2 ـ المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد
بعد وضع اللمسات الأولية على تشخيص المجاز العقلي في القرآن ، ____________ (1) البقرة : 16 . (2) عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الاعجاز : 193 .
( 121 )
وعند العرب في الاستعمال والاستنباط ، لا بد لنا من إجمال القول في أمرين مساعدين على اكتشاف المجاز العقلي في القرآن من خلال استعراض عبد القاهر لذلك في حالتي الإثبات دون المثبت ، والإسناد في الجملة دون الألفاظ . 1 ـ ذهب عبد القاهر ( ت : 471 هـ ) أن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل ، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة(1) . ومسألة الإثبات والمثبت أشرنا إليها في كتابنا : « أصول البيان العربي » ، وهنا نلخص ما أوضحناه هناك وما استجد لدينا في فهمها من خلال النظر في التنظير : أ ـ حينما نمعن النظر في قوله تعالى : ( يجعلون أصابعهم في ءاذانهم )(2) . نرى أن الجعل هنا هو الوضع ، والوضع حاصل على حقيقته ، ولا مجاز فيه ، باعتباره جاريا على الأصل ، ولو تحقق فيه فرضا لكان مجازا لغويا ولا شاهد لنا معه ؛ وإنما المجاز في الإثبات دون المثبت ، ولما كان الجعل مثبتا دون ريب ، وضعنا أيدينا على الإثبات ، وهو في الآية الأصابع ، لأن المراد بهذا الوضع من الأصابع : ذلك القدر المحدود من الأصابع الذي تستوعبه الآذان في الوضع ، وهو عادة : الأنامل فحسب ، والأنامل بعض الأصابع ، وهنا تحقق المجاز في الإثبات ، وهو الأصابع لإرادة الأنامل منها ، لأن المثبت ، وهو أصل الوضع حاصل على حقيقته اللغوية ، وقد اكتشف في الإثبات عن طريق الإسناد وبحكم الدلالة العقلية ، على أن هذا الانطباق في المجاز العقلي قد يصدق أيضا في المجاز اللغوي في هذا الملحظ بالذات ، ويكون ذلك من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء(3) . ب ـ وفي قوله تعالى : ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون * )(4) . ____________ (1) ظ : عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة : 344 . (2) البقرة : 19 . (3) ظ : المؤلف ، أصول البيان العربي ، رؤية بلاغية معاصرة : 45 . (4) الدخان : 16 .
نلحظ أن البطش واقع لا محالة ، ومن قبل الله سبحانه وتعالى ، فهو جار على حقيقيته ، وهذا هو المثبت ، فالبطش إنما يقع حقيقة في اليد ذات الطول والقوة والتحطيم ، فإذا أريد به المجازية نقلناه الى المعنى الذي يصدر عادة من الجوارح ، وهو هنا ـ والله العالم ـ ليس كذلك إذ لا يصدر عن يد ، ولا يخرج من جارحة ، فالله منزه عن الجوارح ، بدلالة عقلية وهنا يأتي الإثبات محل الإشكال ، فهو بطش لا كالبطش المعتاد ، وانتقام لا كالانتقام المتعارف ، وهو واقع دون شك ، ولكن بغير الأدوات المعتادة ، وإذا كان واقعا فالإثبات فيه حاصل ، بل وأكثر من ذلك فقد أسند للبطشة الكبرى ليشمل جميع أصناف البطش ، ويستوعب أشد نماذجه وأقساها ، فهو كبير من كبير ، وليس مما اعتاده البشر ، ولا سمع به الناس ، ويكفي في الدلالة على غير ذلك نسبته الى ذاته القدسية ( إنا منتقمون ) لتأكيد صرامة هذا البطش ، وقوة هذه الإرادة ، دون استعمال الوسائل المعتادة في البطش البشري ، بل فوق تصور الإنسان ، بل وليس في مقدوره الإحاطة بكنهه المتطاول ، وقد جاء في إثباته من الوعيد الصارم ، والترهيب القاطع ما هو جلي عند أهل اللسان . إن هذه الملاحظة لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته وتوجيهاته في الحمل على الإرادة المجازية في النظر العقلي . ج ـ وقد تنقلب الحال فيقع المجاز في المثبت ، وتكون الحقيقة في الإثبات ، فمثال ما دخل المجاز في مثبته دون إثباته قوله تعالى : ( أوَ من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس . . . )(1) . ويعقب عبد القاهر على ذلك ، ويعده من باب المجاز اللغوي بناء على قاعدته السابقة : إذا وقع في الإثبات فالمجاز عقلي ، وإذا وقع في المثبت فالمجاز لغوي ، يقول : « وذلك أن المعنى والله أعلم ، على أن جعل العلم والهدى والحكمة ____________ (1) الأنعام : 122 .
( 123 )
حياة للقلوب على حد قوله تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا . . . )(1) . فالمجاز في المثبت وهو الحياة ، فأما الإثبات فواقع على حقيقته لأنه ينصرف الى أن الهدى والعلم والحكمة فضل من الله وكائن من عنده . ومن الواضح في ذلك قوله تعالى : ( فأحيينا به الأرض بعد موتها )(2) وقوله تعالى : ( إن الذي أحياها لمحي الموتى )(3) . جعل خضرة الأرض ونضرتها وبهجتها بما يظهره الله تعالى فيها من النبات والأنوار والأزهار وعجائب الصنع حياة لها ؛ فكان ذلك مجازا في المثبت من حيث جعل ما ليس بحياة حياة على النسبية ، فأما نفس الإثبات فمحض الحقيقة لأنه إثبات لما ضرب الحياة مثلا له فعلا لله تعالى ، ولا حقيقة أحق من ذلك(4) . ويتابع عبد القاهر تقرير حقيقة الفصل بين المجاز اللغوي والعقلي ، بما يشبه الحكم القاطع الذي لا تردد معه ، فيقول : ومما يجب ضبطه في هذا الباب أن كل حكم يجب في العقل وجوبا حتى لا يجوز خلافه فإضافته الى دلالة اللغة ، وجعله مشروطا فيها محال ، لأن اللغة تجري مجرى العلامات والسمات ، ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه وخلافه(5) .
***
2 ـ ولما كان المجاز العقلي إنما يعرف باعتبار طرفيه ، وهما المسند والمسند إليه ، لأنه إنما يقع في الجملة ، والجملة تعرف بالتركيب ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون إسنادها ، لأنه ليس من باب اللفظ المفرد فينظر له بالاستعارة ، ولا يرى في الكلمة المنقولة عن الأصل فينظر له في المجاز المرسل ، وإنما هومكتشف من الإسناد وما يؤول اليه المعنى في ____________ (1) الشورى : 52 . (2) فاطر : 9 . (3) فصلت : 39 . (4) عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة : 343 وما بعدها . (5) المصدر نفسه : 347 .
( 124 )
ضوئه ، والإسناد يعرف بطرفيه ، وهذان الطرفان في المجاز العقلي في القرآن لهما صيغ مختلفة تحدد بما يأتي : أ ـ الطرفان حقيقيان : ولا علاقة لهما بالمجاز منفردين إلا بضم بعضهما الى البعض الآخر كقوله تعالى : ( وأخرجت الأرض أثقالها * )(1) . فإن الإخراج حقيقي ، والأرض حقيقة ، ولا مجاز بهما وحدهما ، ولكن المجاز العقلي مستنبط من أقترانهما ، وبإسناد الإخراج الى الأرض ، لأن المخرج حقيقة هو الله تعالى ، وليس للأرض قابلية الإخراج ، فلا إرادة لها ، وفاقد الشيء لا يعطيه ، فلما أسند لها الإخراج علمنا ضرورة بمجازية الأستعمال إسنادا بحكم العقل . ب ـ الطرفان مجازيان : نحو قوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم . . . )(2) . فالربح هنا مجازي ، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في بيع البضائع ، والتجارة هنا مجازية ، فلا يراد بها المعاملات السوقية ، وإنما المراد بالربح تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة وعدم خسران الأعمار ، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإنابة وصالح الأعمل . ونظير هذا المجاز العقلي في طرفيه المجازيين كثير في القرآن الكريم ، ومن أبرز مظاهره في مثالين بآية واحدة قوله تعالى : ( أُولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين * )(3) . فالشراء هنا مجازي ، ولا يراد به إجراء العقد في إنجاز صفقات البيع ، والضلالة وإن كانت حقيقة ، إلا أنها ليس مما يشترى بالهدى ، ولا مما يباع به ، وكلا الإسنادين مجازي ، وبقية الآية تقدم فيها الكلام . وكذلك قوله تعالى : ( بئسما اشتروا به أنفسهم . . . )(4) . ج ـ الطرفان مختلفان كقوله تعالى : ( تؤتي أُكلها كلّ حين )(5) . ____________ (1) الزلزلة : 2 . (2) (3) البقرة : 16 . (4) البقرة : 90 . (5) إبراهيم : 25 .
( 125 )
فإن نسبة إيتاء الأكل الى الشجرة مجازية ، لأن المؤتي هو الله تعالى ، ولكن الأكل هنا حقيقة ، وهو ثمرة الشجرة فكان أحد الطرفين مجازيا والثاني حقيقيا . وعليه يحمل قوله تعالى في نموذجين مختلفين بآية واحدة ، وهو قوله تعالى : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * )(1) . ( فكسب ) و ( أحاطت ) كلاهما مجازان ، و ( سيئة ) و ( خطيئة ) كلاهما حقيقيان ؛ ونسبة الكسب الى الإنسان في السيئات مجازية ، لأن السيئات ليس مما يكتسب به الإنسان حقيقة ، ولا هي قابلة لهذا الإعتبار ، إلا أنها استعملت ونسبت عقليا بحكم الإسناد ، وكأن صاحبها قد عمل فكان كسبه خسرانا لأن نتيجة هذا الكسب هو السيئات ، وكذلك الحال بالنسبة لإسناد الإحاطة بالخطيئة ، فالإحاطة تتطلب مكانا ومحلا يمكن الأستدارة عليه كإحاطة الخاتم بالأصبع ، أو السوار باليد ، أو السجن بالسجين ، وهكذا ، فكان الأول مجازا والثاني حقيقة ، واكتشف المجاز العقلي من اقتران الطرفين .
|