4 ـ علاقة المجاز العقلي في القرآن
والمراد بعلاقة المجاز العقلي في القرآن ههنا ، وجه الاستعمال المجازي وسببه الداعي اليه ، والركيزة المقتضية التي يستند اليها هذا المجاز ، ولك أن تتجوز في ذلك فتقول : إن العلاقة هنا هي المسوغ الفني ، أو المبرر الاستعمالي لهذه الصيغة المجازية دون الأصل الحقيقي . ولقد توسع علماء البلاغة القدامى والمحدثين ـ بالتبعية ـ في إيراد مبررات هذه العلاقة ، وتفننوا بالتقسيمات المضنية ، وتعللوا بالتخريجات المنطقية تارة ، والكلامية أخرى ، والنحوية سواهما ، حتى بلغوا بذلك حد الإفراط ، مما ذهب برونق هذه العلاقة المتينة وبهائها ، فبدلا من حصرها ، وتسليط الأضواء على مضمونها ، لجأوا الى التفصيلات المملة ، والأسماء المخترعة ، فكانت السببية مثلا ، والمسببية ، والزمانية ، والمكانية ، والفاعلية ، والمفعولية ، والمصدرية وأضراب ذلك من نماذج علاقة المجاز العقلي . وكانت : تسمية الكل باسم الجزء الذي لا غنى عنه في الدلالة على ذلك الكل ، وتسمية الجزء باسم الكل ، وتسمية المسبب باسم السبب ، وتسمية السبب باسم المسبب ، وتسمية الشيء باسم ما كان عليه ، وتسميته باسم ما يكون عليه أو يؤول اليه ، وإسناد الفاعلية أو الصفة الثبوتية للزمان ، ووضع النداء موضع التعجب ، وإطلاق الأمر وإرادة الخبر به ، وإضفاء الفعل الحسي على الأمر المعنوي ، والتغليب : بإعطاء الشيء حكم غيره ، وأضراب ذلك من نماذج علاقة المجاز اللغوي المرسل .
( 133 )
ولا نريد أن نعيد هذا المعجم المشحون بنماذجه التطبيقية ، إذ أفردناه فيما مضى بعمل بلاغي مستقل تابعنا فيه من سبق ، فمن شاء فليرجع اليه ففيه الغنية والمزيد ، من هذه الأبعاد الشاقة(1) . والذي نريد أن نشير اليه هنا ، أن القرآن الكريم في نصه الإعجازي لم يكن ناظرا الى تلك التفصيلات لدى إيراده علاقة المجاز العقلي ، وإنما كان متنقلا بالذهن العربي الى آفاق جديدة من التعبير الموحي والبيان الطلق ، ومتحدثا الى الطبيعة الإنسانية بما يلائم فطرتها النقية ، دون تزيد في المراد ، أو عنت في الإداء ، وكان انتشار العلاقة تابعا لمذاق الباحث في الاستنتاج ، ولا تعنيه الأسماء والتقسيمات لأنها مع صنع البلاغيين ، لهذا نجده في هذا الملحظ ، وإن استخرج علماء البلاغة كل أصناف العلاقات من آياته الكريمة ، يدور في فلك النفس فيملأ فراغها ، ويسد نقصها ، بما يجعلها أهلة لتلقي النص بذائقة سليمة ، لهذا نجده يشيع الحس بالكائنات الصامتة ، ويضفي القدرة على ما لا حول له ولا قوة ، ويسند الفاعلية الى الجمادات ، وإذا بها متحركة بعد سكون ، ويستنطق المعالم المبهمة وإذا بها مبينة بعد سكوت ، وما ذلك إلا من مظاهر الاعتداد بظاهرة المجاز البيانية ، بعيدا عن التساؤلات المقحمة ، أو الهذر في التفصيلات الأعجمية ، وهو بهذا الملحظ يفجر روافد بلاغية جديدة ، ذات إطار تجدّدي سليم ، على مجموعة الممارسات البيانية الحسية والعقلية في اللغة العربية الكريمة ، والتي يمكن أن ننظر لها بمجموعة فياضة من شتى العلاقات في المجاز العقلي للقرآن الكريم ، دون اللجوء الى ظاهرة التعقيد أو التقعيد : 1 ـ في قوله تعالى : ( إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * )(2) ، نسبت زيادة الإيمان الى آيات الله تعالى في قرآنه الكريم ، ولما كان الأصل في الإيمان وزيادته هو التوفيق الإلهي الصادر عن الله عزّ وجلّ ، علم بالضرورة أن نسبة زيادة الإيمان الى الآيات بإضافتها إليها ، إعلاء منه تعالى لشأن هذه الآيات ____________ (1) ظ : المؤلف ، أصول البيان العربي : 48 ـ 56 . (2) الأنفال : 2 .
( 134 )
المجيدة ، وكأنها المؤثر الحقيقي ، وإن كان الأثر من الله ، والتأثير بتوفيقه ، وكان ذلك من المجاز المرصود عقليا لكون الإثبات سببا في زيادة هذا الإيمان ، ولعل في ذلك إشارة واعية الى النتائج الإيجابية في تلاوة الآيات أو الاستماع إليها ، أو الإنصات لدقائقها ، فيكون الحث عليها بهذا الأسلوب الجديد ، وكأنه أمر بصيغة الإخبار ، وتحضيض عن طريق الإنباء . 2 ـ وفي قوله تعالى : ( وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنّة يأيتها رزقها رغدا من كلّ مكان فكفرت بأنعم الله فاذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * )(1) ، عدة استعمالات مجازية متطورة ، يتعلق بعضها بالمجاز العقلي ، والآخر بالمجاز اللغوي في الاستعارة ، ولا حديث لنا معه ، والشأن في المجاز العقلي حيث وصف القرية بكونها أمنة مطمئنة ، وقد علم بالضرورة أن الأمن والأطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها ، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها ، فعبر مجازا عن طريق إطلاق اسم المحل وهو القرية ، على الحال فيها وهم الأهل والساكنون ، وعبّر عن الرزق بأنه يأتي ، الرزق ليست له حركة ولا إرادة في التنقل والقصد ، وإنما الله تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق إليها ، ويأتي بها ـ وهو الرزاق ذو القوة المتين ـ من كل مكان الى تلك القرية أو هذه تعبيرا عن تنعمها وعيشها الرغيد فكأن الرزق يقصدها سائرا سادرا متوافرا . وفلسفة هذا المثل القرآني الفريد ، أن لا يكفر ذوو النعم بنعمهم ، فيصيبهم ما أصاب هذه القرية من التلبس بالجوع والخوف والإذلال . فالمجاز ـ إذن ـ وهو في سياق التشبيه التمثيلي المنتزع من صور متعددة من باب القياس التمثيلي ، وذلك من خصائص المجاز الفنية . 3 ـ وفي قوله تعالى : ( ألم تر الى الّذين بدّلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * )(2) ، أضافت الآية إجلال البوار الى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وذلك بسبب من سوء أعمالهم وكفرهم وطغيانهم وكان ذلك ____________ (1) النحل : 112 . (2) إبراهيم : 28 .
( 135 )
نتيجة لكفرهم ، ومظهر كفرهم إطاعتهم أكابرهم بالكفر ، في حين أن الذي أحل هؤلاء وهؤلاء دار البوار ـ على سبيل العقوبة والمجازاة ـ هو الله تعالى جلّ شأنه . وهنا تلمس قيمة المجاز وتدرك خصائصه الفنية ، وذلك حينما تعلم موقع تبديل النعم بالكفر في الإحلال بدار البوار ، والكفر ـ بحد ذاته ـ ليس بقادر ولا متصرف ولا متمكن ، ومع هذا فهو السبيل الى دار البوار بالقوة والفعل والعيان ، وإن كان المحدث للأمر غيره دون ريب ، فالمراد أجتنابه ، والابتعاد عن دائرته ، وإحلال الشكر محله ، تطبيقا لقوله تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنّكم )(1) . 4 ـ وفي قوله تعالى : ( مثل الجنّة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أُكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتّقوا وعقبى الكافرين النار * )(2) ، تجد جرسا موسيقيا ، وتخامر لذة علوية ، تأنس لها النفس ، وتهش لها الطبيعة الإنسانية ، وذلك عندما تتحدث الآية عن الملذات الحسية فضلا عن الملذات الروحية وأنت تتخيل الأنهار جارية ، وحولها الضلال الفسيحة ، والأكل الدائم ، وفي الجنة التي وعد المتقون . والأنهار وعاء للماء ومستقر له ، راكد أو سارب بأمر الله تعالى ، وهي ثابتة غير متنقلة ، فهي مكان الجري ، وما يجري فيها هو الماء ، فلما أسند الجري الى الأنهار علمنا عقلنا بالحكم عليه : أنه مجاز لأن الماء هو الجري إلا ان مكانه الأنهار ، فعبّر عن جريان ذلك الماء بجري الأنهار نفسها بوصفها مكانا له ، أو باعتبار الكثرة والغزارة في هذا الجري حتى ليخيل أن هذه الأنهار تجري بنفسها ، وإنما اعتبر المكان باعتبار الإسناد إليه ، والعامل الحقيقي غيره ، وما يدريك فلعل في هذا الاستعمال ـ وهو كذلك ـ من القوة في الاندفاع ، والسيطرة على النفس ، وعظيم التصوير الفني ، أضعاف ما في الاستعمال الحقيقي من الدلالة على المعنى المراد أداؤه بالضبط . 5 ـ وفي قوله تعالى : ( والضحى * والليل إذا سجى * )(3) ، تبرز ____________ (1) إبراهيم : 7 . (2) الرعد : 35 . (3) الضحى : 1 ـ 2 .
( 136 )
دلالة المجاز العقلي في إسناد العامل المؤثر الى الزمان ، فسجى بمعنى سكن ، والليل وإن وصف بالسكون فسكونه مجازي لأنه غير قابل للحركات المباشرة الت قد توصف بالهدوء حينا ، وبالفعالية حينا آخر ، وإنما أراد به سكون الناس عن الحركات ، وخلودهم الى السبات ، واستسلامهم الى الراحة . قال الراغب ( ت : 502 هـ ) « وهذا إشارة الى ما قيل : هدأت الأرجل » ،(1) فهو يعني بذلك هدوء الناس بهدوء حركاتها المنطلقة من أرجلها وجوارحها حينا ، ومن ضجيجها وصخبها حينا آخر . وهذا لا يمانع من القسم برب الضحى والليل إذا سجى ، أو بهما معا لما فيهما من عجائب الصنع ، وعلى الإيجاد ، وتقلب الكواكب ، وعظم الإبداع . 6 ـ وقد يتوسع بعضهم في المجاز العقلي في القرآن حتى يخالف فيه الظاهر ، أو يؤول تأويلا كلاميا ، ونحن وإن أعرضنا عن الخوض في هذا الملحظ بالذات ، لأن القرآن أسمى علاء وبيانا من الجزئيات الكلامية إلا أننا نورد هنا نموذجا من ذلك لئلا تكون ثغرة في البحث ، عسى أن لا يقال ذلك فيه ، والكمال لله وحده . ففي قوله تعالى : ( إنّ الّذين ءامنوا والّذين هادوا والنصارى والصابئين من ءامن بالله واليوم الأخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * )(2) ، قال الشيخ الطوسي ( ت : 460 هـ ) . « وقد استدلت المرجئة بهذه الآية على أن العمل الصالح ، ليس من الإيمان ، لأن الله تعالى أخبرهم عنهم بأنهم آمنوا ، ثم عطف على كونهم مؤمنين . إنهم إذا عملوا الصالحات ما حكمها ؟ قالوا : ومن حمل ذلك على التأكيد أو الفضل ، فقد ترك الظاهر . وكل شيء يذكرونه مما ذكر بعد دخوله في الأول مما ورد به القرآن : نحو قوله تعالى : ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ____________ (1) الراغب ، المفردات في غريب القرآن : 225 . (2) البقرة : 62 .
( 137 )
* )(1) ونحو قوله : ( وإذ أخذنا من النّبيّن ميثاقهم ومنك ومن نوح )(2) ، ونحو قوله : ( والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا )(3) ، وقوله : ( حم * )(4) . قالوا : جميع ذلك مجاز . ولو خلينا والظاهر ، لقلنا : إنه ليس بداخل في الأول . فإن قالوا : أليس الإقرار والتصديق من العمل الصالح ؟ فلا بد لكم من مثل ما قلناه ، قلنا : عنه جوابان ؟ أحدهما : أن العمل لا يطلق إلا على أفعال الجوارح ، لأنهم لا يقولون : عملت بقلبي ، وإنما يقولون : عملت بيدي أو برجلي . والثاني : أن ذلك مجاز ، وتحمل عليه الضرورة . وكلامنا مع الإطلاق(5) . ولا نريد الاسترسال في تطبيق أمثلة الممارسات البيانية الجديدة في مجاز القرآن العقلي من خلال علاقته في وجوه الاستعمال بل نريد التأكيد مجددا أن تتبع شذرات هذا المجاز في هذا العطاء الضخم ، قد مثل لنا الإرادة الاستعمالية المتطورة ، والمناخ الفني المضيء ، بما أفاده من قدرة خارقة في استيحاء التلازم الذهني بين الأصل وهو على طبيعته لم ينقل منها ، وبين الفرع الذي هو المجاز في إداركه من خلال الترابط البياني لدى الانتقال من معنى الى معنى جديد بحكم الإسناد ، لا بحكم الألفاظ ، وتلك ميزة المجاز العقلي في القرآن العظيم ، إفصاحا منها في ترجمة المشاعر ومسايرة العواطف ، وصيانة اللغة والتراث والشريعة دفعة واحدة . وبذلك يتحقق الغرض الفني والغرض الديني بلحاظ مشترك أنيق . ____________ (1) الرحمن : 68 . (2) الأحزاب : 7 . (3) الحديد : 19 . (4) محمد : 1 . (5) ظ : الطوسي : البيان في تفسير القرآن : 1/ 285 .
|