6 - الإمام الباقر والصوفية
صب مؤلفو كتب التصوف جوانب الإمام الباقر في قالب صوفي زهدي، بحيث بدا واحدا منهم (2)، وأول ما يجب أن نلتفت إليه البكاء الذي يضاف للإمام الباقر - وهو معاصر للحسن البصري (3) (21 - 110 هـ / 642 - 728 م) - البكاء المشهور، كما عاصر الحسن الإمام علي زين العابدين، وكان الإمام زين العابدين يعلل بكاءه على شهداء كربلاء من آل بيت النبوة، الذين قتلوا على مذبح أطماع الأمويين - فقد رآهم يقتلون رأي العين (4).
وعن أبي حمزة الثمالي عن الإمام جعفر الصادق عن الإمام محمد الباقر قال: سئل علي بن الحسين عن كثرة بكائه، فقال: " لا تلوموني، فإن يعقوب - عليه السلام - فقد سبطا من ولده، فبكى حتى ابيضت عيناه، ولم يعلم أنه
____________
<= الخصائص للنسائي ص 59 - 105، فضائل الصحابة لابن حنبل 2 / 637، كنز العمال للمتقي الهندي 6 / 72، 82، 88، 319، 392، 8 / 215، مجمع الزوائد للهيثمي 7 / 138، 238، 9 / 235.
(1) علي سامي النشار: المرجع السابق ص 142.
(2) الشيبي: المرجع السابق ص 173 - 175.
(3) من أهم مصادر ترجمة الحسن البصري (ابن قتيبة: المعارف ص 225، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 1 / 40 - 42، الفهرست لابن النديم ص 37 - 38، 183، طبقات ابن سعد 7 / 156 - 178، حلية الأولياء 2 / 131 - 161، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 68 - 69، التذكرة للذهبي ص 71 - 72، ميزان الاعتدال للذهبي 1 / 254، المعتزلة لابن المرتضى 18 - 24، الأعلام للزركلي 2 / 242، وفيات الأعيان 2 / 69 - 73، شذرات الذهب 1 / 136 - 138).
(4) حلية الأولياء 3 / 138.
مات، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلا من أهل بيتي في غزاة واحدة، أفترون حزنهم يذهب من قلبي " (1).
ثم تطورت فكرة البكاء تطورا زهديا، عبر عنه الإمام علي زين العابدين بقوله: " فقد الأحبة غربة " (2)، ويقول ولده الإمام الباقر: " ما اغرورقت عين بمائها، إلا حرم الله وجه صاحبها على النار "، بل إن الإمام الباقر، إنما يقسم البكاء - كما قسم المعرفة (وكذلك فعل أبوه من قبل) (3) - فقال: " فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، وما من شئ إلا له جزءا إلا الدمعة، فإن الله يكفر بها بحور الخطايا، ولو أن باكيا بكى في أمة، لحرم الله تلك الأمة على النار " (4).
وهكذا نرى جذور البكاء في الزهد والتصوف، حتى تحولت إلى الذكر الذي يصفي القلوب، كما يصفيها بكاء الشيعي على الإمام الشهيد - مولانا الإمام الحسين - الذي كانت مجالس البكاء عليه تعقد جهارا أيام " المأمون " (189 - 218 هـ - 813 - 833 م)، وقد ربط الإمام الباقر البكاء بالذكر صراحة فقال:
" الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن، ولا تصيب الذاكر "، وقد رأينا البكاء ومنزلته، فلا بد أن يقترن بالذكر لتنمحي الذنوب، وهكذا أسس الشيعة جذور البكاء في الذكر، ببكائهم على الشهيد - الإمام الحسين (5) -.
هذا وقد زكى المحدث الفقيه ابن حجر الهيثمي في صواعقه، الإمام الباقر صوفيا بقوله فيه: وله من الرسوم في مقامات العارفين، ما تكل عنه ألسنة
____________
(1) ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 119، حلية الأولياء 3 / 138.
(2) صفة الصفوة 2 / 53.
(3) تفسير علي بن إبراهيم ص 416.
(4) صفة الصفوة 2 / 61.
(5) الشيبي: المرجع السابق ص 174.
الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة (1)، ومن تلك الكلمات ما يدخل في سلسلة السند في روايته " أبو علي الروذباردي "، وسفيان الثوري، وذلك في نقل قول الباقر في التوكل " الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التوكل أوطناه " (2).
هذا إلى أننا نجد الحب عند الإمام الباقر - كما وجد عن أبيه - من قوله:
" إعلم يا جابر، أن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة... قطعوا محبتهم لمحبة ربهم، ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم " (3).
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الزهاد والمتصوفة إنما قد عجبهم الأئمة الأوائل من آل بيت النبوة، فأرادوا أن يجعلوا منهم قدوة يقتدون بها، وجعلوا مبادئهم الخلقية والسياسية، الموازية لمبادئ الزهاد شيئا يهتدون به، وكانت أسس التصوف في بداية وضعها، فاستفاد الزهاد من أئمة أهل البيت إفادة ظاهرة، حتى رأيناهم في النهاية ينسبون التصوف إلى الإمام علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - عن طريق أولاده الأئمة هؤلاء، وقد صرح " العطار " بذلك، فقال في الإمام محمد الباقر، الذي أنهى بسيرته كتابه " تذكرة الأولياء ": " ذلك حجة أهل المعاملات، ذلك برهان أرباب المشاهدات، ذلك إمام أولاد النبي (صلى الله عليه وسلم)، ذلك كريم أحفاد الإمام علي، ذلك صاحب الظاهر والباطن، أبو جعفر محمد الباقر، رضي الله عنه " (4).
>>>>>>
|