3 ـ الخصائص النفسية في مجاز القرآن
ليس أمرا سهلا ، أن يساير النص الأدبي النفس الإنسانية ، وليس هينا أن تتطلب النفس أيضا نصا أدبيا ، فالنفس جموح لا تهدأ ، وغروف لا تكبح ، وشرود لا يسيطر عليها نص اعتيادي ، أو فن قولي ، دون أن تتمثل به أرقى مميزات الانجذاب التلقائي ، والبعد النفساني المتوازن ، فتقبل عليه النفس اشتياقا أو إيناسا ، وتعزب عن سواه نفورا أو إيحاشا . النص وجودته وحدهما يهيئان المناخ المناسب في النفس الإنسانية إقبالا على النص أو عزوفا عنه . ومن ثم فالمجاز القرآني وهو ينقل اللفظ من صورة الى صورة أخرى على النحو الذي يريده المصور ، فإن أراد منهها في صيغتها الحقيقية . فأنت تستطيع في المجاز تكييف النص الأدبي نحو المعنى المراد ، دون توقف لغوي أو معارضة من دلالة اللفظ ____________ (1) الزمخشري ، الكشاف 1 : 85 .
( 97 )
المركزي ، وذلك بحسب ما تريده من إثارة النفس ، أو إلهاب العاطفة ، أو إذكاء الشعور في حالتي الترغيب والتنفير ، وهما حالتان متعلقتان بالحس العاطفي لدى الإنسان ، وناظرتان الى الانفعالات الوجدانية في النفس الإنسانية . أ ـ في توجيه النفس نحو الترغيب تقف على « قاصرات الطرف » في حكايتها المجازية من قوله تعالى : ( وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنّهن بيض مكنون * )(1) . والحدث حقيقي الوقوع بأبعاده التصويرية المتأنقة ، ولكنك ترى ما في الوصف ، والتعبير عن النساء بقاصرات الطرف وليس في طرفهن قصور ، من التراصف البياني المرتبط بإثارة النفس للتعلق بمن تنطبق عليه هذه العبارة ، أو تتحقق فيه هذه الأوصاف التي تطمئن اليها الروح الإنسانية وتهش لها الذات البشرية ، ويتطلع اليها الخيال متشوقا مع نقاء الصورة ، ولطف الاستدراج ورقة الترغيب المتناهي ، فقد وصف نساء أهل الجنة بحسن العيون الناظرة الى أزواجها فحسب عفة وخفرا وطهارة ، دون التردد في النظر الى هذا وذاك ، وأضاف الى هذا الملحظ التشبيه الحسي بالبيض المكنون على عادة العرب في وصف من اشتد حجابه ، وتزايد ستره ، بأنه في كن عن التبرج ومنعة من الاستهتار . ب ـ وأما في التنفير ، فتزداد النفس عزوفا ، وتتوارى عن الصورة المتخيلة أو المتجسدة نفورا ، حتى يبدوا الإشمئزاز منها واضحا ، والاستهانة يوخامتها متوقعا فضلا عن الهلع والرعب في صورة الهلع والرعب ، والخوف والتطير في نموذج الخوف والتطير إذا حققت هذا أو ذاك الصورة الشديدة في التنظير المجازي ، وإن شئت فضع يدك على الدلالة المجازية في إرسال الريح العقيم على عاد وهي ( ما تذر من شيء أتت عليه ) من قوله تعالى : (وفي عاد إذ ارسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم * )(2) . سترى كيف ازدادت عندك الحالة المتصورة سوءا ، وكيف نفر منها ____________ (1) الصافات : 48 ـ 49 . (2) الذاريات : 41 ـ 42 .
( 98 )
طبعك فرارا ، فما هو شأن هذه الريح المشومة التي أسند إليها التدمير التام ( ما تذر ) وأسندت إليها الفاعلية في يسر ومطاوعة ( أتت ) حتى جاءت بعذاب الاستئصال . فما هي خصائص هذه الريح بهذه المطاوعة في التسخير للهلاك العام حتى عاد كل شيء ( أتت عليه ) كالورق الجاف المتحطم ، نظرا لشدة عصفها ، وسرعة تطايرها ، وخفة مرورها . وحديث النفس في مجاز القرآن ذو سيرورة وانتشار حتى عاد جزءا قويما من خصائصه الفنية دون ريب ، وهو يتجلى في عدة مظاهر تقويمية يمكن الإشارة إليها بما يلي : 1 ـ في نماذج المجاز القرآني نجد دلالة ذات أهمية مشتركة بيانية ونفسية في آن واحد ، يعبر في هذه الدلالة عن علاقة اللغة بالفكر ، والفكر بالعاطفة ، والعاطفة بالنفس . وفي هذا الخصوص كثيرا ما يفجؤك المجاز القرآني وقد تعدى حدود اللغة الى النفس ، ومناخ الاتساع الى الخيال ، فهو طالما تجده يسند الاحساس الى الجماد ، فيصفه بالفاعلية ، لتتوجه النفس اليه وينحصر الحدث به وكأنه فاعله ، ويريك الحركة وهي دائبة في العوالم الصماء ، فكأنها ناطقة تتكلم ، فيصك بذلك أسماعا غير واعية ، وآذانا غير صاغية ويضفي ملامح القوة على ما لا قوة فيه ، وكأنه رائد متمكن . وليس هذا وذاك إلا من مظاهر الخصائص النفسية في الاسلوب الذي يحرك الضمائر حينا ويهز المشاعر حينا آخر ، ويبعث الخواطر سواهما ، ولعله يريد بذلك أن يفجر روافد جديدة ذات إطار تجريبي في محاكاة غير المحسوس للمحسوس ، ومماثلة الإدراك في غير المدرك كما هو في المدركات ، لأن في ذلك انتقالا في الصورة الى داخل النفوس وواقع الخبايا في النفس المعتبرة بما تضفيه المجازات القرآنية من أبعاد جديدة ، ولعل خير مايمثل هذا الاتجاه الحيوي التأمل في كل من قوله تعالى : أ ـ ( وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مّطمئنّة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان . . . )(1) . ____________ (1) النحل : 112 .
( 99 )
ففي هذا الأنموذج الأعلى عدة استعمالات مجازية تدور حول هذا الفلك من البيان العربي الصميم ، ومهمته إذكاء الحفيظة في النفس لتلافي التقصير المتعمد في ذات الله ، فقد وصف القرية بكونها آمنة مطمئنة ، وقد علم بالضرورة أن الأمن والاطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها ، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها ، فعبر مجازا عن طريق إطلاق أسم المحل وهو القرية على الحال فيها وهم الأهل والسكان . وعبر عن الرزق بأنه يأتي والرزق ليست له حركة ولا إرادة في التنقل والقصد ، وإنما الله تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق ، ويأتي بها ـ وهو الرزاق ذو القوة المتين ـ من كل مكان الى هذه القرية ، تعبيرا عن تنعمها وعيشها الرغيد ، وذلك ما تهش إليه النفس ، فكان الرزق دون عناء يقصدها سائرا عامدا متوافرا . وهذا الوصف لهذا الهناء لا يمانع من الوعيد في إفنائه واستبداله بالعناء ، فكلاهما من الصور النفسية : ب ـ ( مثل الّذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الرّيح في يوم عاصف . . . )(1) . فستقف عند حقيقتين مجازيتين يرتبطان بشد النفس إليهما والوقوف بتأمل ويقظة وحذر عندهما : الأولى : إسناد الاشتداد الى الريح ، لتهيئة المناخ النفسي لتلقي هذه الصورة ، وحصر التفكير في كيفية هذه الريح ونوعيتها ، فهي فاعلة متحركة ، دائبة ، متموجة ، طاغية ، مطاوعة ، وليس للريح حول ولا طول في الملحظ التكويني ، فلا هي مشتدة حقيقة ولا هي جارية واقعا ، وإسناد هذا وذاك إليها كان بسبيل من المجاز ، لأن تسخيرها بالله وحده ، فلا إرادة للريح ولا طواعية ، والمجاز هو الذي طوع هذه الحقيقة اللغوية ، فأعارها مناخا جديدا ، وكأن الريح قائمة ، والجري على أشده ، والحركة ذاتية . الثانية : إسناد الفاعلية والصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل ____________ (1) إبراهيم : 18 .
( 100 )
الحقيقي ، فقد أسند عصف الريح الى اليوم ، وهو دال على زمان من الأزمان ، ولا تستند إليه الفاعلية حقيقة إلا على نحو المجاز ، وهو كذلك ، وهذا أيضا مما نظر فيه الى النفس ليخلص اتجاهها في تصور شدة ذلك اليوم ، وعصف ذلك اليوم ، وحديث ذلك اليوم ، دون التفكير في الهوامش والجوانب الفائضة ، فكأن المراد هو اليوم فنسب إليه العصف ، فأقام اليوم مقام المضاف المذوف في التقدير اللغوي الأصل ، فهو يوم ذو عصف إن صح ما تأولوه . وقد يكون هذا الإدارك على سبيل التعبير عن شدة الأمر ، وقيام العصف على أشده في ذلك اليوم ، مما يهم الإنسان ، فارتبط الحدث به نفسيا ، فأسند إليه الفعل كما هي الحال في هوله تعالى : ( فكيف تتّقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا * )(1) . يقول الدكتور أحمد بدوي معلّلا هذه النسبة نفسيا : « ولما كان يوم القيامة تملؤه أحداث مرعبة ، تملأ النفوس هولا يتسبب عنها لشدتها الشيب ، وكان هذا اليوم ظرفا لتلك الأحداث ، صح أن يسند الشيب إليه »(2) . 2 ـ وإذ يوصلنا الى يوم القيامة ، فإن التعبير المجازي عن هذا اليوم يزداد جلاء ، فيعكس الحدث مقترنا بذلك اليوم ، ومنسوبا الى عوالمه الصامتة ، وإذا بها ناطقة تتكلم ، ومفصحة تعرب عما في الدخائل ، ويتجلى هذا في كل من قوله تعالى : ( يومئذ تحدّث أخبارها * )(3) . والضمير عائد الى متقدم لفظا ورتبة كما يقول النحاة ، وتقدير الكلام عندهم : تحدث الأرض أخبارها ، والحقيقة اللغوية أن يتحدث ذو النطق بألته ، وذو اللسان بأداته ، لا الجماد بعجمته ، فهل هو تمثيل يعني : أن ما ____________ (1) المزمل : 17 . (2) أحمد أحمد بدوي ، من بلاغة القرآن : 223 . (3) الزلزلة : 4 .
( 101 )
يحدث في ذلك اليوم ، وما يجري فيه من الشدائد الهائلة ، والشدائد تثير الهلع في النفس ، والمنظور هنا نفساني لا شك ، والتغيير الكوني يؤكد الاهتمام المتزايد لدى الإنسان ، بعد زلزلة الأرض ، وإخراج الأثقال ، وذهول الإنسان لتلك الأحداث الجديدة ، فهو يتسائل في حيرة وعجب واستغراب : ( وقال الأنسان ما لها * )(1) فإذا أضفنا إليها السماوات بعوالمها ، والأرض بكل مواقعها : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) هذه الكائنات كلها ناطقة بجمهرة من الأحداث ، فهي تتحدث عنها ، وتفصح عن أهوالها ، كما يقال : رزء يعبّر عن كارثة ، وخطب ينبي عن شدة ، وليس الرزء معبرا حقيقة ، ولا الخطب بمنبىء . هذا المدرك المجازي يميل إليه الزمخشري بقوله : « والتحديث مجاز عن أحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان »(2) . وهو الذي تميل إليه الدكتورة بنت الشاطىء : « والذي نكمئن إليه ، هو أن تحدث الأرض على الإسناد المجازي ، فيه تقرير لفاعلية تستغني بها عن فاعل ، وتأكيد للظاهرة الأسلوبية المضطردة في حرف النظر عمدا عن الفاعل الأصلي لأحداث البعث والقيامة . ثم لا يغيب عنا ما لهذا الصنيع البياني من قوة إثارة وإيحاء ، فنحن نشهد صورة فنية معبرة ، فنقول في إعجاب : إنها تكاد نتطق ، والبيان القرآني المعجز لا ينطق الجماد فحسب ، بل يجرد منه كذلك شخصية حية ، فاعلة ناطقة مريدة مدركة »(3) . ب ـ إن ما سبق لنا القول فيه تؤكده أحداث القيامة ، من قول كما في قوله تعالى : ( يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مّزيد * )(4) . أو فعل وقوة كقوله تعالى : ( إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور * ____________ (1) الزلزلة : 3 . (2) الزمخشري : الكشاف : 4 / 276 . (3) بنت الشاطىء ، التفسير البياني : 1/ 92 وما بعدها . (4) ق : 30 .
( 102 )
تكاد تميّز من الغيظ * . . . )(1) ، أو شدة ناطقة فاعلة كقوله تعالى : ( يا أيها الناس أتّقوا ربّكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد * . . . )(2) وليست جهنم كائنا متكلما فتقول ، وتستمع وتجيب ، وإن كان ذلك غير بعيد إعجازا . وليست النار جسما مريدا وفاعلا فنستمع لشهيقها أو هي تفور ، أو تتميز من الغيظ . وليس في القيامة إرضاع حتى تذهل المرضعة عن رضيعها ، وليس هنالك وضع وولادة وإنجاب ، حتى تضع كل ذلت حمل حملها . إن التعبير بالمجاز بمعناه العام هو الذي صور هذه الأحداث بهذه الصور المثيرة ، وأبانها بهذه الهيأة الناطقة ، وسيّرها بهذه الإرادة التامة تنبيها للضمائر ، وتوجيها للعقول ، وتأثيرا على النفوس حتى تستعد لذلك اليوم الذي تنطق فيه جهنم ، وتفور فيه النار حتى يسمع شهيقها ، وحتى لتكاد تتقد من الغيظ وتنشق ، ذلك اليوم الذي لو أرضعت فيه المرضعة لذهلب عن رضيعها ، ولو توافرت فيه ذوات الأحمال لوضع أحمالها . إذن هذه خصائص نفسية يحملها المجاز القرآني ونحتضنها تعبيره الفريد من أجل الإنسان . دربة منه على الحذر والاستعداد والتهيؤ التام . جـ ـ وما يقال في ملحظ النطق والقول والقوة بالنسبة للنار يقال عينه بالنسبة للإيحاء الى الأرض في قوله تعالى : ( بأنّ ربّك أوحى لها * )(3) . والقضية تصور في مدرك عقلي محض ، فالوحي الإلهي هو الفعل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله(4) . ____________ (1) الملك : 7 ـ 8 . (2) الحج : 1 ـ 2 . (3) الزلزلة : 5 . (4) ظ : د . جميل صليبا ، المعجم الفلسفي : 2/570 .
( 103 )
وإذا كان الوحي فعلا متميزا ، فهو صادر عن فاعل مريد ، وهذا الفاعل المريد هو الله تعالى ، الى متلق ممتثل ، فتعلقه في الأرض إذن تعلّق مجازي ، إذ طريق الوحي هو التلقي ، والأرض غير قابلة للتلقي . لهذا فالإيحاء في الآية عند الزمخشري مجاز لا يستثني بهذا شيئا قال : « أوحى لها بمعنى أوحى إليها ، وهو مجاز كقوله تعالى : ( أن نقول له كن فيكون ) وكقول الشاعر : أوحى لها القرار فاستقرت(1) . وأصل الوحي هو : الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض وما مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به(2) . وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء(3) . ومؤدى ذلك واحد ، إذ الإشارة السريعة إعلام عن طريق الرمز ، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين(4) . ولهذا فقد كان الراغب دقيقا حينما عرض لمصطلح الوحي وقسمه فيما تنبه اليه بين القابل له والمستعصي عليه ، إلا أن يكون ذلك تسخيرا من قبل الله تعالى ، فقال : « فإن كان الموحى إليه حيا فهو إلهام ، وإن كان جمادا فهو تسخير »(5) . لهذا فقد ذهب الطبرسي ( ت : 548 هـ ) الى أن أوحى لها : أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها . . من جهة تخفى(6) . والسياق إنما يقوم على قوة هذه الفاعلية في تصوير هول الموقف الذي يدهش له الإنسان فيقول في عجب وقلق ما لها ؟ فاقتضى أن يأتيه ____________ (1) ظ : الزمخشري ، الكشاف : 4/276 . (2) قارن بين ذلك في : الراغب ، المفردات : 515 . الطبرسي ، مجمع البيان : 5/37 . (3) ظ : ابن منظور ، لسان العرب 20/258 . (4) ظ : المؤلف ، ظاهرة الوحي والمستشرقون . « بحث » في كتاب : ( المستشرقون وموقفهم من التراث العربي الإسلامي ) وقائع المؤتمر العلمي الأول لكلية الفقه : مطبعة القضاء ، النجف ، 1986 م . (5) الراغب ، المفردات : 515 . (6) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 5/526 .
الجواب ( بأنّ ربّك اوحى لها * )(1) . تحدث به الأرض نفسها تلقائيا ؛ فالإيحاء هنا مباشرة ، ليلائم إسناد التحدث الى الأرض . وسر قوته في أنه كذلك(2) . 3 ـ ومسايرة المجاز للنفس الإنسانية لا تقف عند حد معين ، ولا تختص بأقوام دون آخرين ، فالعبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومع هذا فقد نلتقط بعض الشذرات النادرة ، والتحف الثمينة في هذه الظاهرة المتأصلة ، ومن ذلك ما أورده تعالى في سورة الضحى من أقسام وأيمان كان للمجاز العقلي فيها نصيب متميز ، كما في قوله تعالى : ( والضّحى * والليل إذا سجى * )(3) . وسيأتي إبراز المجاز الإسنادي الحكمي لهذه الآية في محلها من فصل « المجاز العقلي في القرآن » والمهم هنا أن نبين أن القرآن العظيم كما توجه لإثارة النفس عند الناس ، فكذلك توجه لتهدئة النفس الإنسانية عند ذي أقدس نفس بشرية ، وهو الرسول الأعظم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبذلك يستوعب المجاز القرآني ، النفوس الاعتيادية والنفوس المقدسة الشريفة ، وقد تنبهت الدكتورة بنت الشاطىء لهذا الملحظ ونحن نؤيدها فيه بحدود . « المقسم به في آيتي الضحى ، صورة مادية ، وواقع حسي ، يشهد به الناس تألق الضوء في ضحوة النهار ، ثم يشهدون من بعده فتور الليل إذا سجا وسكن . يشهدون الحالين معا ، في اليوم الواحد ، دون أن يختل نظام الكون ، أو يكون في توارد الحالين عليه مما يبعث على إنكار ، بل دون أن يخطر على بال أحد ، إن السماء قد تخلت عن الأرض وأسلمتها الى الظلمة الموحشة ، بعد تألق الضوء في ضحى النهار » . فأي عجب في أن يجيء ، بعد أنس الوحي وتجلي نوره على المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فترة سكون يفتر فيها الوحي ، على نحو ما نشهد من الليل الساجي يأتي بعد الضحى المتألق(4) . ____________ (1) الزلزلة : 5 . (2) ظ : بنت الشاطىء ، التفسير البياني : 1/97 . (3) الضحى : 1 ـ 2 . (4) بنت الشاطىء ، التفسير البياني : 1/26 .
( 105 )
وهذا المناخ النفسي المتقلب بين الإيناس والإيحاش تؤيده قرائن الأحوال في إثارة توديع الله لنبيه من قبل المشركين ، وما يصاحب هذا الإعلام المضاد من فزع وقلق وحزن ، وما أعقبه بنزول السورة من فرح واغتباط وتطلع ، فكانت الفترة بين إبطاء الوحي ونزوله ، لم تكن عن ترك أو قلى ، فكان الوحي كالضحى في تألقه وسطوعه ، وانقطاعه كالليل في هدوئه وسكونه ، وكلا الأمرين طبيعيان .
|