2 ـ انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار ، أن المجاز المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في القرآن دربة لأهل اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا المدرك نفسه بما لا مزيد عليه . وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ، كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف تجوز بالاتساع الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية متسمة بالشمولية والإبداع . كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في ____________ (1) يس : 37 .
( 147 )
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية المتطورة . إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل مبحث علاقة المجاز بالجزء الآخر منها . وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان تلتمسان باعتبارهما دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي كل شيء ، إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب . وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ لا ضرورة لاتخام الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام . الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ، فلا عنت ولا تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله تعالى في كل من قوله تعالى : أ ـ ( ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب * )(1) ب ـ ( فلمّا زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين )(2) فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن لم تكن منه تعالى فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه ____________ (1) آل عمران : 8 . (2) الصف : 5 .
( 148 )
سبحانه إلا على سبيل المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي . وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه ظاهرة . حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه الشبهات بمرونة . فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين في حكمك ، ونستحق أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال : إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ، ولكنهم لما زاغوا عن أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فزادتهم رجسا الى رجسهم * )(1) وفيما اقتصه عن نوج عليه السلام ( فلم يزدهم دعآءي إلاّ فرارا * )(2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم(3) . ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض برأيه بعد إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على ظاهره ، لأنه يقودنا الى أن نقول : إن الله ____________ (1) التوبة : 125 . (2) نوح : 6 . (3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5/ 19 .
( 149 )
سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه التي قدمنا ذكرها ، فهو متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم )(1) . قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير الزيغ الثاني ، وأن الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره : فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ، وإزاغته تعالى لهم إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن العقوبة لا تكون من جنس المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة »(2) . فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فأعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )(3) . وكقوله تعالى : ( وجزاؤُا سيّئةٍ سيئّةٌ مثلُها . . . )(4) . ____________ (1) الصف : 5 . (2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5/ 23 وما بعدها . (3) البقرة : 194 . (4) الشورى : 40 .
( 150 )
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه سبب منها ، فأطلقت عليه ، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على الميل ، والانحراف عن الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم )(1) . فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ، فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ، وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال : ( والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم * )(2) . فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ، ويكشف عن ذلك قوله تعالى : ( إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتّخذتموهم سخريّا حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون * )(3) . وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ، ولكنهم لما اتخذوهم سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ، فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله سبحانه إنما وقع في مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على الأصل الذي قدمناه . وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي ____________ (1) الصف : 5 . (2) محمد : 17 . (3) المؤمنون : 109 ـ 110 .
( 151 )
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى الضلال ، ولا الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد ءامنا واجنبّني وبنيّ أن نّعبد الأصنام * ربِّ إنّهنّ أضللن كثيرا من النّاس فمن تبعني فإنّه مني ومن عصاني فإنّك غفور رحّيم * )(1) . فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ، لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية . ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له ، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان الفعلان واحدا ، وقد علمنا أن جهتي الفعل مختلفان »(2). ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية : ـ وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها ، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد المجاز اللغوي المرسل في التعبير القرآني : 1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون * )(3) . ____________ (1) إبراهيم : 35 ـ 36 . (2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5/ 25 وما بعدها . (3) آل عمران : 59 .
( 152 )
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي لأبي علي الفارسي(1) . وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد . 2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى : أ ـ ( وكانت من القانتين )(2) ب ـ ( إلاّ امرأته كانت من الغابرين )(3) ج ـ ( فلولا أنّه كان من المسبّحين * )(4) فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ، ولكنه أطلق القانتين على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال القانتين . وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور المتصفين بهذا الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز . وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ، فأطلق عليها تجوزا ، والمعني الصلاة . 3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ____________ (1) ظ : الزركشي ، البرهان 2/ 290 . (2) التحريم : 12 . (3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 . (4) الصافات : 143 .
( 153 )
ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وأُشرِبوا في قلوبهم العِجل * )(1) . والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب ، لملابسته لهم في قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ، وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال . 4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فبشّرهم بعذاب أليم )(2) . والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه تعالى أطلقه عليه تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك . وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فبصرك اليوم حديد )(3) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين(4) . مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد لمفردات مماثلة دون استيعاب ، ولكنها بالإضافة لما سبق من ____________ (1) البقرة : 93 . (2) آل عمران : 21 . (3) ق : 22 . (4) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3/ 430 بتصرف وإيضاح .
( 154 )
الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل تشكل سمة بارزة .
|