1 ـ تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب
المجاز العقلي هو الذي تتوصل إليه بحكم العقل ، وضرورة الفطرة ، وسلامة الذائقة ، فيخلصنا من مآزق الالتباس ، وشبهات التعبير ، فتنظر اليه ـ وهو يثير الإحساس ـ مشخصاً عقليا ، وكأنك تراه ، وتلمسه ـ وهو يهز الشعور ـ شيئا مدركا ، وكأنك تبصره ، طريقة استعماله تنم عن نتائج إرادته ، ودلالته في الجملة تكشف عن حقيقة مراده ، فالالفاظ فيه لم تنقل عن أصلها اللغوي ، فهي هي تدل على ذاتها الوضعية بذاتها ، والكلمات لم تجتز موضعها في اللغة الى مقارب له أو مشابه ، لا من قريب ولا من بعيد ، لهذا يقتضي إزاحة الستار عن هذا المجاز لذائقة خاصة ، وريادة متبلورة ، فليس في المفردات مايدل على مجازية الاستعمال ، وإنما يستشعر ذلك حسيا وعقليا معا عن طريق التركيب في العبارة ، والإسناد في الجملة ؛ فهو مستنبط من هيأة الجملة العامة ، ومستخرج من تركيب الكلام التفصيلي دون النظر في لفظ معين ، أو صيغة منفردة ، وهذا ما يميزه عن المجاز اللغوي كما سترى ؛ فهو إطار جديد ، ونتاج جديد ، بأسلوب جديد . ويعود كشف هذا النوع من المجاز الى عبد القاهر ( ت : 471 هـ ) فهو مبتدعه ومبتكره من خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن الإصطلاحي ، ومجازات العرب في أشعارها وتراثها ، ويرجع الفضل فيه اليه في بيان أبعاده الحقيقية فهو رائده الأول كما يبدو لنا ، وما يراه الدكتور طه حسين من ذي قبل(1) . ____________ (1) ظ : طه حسين ، مقدمة كتاب نقد النثر ، لقدامة : 29 .
( 118 )
ويسمى عبد القاهر هذا المجاز بعدة أسماء متعددة ، تعود الى معنى واحد ، فحينما يسند اكتشافه الى العقل السليم يسميه : مجازا عقليا ، وحينما يتوصل اليه بحكم العقل يسميه : مجازا حكميا ، وحينما يراه في الإثبات دون المثبت يسميه : مجازا في الأثبات ، وحينما يظهر له من إسناد الجملة يسميه : إسنادا مجازيا أو مجازا إسناديا(1) ، وقد نبه يحيى بن حمزة العلوي ( ت : 749 هـ ) الى فكرة ابتكاره وتشخيصه وتسميته ، أسندها الى عبد القاهر ليس غير ، فقال : « إعلم ان ما ذكرناه في المجاز الإسنادي العقلي ، هو ما قرره : الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجاني ، واستخرجه بفكرته الصافية ، وتابعه على ذلك الجهابذة من أهل هذه الصناعة ، كالزمخشري وابن الخطيب الرازي وغيرهما »(2) . وهذا التنبيه من صاحب الطراز في موقعه لأن من جاء بعد عبد القاهر قد استند اليه ، ولم يزد عليه ، بل بقي متأرجحا فيه بين عدة مداليل ، وقد يلجأ الى التطبيق عليه دون النظر في المفهوم ، ولنأخذ بذلك نموذجين : الأول في التعريف : فقد ذهب السكاكي أن المجاز العقلي هو : « الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم لضرب من التأويل ، إفادة للخلاف لا بواسطة وضع ، كقولك : انبت الربيع البقل ، وشفى الطبيب المريض ، وكسا الخليفة الكعبة ، وهزم الأمير الجند ، وبنى الوزير القصر »(3) . فالسكاكي هنا في مجال التعريف والتمثيل معا ، لم يزد شيئا على ما حققه عبد القاهر في التعريف حينما قال عن المجاز العقلي : « وحدّه أن كل كلمة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه من العقل لضرب من التأويل فهو مجاز »(4) . ____________ (1) ظ : عبد القاهر ، دلائل الاعجاز : 227 ، أسرار البلاغة : 338 . (2) العلوي ، الطراز : 3/257 . (3) السكاكي ، مفتاح العلوم : 208 . (4) عبد القاهر الجرجاني ، أسرار البلاغة : 356 .
( 119 )
الثاني في التطبيق : ووفق هذا الفهم للمجاز العقلي عند عبد القاهر تجد الزمخشري ( ت : 538 هـ ) يخرج المعنى الكامل ، مخرج المجاز في قوله تعالى : ( مثل الذّين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون * )(1) . فقد حملها على الإرادة المجازية في النظر العقلي ، ناظرا التركيب الجملي دون اللفظ المفرد ، من خلال تشخيص عبد القاهر للمجاز العقلي ، فيتحدث عن الآية ويقول : « أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، فكأنه قال : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لوكانوا يعلمون »(2) . وما دام عبد القاهر هو السبّاق لتشخيص المجاز العقلي ، وما دام غيره ، لم يزد عليه شيئا ، فسيكون حديثنا منصبا حول ما أبدعه في هذا المضمار بالدرجة الأولى . فلقد حقق عبد القاهر في المجاز الحكمي عنده ، والعقلي عنده وعند من بعده ، ورأى أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي ، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل لدى استقراء الجمل في التركيب ، والنظر في مجموعة المفردات المكونة للكلام ، فهو يقول : « واعلم أن طريق المجاز والاتساع . . إنك ذكرت الكلمة وأنت لا تريد معناها ، ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه ، فتجوزت بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه . وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الكلام مجازا على غير هذا السبيل . وهو : أن يكون التجوز في حكم يجري على الكلمة فقط ، وتكون الكلمة ____________ (1) العنكبوت : 41 . (2) الزمخشري ، الكشاف : 3/455 .
( 120 )
متروكة على ظاهرها ، ويكون معناها مقصودا في نفسه ، ومرادا من غير تورية ولا تعريض . والمثال فيه قولهم : نهارك صائم وليلك قائم ، ونام ليلي ، وتجلى همي ، وقوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم . . . )(1) . وقول الفرزدق :
سقاها خروق في المسامع لم تكن * علاطا ولا مخبوطة في الملاغم
وقد عقب على هذه النماذج بقوله : « أنت ترى مجازا في هذا كله ، ولكن لا في ذوات الكلم وأنفس الألفاظ ، ولكن في أحكام أجريت عليها ، أفلا ترى أنك لم تتجوز في قولك : « نهارك صائم وليلك قائم » في نفس « صائم »« وقائم » ولكن في أن أجريتهما خبرين عن الليل والنهار ، كذلك ليس المجاز في الآية في لفظة « ربحت » نفسها ، ولكن في إسنادها الى التجارة . وهكذا الحكم في قوله : سقاها خروق ، ليس التجوز في نفس « سقاها » ولكن في أن أسندها الى الخروق . أفلا ترى أنك لا ترى شيئا منها إلا أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته ؟ فلم يرد بصائم غير الصوم ، ولا بقائم غير القيام ، ولا بربحت غير الربح ، ولا بسقت غير السقي . . »(2) . فتشخيص المجاز العقلي إنما يتم بمعرفة الأحكام التي أجريت على الألفاظ في إسناد بعضها لبعض ، والألفاظ بذاتها محمولة على ظاهرها لا تجوز فيها ، واكتشف المجاز العقلي لدى اقترانها ، وكان طريق ذلك العقل في حكمه على النصوص ، إذا كان المجاز واقعا ومتحققا في الإثبات ، وهو ما تبحثه الصفحات الآتية :
|