستطيع أن يفعله، وينهى الناس بما لا يستطيع أن يتحول عنه، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه، هذه كلمات جوامع موانع، لا ينبغي لعاقل أن يفعلها.
____________
(1) نفس المرجع السابق ص 171.
(2) البداية والنهاية 9 / 350.
وقال: القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق وقال: صحب عمر بن الخطاب رجلا إلى مكة، فمات في الطريق، فاحتبس عليه عمر، حتى صلى عليه ودفنه، فقل يوم إلا كان عمر يتمثل بهذا البيت:
وبالغ أمر كان يأمل دونه * ومختلج من دون ما كان يأمل (1)
وعن الأصمعي قال: قال محمد بن علي (الباقر) لابنه: يا بني إياك والكسل والضجر، فإنهما مفتاح كل شر، إنك إن كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق.
وعن أبي خالد الأحمر عن حجاج عن أبي جعفر الباقر قال: أشد الأعمال ثلاثة: ذكر الله على كل حال، وإنصافك من نفسك، ومواساة الأخ في المال.
وعن محمد بن عبد الله الزبيري عن أبي حمزة الثمالي قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي (الباقر) قال: أوصاني أبي فقال: لا تصحبن خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق، قال: قلت: جعلت فداك يا أبة من هؤلاء الخمسة؟ قال: لا تصحبن فاسقا، فإنه بايعك بأكلة فما دونها، قال: قلت يا أبة وما دونها؟ قال: يطمع فيها ثم لا ينالها.
قال: قلت يا أبة ومن الثاني؟ قال: لا تصحبن البخيل، فإنه يقطع بك في ماله، أحوج ما كنت إليه.
قال: قلت يا أبة ومن الثالث؟ قال: لا تصحبن كذابا، فإنه بمنزلة السراب، يبعد منك القريب، ويقرب منك البعيد.
____________
(1) حلية الأولياء 3 / 186 - 188.
قال: قلت يا أبة ومن الرابع؟ قال: لا تصحبن أحمقا، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك.
قال: قلت يا أبة ومن الخامس؟ قال: لا تصحبن قاطع راحم، فإني وجدته ملعونا في كتاب الله تعالى، في ثلاثة مواضع (1).
وعن أبي الربيع الأعرج ثنا شريك عن جابر قال: قال لي محمد بن علي (الباقر): أنزل الدنيا كنزل نزلت به، وارتحلت منه، أو كمال أصبته في منامك، فاستيقظت وليس معك منه شئ، إنما هي - مع أهل اللب، والعالمين بالله تعالى - كفئ الظلال، فاحفظ ما استرعاك الله تعالى من دينه وحكمته.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت محمد بن علي (الباقر) يقول:
يقول الله عز وجل: " إذا جعل عبدي همه في هما واحدا، جعلت غناه في نفسه، ونزعت الفقر من بين عينيه، وجمعت له شمله، وكتبت له من وراء تجارة كل تاجر، وإذا جعل همه في مفترقا، جعلت شغله في قلبه، وفقره بين عينيه، وشتت عليه أمره، ورميت بحبله على غاربه، ولم أبال في أي واد من أودية الدنيا هلك " (2).
وقيل للإمام الباقر: أتعرف شيئا خيرا من الذهب؟ قال: نعم، معطيه.
وقال: اصبر للنوائب، لا تتعرض للحقوق، ولا تعط أحدا من نفسك ما ضره عليك أكثر من نفعه.
وقال: كفى العبد من الله ناصرا، أن يرى عدوه يعصي الله.
وقال: شر الآباء من دعاه البر إلى الإفراط، وشر الأبناء من دعاه التقصير إلى العقوق.
____________
(1) حلية الأولياء 3 / 183 - 184.
(2) حلية الأولياء 3 / 187.
وقال: لو صمت النهار لا أفطر، وصليت الليل لا أفتر، وأنفقت مالي في سبيل الله علقا علقا، ثم لم تكن في قلبي محبة لأوليائه، ولا بغضه لأعدائه، ما نفعني ذلك شيئا (1).
وروى زرارة بن أعين عن أبيه عن أبي جعفر محمد الباقر، عليه السلام، قال: كان علي عليه السلام إذا صلى الفجر، لم يزل معقبا إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس، فيعلمهم الفقه والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك، فقام يوما فمر برجل، فرماه بكلمة هجر، قال: لم يسمعه محمد بن علي الباقر، عليه السلام، فرجع عوده على بدئه، حتى صعد المنبر، وأمر فنودي الصلاة جامعة: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال: أيها الناس، إنه ليس شئ أحب إلى الله، ولا أعم نفعا من حلم إمام وفقيه، ولا شئ أبغض إلى الله، ولا أعم ضررا من جهل إمام وخرقه، ألا وإنه من لم يكن له من نفسه واعظ، لم يكن له من الله حافظ، ألا وإنه من أنصف من نفسه، لم يزده الله إلا عزا، ألا وإن الذل في طاعة الله، أقرب إلى الله من التعزز في معصيته.
ثم قال: أين المتكلم آنفا؟ فلم يستطع الإنكار، فقال: ها أنذا يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني لو أشاء لقلت، فقال: إن تعف وتصفح، فأنت أهل ذلك، قال: قد عفوت وصفحت.
فقيل لمحمد بن علي الباقر: ماذا أراد أن يقول؟ قال: أراد أن ينسبه (2).
وعن خالد بن دينار عن أبي جعفر الباقر: أنه كان إذا ضحك، قال:
اللهم لا تمقتني.
وعن محمد بن مسعر قال قال جعفر بن محمد (الصادق): فقد أبي بغلة
____________
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 230 - 321.
(2) شرح نهج البلاغة 4 / 109 - 110.
له، فقال: لئن ردها الله تعالى علي لأحمدنه محامد يرضاها، فما لبث أن أتي بها بسرجها ولجامها، فركبها، فلما استوى عليها، وضم إليه ثيابه، رفع رأسه إلى السماء، فقال: الحمد لله، لم يزد عليها، فقيل له في ذلك، فقال: وهل تركت أو أبقيت شيئا، جعلت الحمد كله لله عز وجل (1).
وروى صاحب الكامل عن أبي جعفر الباقر، عليه السلام، قال: لما حضرت الوفاة علي بن الحسين عليه السلام، أبي، ضمني إلى صدره، ثم قال:
يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي (أي الإمام الحسين) يوم قتل، وبما ذكر لي أن أباه عليا عليه السلام، أوصاه به: يا بني عليك ببذل نفسك، فإنه لا يسر أباك بذل نفسه، حمر النعم (2).
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد (الصادق) عن أبيه (الباقر): أن عقيل بن أبي طالب، دخل على معاوية بن أبي سفيان، فقال معاوية: هذا عقيل وعمه أبو لهب، فقال عقيل: هذا معاوية، وعمته حمالة الحطب (3)، وزاد " ابن عبد ربه " في عقده الفريد: ثم قال يا معاوية: إذا دخلت النار، فاعدل ذات اليسار، فإنك ستجد عمي أبا لهب مفترشا عمتك حمالة الحطب، فانظر أيهما خيرا، الفاعل أو المفعول به (4).
وفي نهج البلاغة: قال معاوية - وعنده عمرو بن العاص - وقد أقبل عقيل بن أبي طالب، لأضحكنك من عقيل، فلما سلم قال معاوية: مرحبا برجل عمه أبو لهب، فقال عقيل: وأهلا برجل عمته " حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد " - لأن امرأة أبي لهب، هي أم جميل بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان بن حرب، وعمة معاوية -.
____________
(1) حلية الأولياء 3 / 186.
(2) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 7 / 108.
(3) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 204 (القاهرة 1964).
(4) ابن عبد ربه: العقد الفريد 4 / 91 (بيروت 1983).
قال معاوية: يا أبا يزيد، ما ظنك بعمك أبي لهب، قال: إذا دخلت النار، فخذ على يسارك، تجده مفترشا عمتك " حمالة الحطب "، أفناكح في النار خير، أم منكوح؟ قال: كلاهما شر، والله (1).
|