3 ـ مجاز القرآن في مرحلة التأصيل
يبدو أن إبن قتيبة ( ت : 276 هـ ) كان سباقا الى بحث المجاز في ضوء القرآن في كتابه « تأويل مشكل القرآن » ولكن التحقيق في الموضوع لديه لم يمثل عملا مستقلا في هذا الباب ، بل شكّل بابا في الكتاب . وكان الدور الذي قام به الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) دورا حافلا ، إذ كتب « تلخيص البيان في مجازات القرآن » فكان بحثا متفردا ومتخصصا في الموضوع . ____________ (1) ابن رشيق ، العمدة في محاسن الشعر : 1 / 265 .
( 24 )
وجاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني ( ت : 472 هـ ) فسلط الأضواء على المجاز في كتابيه « دلائل الإعجاز » و « أسرار البلاغة » فكان المنظّر البياني في التطبيق القرآني للمجاز ، حتى بلغ البحث المجازي على يديه مرحلة النضج العلمي والتجديد البلاغي ، فعاد كلا منسجما ، وقالبا واحدا متجانسا بالمعنى الاصطلاحي الدقيق لمفهوم المجاز . وأتى بعد هؤلاء جار الله محمود بن عمر الزمخشري ( ت : 538 هـ ) فاعترف من بحري الرضي والجرجاني ، ما قوّم به أوده ، وصحّح منهجه ، وأضاف دقة الأختيار ، ولطف التنظير . فكان الزمخشري وهؤلاء الأقطاب الثلاثة قد دفعوا بمجاز القرآن فنا الى مرحلة التأصيل ، وبلغوا به شوطا الى قمة التأهيل ، فعاد معلما بارزا في التشخيص ، وعلما قائما يشار إليه بالبنان . وسنقتصر في الحديث عند هذه المرحلة على هؤلاء الأعلام ضمن حدود مقتضبة ، ولمسات إشارية عاجلة ، مهمتها إعلام الجهود ، وإنارة المعالم ليس غير . ولا يعني التأكيد على هؤلاء الأعلام : الغض من منزلة الآخرين ، أو بخس البلاغيين حقوقهم ، ولكن التوسع في « مجاز القرآن » عند إبن قتيبة والشريف الرضي وعبد القاهر والزمخشري ، قد فاق في مرحلة التأصيل ، واستقرار المصطلح المجازي ، حدود الإشارة والاختصار عند غيرهم ، وهو ما وقفنا عليه ، لهذا فإن حديثنا عنهم أمس صلة ، وألصق لحمة ، بمرحلة التأصيل منه عند سواهم . ومع هذا فقد أشرنا في نهاية هذا المبحث الى طائفة من الأعلام الذين ساهموا بإمكانات متفاوتة في هذا المجال : 1 ـ عقد إبن قتيبة ( ت : 276 هـ ) بابا خاصا للمجاز في كتابه : « تأويل مشكل القرآن »(1) . ويبدوا أن الهدف من ذلك كان كلاميا ، لأن أكثر ____________ (1) حققه في طبعة منقحة الدكتور السيد أحمد صقر وطبع عدة مرات : مطبعة الحلبي .
( 25 )
غلط المتأولين كان من جهة المجاز في التأويل ، فتشعبت بهم الطرق ، واختلفت النحل ، وكان بإمكان هؤلاء أن يرجعوا الى سعة المجاز ، فيحسم الأمر ، وتتبسط الدلالات ، لا أن يحملوا ماورد منه في القرآن على الحقيقة فتضلّهم الشبهات . وقد عمد أبن قتيبة لأبعاض من آيات القرآن الكريم ، وشرح في ضوئها ما يذهب اليه أهل التأويل القائلين بالحقيقة دون المجاز ، ليعود بذلك الى دائرة المجاز فينفي ما قالوا جملة وتفصيلا . وسيمر علينا في مجال التطبيق لآيات القرآن المزيد من رده على القائلين ببطلان المجاز في القرآن ، ومستشهدا على صحة القول به من خلال الأستعمال الميداني عند العرب في حياتهم اليومية لألفاظ متداولة ، وعبارات قائمة لا يمكن تأويله إلا بالمجاز . ولكن الملاحظ عند أبن قتيبة أنه قد يخلط الحقيقة بالمجاز ، فتحار باعتباره المجاز أحيانا ، والحقيقة مجازا ، ويحشر لذلك جملة من الآيات القرآنية دليلا على الموضوع . فهو كما يرى أستاذنا الدكتور بدوي طبانة : لا يرى في إرادة الحقيقة عجبا في مثل قوله تعالى للسماء والأرض : ( ائتيا طوعاً أو كرها ) وقولهما : ( أتينا طائِعين )(1) . أو قوله لجهنم ( هل امتلأت ) فتقول : ( هل من مّزيد )(2) . لأن الله تبارك وتعالى ينطق الجلود والأيدي والأرجل ويسخّر الجبال والطير بالتسبيح(3) . والحق أن ابن قتيبة صاحب مدرسة إجتهادية في استنباط المجاز من القرآن ، فهو يجيل فكره ، ويستعمل حدسه البلاغي في استكناه المجاز القرآني ليحقق مذهبه الكلامي في إثبات المجاز خلافا لفهم الطاعنين بوقوعه في القرآن . ففي قوله تعالى ( إن الذّين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ____________ (1) فصلت : 11 . (2) ق : 30 . (3) ظ : بدوي طبانة ، البيان العربي : 27 وانظر مصادره .
( 26 )
ودّاً * )(1) يرى أنه ليس كما يتأولون ، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبة ، فأنت ترى المخلص المجتهد محببا الى البر والفاجر ، مهيبا ، مذكورا بالجميل ، ونحوه قول الله سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام : ( وألقيت عليك محبّة مّنّي )(2) ، لم يرد في هذا الموضوع أني أحببتك ، وإن كان يحبه ، وإنما أراد أنه حببه إلى القلوب ، وقرّبه من النفوس ، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون ، حتى استحياه في السنة التي يقتل فيها الولدان(3) . ويستمر أين قتيبة في عمليتي الاستنباط والاستدلال عليه من خلال ذائقته الفنية ، وتمرسه في طلاقة البيان العربي ، فيذهب بالمجاز الى ابعد حدوده الاصطلاحية ، وكأنه فنّ قد تأصّل من ذي قبل ، وهذا من مميزات ابن قتيبة في استقراء البعد المجازي . ولعل من طريف ما استدلّ عليه بسجيته الفطرية قوله تعالى : ( وجعلنا نومكم سباتا * )(4) . فيذهب أن ليس السبات هنا النوم ، فيكون معناه فجعلنا نومكم نوما ، ولكن السبات الراحة ، أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم ، ومنه قيل : يوم السبت ، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة ، وكان الفراغ منه يوم السبت ، فقيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ، ولا تعملوا شيئا ، فسمي يوم السبت ، أي : يوم الراحة . وأصل السبت التمدد ، ومن تمدد استراح ، ومنه قيل : رجل مسبوت ، يقال : سبتت المرأة شعرها ، إذا نفضته من العقص وأرسلته ، ثم قد يسمى النوم سباتا ، لأنه بالتمدد يكون(5) . بهذا التذوق الدلالي ، والنظر الموضوعي ، فهم ابن قتيبة مجاز القرآن ، فهل كان من المؤصلين له ، هذا ما اعتقده بحدود غير مبالغ فيها ، شاهدها عشرات الصفحات في تأويل مشكل القرآن وقد خصصها لمجاز ____________ (1) مريم : 96 . (2) طه : 39 . (3) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن . (4) النبأ : 9 . (5) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن .
( 27 )
القرآن بما يعد من أروع البحوث المنجزة في الموضوع ، وستقرأه في جزئيات متناثرة في هذا الكتاب ، قد سبق الى نقطتين مهمتين في خدمة مجاز القرآن : الأولى : إشارته منذ عهد مبكر الى مسألة الطعن على القرآن في وقوع المجاز فيه ، ومناقشته ذلك ورده على الطاعنين بالموروث المجازي عند العرب وفي القرآن الكريم . الثانية : إيراده مفردات علمي المعاني والبيان في صدر كتابه بأسمائها الاصطلاحية الدقيقة التي تعارف عليها المتأخرون عن عصره ، وإن استخدام كلمة المجاز بمفهومها العام(1) . وزيادة على ما تقدم فقد جعل المجاز قسيما للحقيقة ، لأنه قسم الكلام الى حقيقة ومجاز(2) . وذهب الى أن أكثر الكلام إنما يقع في باب الاستعارة(3) . وهكذا شأن كل ما هو أصيل أن يعطيك الدقة قدر المستطاع . 2 ـ وليس جديدا أن يكون أبو الحسن الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز النبوي والقرآني بخاصة ، فقد كان ضليعا ببلاغة العرب ، وعلوم القرآن ، واللغة ، والشعر ، والنثر ، وحسن اختياره لطائفة هائلة من خطب وحكم ورسائل أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام ، وتسميته لذلك بـ « نهج البلاغة »(4) وتعليقاته وشروحه ووقفاته ولمساته البلاغية عليه ، دليل ريادته الأولى في الفن البلاغي ، وتمرسه الاستقرائي لأبعاده المختلفة . وكتابه القيم تلخيص البيان في مجازات القرآن »(5) حافل بالمجاز ____________ (1) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : 15 . (2) المصدر نفسه : 78 . (3) المصدر نفسه : 101 . (4) طبع مستقلا بتحقيق محمد عبده ، وطبع بشرح ابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم . (5) حققه الأستاد محمد عبد الغني حسن ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1955 .
( 28 )
اللغوي من القرآن وضروبه المتشعبة ، ولكنه يؤكد فيه « الاستعارة » والاستعارة جزء من المجاز تكون علاقة المشابهة ؛ وهكذا الاستعارة في القرآن . ويرى الدكتور بدوي طبانة أن نقصا كبيرا قد طرأ على الكتاب من أوله ، فلا تقرأ في بدئه ما اعتدنا رؤية مثله في أكثر المؤلفات من خطبة الكتاب ، وما حفز صاحبه على تأليفه ، ومنهجه في التأليف ، ولكن أول هذا المطبوع تمام لكلام سابق يتعلق بالمجاز الذي في أوائل سورة البقرة الى قوله تعالى ( وطُبع على قلوبهم )(1) . وكان يمكن لو عثر على هذا المفقودة ، أن يتبين بالنص معنى المجاز عند الشريف الرضي ، وعلى كل حال فإنه يقصر الدراسة على البحث في مجازات القرآن ، أي الألفاظ المستعملة في غير ما وضعت له ، وأكثر كلامه عن الاستعارات الواردة في القرآن(2) . ويبدو ان الأمر قد التبس على الدكتور بدوي طبانة في بدايات المطبوع من تلخيص البيان ، والذي يتضح بجلاء أن البداية الموجودة كانت من قوله تعالى ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم )(3) ، وهي الآية السابعة من البقرة ، و( طبع على قلوبهم ) هي الآية السابعة والثمانون من التوبة ، وكانت شاهدا على ما أورده الشريف الرضي من معنى الختم ومعنى الطبع ، « لأن الطبع من الطابع ، والختم من الخاتم ، وهما بمعنى واحد »(4) فكان كلام الرضي متعلقا بمجاز الختم الى قوله تعالى ( وعلى أبصارهم غشاوة )(5) . وطريقة الشريف الرضي في معالجاته لمجاز القرآن في تلخيص البيان إستقراء القرآن على ترتيبه المصحفي ، فيتعقب الآيات في السور القرآنية بحسب تسلسلها آية آية فإذا لمح المجاز وقف عنده وقفة الفاحص الخبير ، ____________ (1) التوبة : 87 . (2) ظ : بدوي طبانة ، البيان العربي : 30 . (3) البقرة : 7 . (4) الشريف الرضي : تلخيص البيان : 113 . (5) البقرة : 7 .
( 29 )
وأجرى لقلمه العنان في حدود الأستعمال المجازي دون إيجاز مخل أو إطناب مملّ كما يقال . وهو في ذلك منظر ومطبّق في آن واحد ، ومعتدّ برأيه البياني دون تردد ، فهو يورد المجاز ويشرحه ويستشهد عليه ، ويناقش فيه ، ويثبت القول الصراح باجتهاده القائم على أساس الكشف والإبداع والتبادر الذهني من خلال عمقه اللغوي ، ومنهجه البلاغي ، ومخزونه الثقافي المستفيض . وكان هذا العمل سبقا فريدا الى الموضوع ، لم يشاركه فيه أحد قبله ، وقد سار على منواله من جاء بعده ولكن في حدود مقتضبة لم تنهض بكتاب مستقل فيما أعلم . « ومن هنا كان « تلخيص البيان » أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو متابعة المجازات والاستعارات في كلام الله كله سورة سورة وآية آية ، ومن هنا كانت القيمة العلمية لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله لهذا الغرض . فهو يقوم في التراث العربي الإسلامي وحده شاهدا على أن الشريف الرضي خطا أول خطوة في التأليف في مجازات القرآن واستعاراته تأليفا مستقلا بذاته ، ولم يأت عرضا في خلال كتاب ، أو بابا من أبواب مصنّف »(1) . وإنك لتجد في منهجه هذا شذرات تلتقط وأنت ضنين بها . 1 ـ ففي قوله تعالى ( فأينما تولوا فثم وجه الله )(2) فإنه ينفي الجسمية والجهة عن الباري تعالى ويوجهها نحو المجاز بقوله « أي جهة التقرب الى الله ، والطريق الدالة عليه ، ونواحي مقاصده ومعتمداته الهادية إليه »(3) . 2 ـ وفي قوله تعالى ( الله وليّ الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات )(4) . ____________ (1) محمد عبد الغني حسن ، مقدمة تلخيص البيان : 30 . (2) البقرة : 115 . (3) الشريف الرضي : تلخيص البيان : 118 . (4) البقرة : 257 .
( 30 )
فيذهب الرضي أن المراد منها « إخراج المؤمنين من الكفر الى الأيمان ومن الغي الى الرشاد ، ومن عمياء الجهل الى بصائر العلم . وكل ما في القرآن من ذكر الإخراج من الظلمات الى النور فالمراد به ماذكرنا . وذلك من أحسن التشبيهات . لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط ويضل القاصد . والأيمان كالنور الذي يؤمه الحائر ، ويهتدي به الجائر ، لأن عاقبة الأيمان مضيئة بالأيمان والثواب ، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب . وفي لسانهم : وصف الجهل بالعمى والعمه ، ووصف العلم بالبصر والجلية »(1) . 3 ـ ويحمل الرضي قوله تعالى ( وقيل ياأرض ابلعي مآءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر )(2) على الاستعمال المجازي في صدور الأمر منه تعالى ، ويقول : « لأن الأرض والسماء لايصح أن تؤمرا أو تخاطبا . لأن الأمر والخطاب لا يكونان إلا لمن يعقل ، ولا يتوجهان إلا لمن يعي ويفهم . فالمراد إذن بذلك ، الأخبار عن عظيم قدرة الله سبحانه ، وسرعة مضي أمره ، ونفاذ تدبيره نحو قوله ( انما قولنا لشيء إذا أردناه أن نّقول له كن فيكون * )(3) ، إخبار عن وقوع أوامره من غير معاناة ولا كلفة ، ولا لغوب ولا مشقة . وفي هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة . وهو أن قوله سبحانه ( يا أرض ابلعي مآءك ) أبلغ من قوله : يا أرض اذهبي بمائك . لأن في الابتلاع دليلا على إذهاب الماء بسرعة . . . وكذلك الكلام في قوله سبحانه ( ويا سماء أقلعي ) لأن لفظ الأقلاع ههنا أبلغ من لفظ الإنجلاء . لأن في الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب ، كما قلنا في الابتلاع . وذلك أدل على نفاذ القدرة ، وطواعية الأمور ، من غير وقفة ولا لبثة ، هذا الى ما في المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة والفصاحة الشريفة »(4) . ____________ (1) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 121 . (2) هود : 44 . (3) النحل : 40 . (4) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 162 .
( 31 )
وفي قوله تعالى ( ففتحنا أبواب السمآء بمآء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * )(1) يقول الشريف الرضي ( المراد ـ والله أعلم ـ بتفتيح أبواب السماء تسهيل سبل الأمطار حتى لا يحبسها حابس ، ولا يلفتها لافت . مفهوم ذلك إزالة العوائق عن مجاري العيون من السماء ، حتى تصير بمنزلة حبيس فتح عنه باب ، أو معقول أطلق عنه عقال . وقوله ( فالتقى الماء على أمر قد قدر ) أي : اختلط ماء الأمطار المنهمرة ، بماء العيون المتفجرة ، فالتقى ماءاهما على ماقدره الله سبحانه ، من غير زيادة ولا نقصان . وهذا من أفصح الكلام ، وأوقع العبارات عن هذه الحال »(2) . 5 ـ وأظهر مما تقدم في مجاز القرآن عند الشريف الرضي نسبة الخشوع والتصدع الى الجبل في قوله تعالى : ( لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * )(3) قال الشريف الرضي : « وهذا القول على سبيل المجاز . والمعنى أن الجبل لو كان مما يعي القرآن ويعرف البيان لخشع في سماعه ، ولتصدع من عظم شأنه ، وعلى غلظ أجرامه ، وخشونة أكنافه . فالإنسان أحق بذلك منه ، إذ كان واعيا لقوارعه ، وعالما بصوادعه »(4) . وهذا الملحظ الدقيق في مجازية الآية عند الشريف الرضي مصدره : أن لازم الخشوع والتصدع والخشية ، والإدراك والمعرفة والسماع ، والجبل لا يسمع ولا يعي ، فتأمل أيها الإنسان وتفكّر بما ضربه الله لك من الأمثال . 6 ـ قلنا فيما سبق أن أغلب ما أورده الرضي في تلخيص البيان عبارة عما يقابل الحقيقة في الأستعمال ، والاستعارة عندهم كالمجاز باعتبارها استعمالا مجازيا وخلاف الأصل اللغوي ، لهذا كان « تلخيص البيان » حافلا ____________ (1) القمر : 11 ـ 12 . (2) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 318 . (3) الحشر : 21 . (4) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 330 .
( 32 )
في صنوف الاستعارات القرآنية ولعل من أبلغ ما أورده تعقيبا وشرحا وبيانا ، تلك الاستعارات التي كشف فيها عن ذائقته الفطرية في استحياء المراد القرآني وسأكتفي بإيراد بعض النماذج في ذلك : أ ـ في قوله تعالى ( وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون * )(1) قال الرضي : « وهذه استعارة . والمراد بها : أنهم تفرقوا في الأهواء واختلفوا في الآراء ، وتقسمتهم المذاهب ، وتشعبت بهم الولائج(2) ومع ذلك فجميعهم راجع الى الله سبحانه ، على أحد وجهين : إما أن يكون رجوعا في الدنيا . فيكون المعنى : انهم وإن اختلفوا في الاعتقادات صائرون الى الإقرار بأن الله سبحانه خالقهم ورازقهم ، ومصرفهم ومدبرهم . أو يكون ذلك رجوعا في الآخرة ، فيكون المعنى أنهم راجعون الى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال ، وموفّى الثواب والعقاب ، والى حيث لا يحكم فيهم ، ولا يملك أمرهم إلا الله سبحانه . وشبّه تخالفهم في المذاهب ، وتفرقهم في الطرائق ، مع أن أصلهم واحد ، وخالقهم واحد ، بقوم كانت بينهم ، وسائل متناسجة ، وعلائق متشابكة ، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق ، وشذب تلك الوصائل ، فصاروا أخيافا(3) مختلفين ، وأوزاعا مفترقين »(4) . ب ـ وفي قوله تعالى ( ومن النّاس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه )(5) يحمل الرضي الآية على التصوير الاستعاري ، ويعطيك معنى عبادة المرء ربه على حرف ، تشبيها بالقائم على جرف هار ، وحرف هاو . يقول : « والمراد بها ـ والله أعلم ـ صفة الإنسان المضطرب الدين ، الضعيف اليقين ، الذي لم تثبت في الحق قدمه ، ولا استمرت عليه مريرته ، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها ، ____________ (1) الأنبياء : 93 . (2) الولائج : جمع وليجة ، وهي بطانة الإنسان . (3) يقال : هم أخوة أخياف ، بمعنى : أمهم واحدة وآباءهم متعددون . (4) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 232 ـ 233 . (5) الحج : 11 .
( 33 )
ويفارق دينه لها ، تشبيها بالقائم على حرف مهواة ، فأدنى عارض يزلقه ، وأضعف دافع يطرحه »(1) . ج ـ وفي قوله تعالى ( والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم )(2) ، تبرز استقلالية الشريف الرضي في الرأي ، وشخصيته في النّقد ، واعتداده بصميم بلاغة العرب فيقول : « وهذه استعارة لأن تبوؤ الدار هو استيطانها والتمكن فيها ، ولا يصح حمل ذلك على حقيقته في الإيمان ، فلا بد إذن من حمله على المجاز والاتساع . فيكون المعنى أنهم استقروا في الإيمان كاستقرارهم في الأوطان . وهذا من صميم البلاغة ، ولباب الفصاحة ، وقد زاد اللفظ المستعار ههنا معنى الكلام رونقا . إلا ترى كم بين قولنا : استقروا في الإيمان ، وبين قولنا : تبوؤا . وأنا أقول أبدا : إن الألفاظ خدم للمعاني ، لأنها تعمل في تحسين معارضها ، وتنميق مطالعها »(3) . وحديثنا عن « تلخيص البيان » قد يطول لو استرسلنا فيه ، وفيما قدمناه من نماذج غناء في إقرار منهج هذه الدراسة القائمة على سبيل الإشارة والتلميح العابر لجهود المؤصلين . والأمر المنظور لدى الشريف الرضي في تلخيص البيان يتجلى في عدة حقائق نشير إليها : 1 ـ استقلاليتة في المنهج والفكر ، وأولويته في أولية هذا المنهج البلاغي كتابا مستقلا ، وكيانا قائما في مجاز القرآن . 2 ـ تورعه في ذات الله عن الجزم في المعنى القرآني ، إذ طالما نجده يبدأ تعقيبه على الآية بعبارة : والله أعلم . 3 ـ هذه العبارة المشرقة ، وهذا الأسلوب الحديث ، وذلك التدافع في الألفاظ ، وكأنك تقرأ فيه بلاغي اليوم لا بلاغي القرن الرابع الهجري . ____________ (1) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 237 . (2) الحشر : 9 . (3) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 330 .
( 34 )
لهذا فقد كان سليما ما قرره الدكتور محمد عبد الغني حسين في مقارنته بينه وبين سابقيه : أبي عبيدة وابن قتيبة ، في التعبير البلاغي ، والأداء الأدبي ، والذائقة الفنية ، فقال : « وخذ أي آية شئت من كتاب الله العزيز ، وتتبعها عند أبي عبيدة في مجازه ، وعند ابن قتيبة في مشكله ، وعند الشريف الرضي في تلخيص بيانه ، فإنك مؤمن معنا في النهاية بأن سليل البيت النبوي الكريم ، كان أغزر الثلاثة بيانا ، وأفصحهم لسانا ، وأبلغهم في التعبير عن مرامي القرآن بعبارة أدبية مشرقة ناصعة ، يتضح فيها ذوق الأديب ، ورقة الشاعر ، وحسن البليغ ، أكثر مما يتضح فيها فقه اللغوي ، وعلم النحوي »(1) .
***
3 ـ وأما الحديث عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) فقد سبق لنا القول أنه مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفينة(2) في كتابين الجليلين : « دلائل الإعجاز »(3) ، و « أسرار البلاغة »(4) . فقد سبر فيهما أغوار الفن القولي شرحا وإيضاحا وتطبيقا ، اعتنى باللباب من هذا العلم ، وأكد فيه على الجانب الحي النابض ، وابتعد عن الفهم العشوائي ، والخلط الغوغائي بين النظرية البلاغية وتطبيقاتها ، لم يعتن بالحدود المقيدة في علم المنطق ، ولم يعر للقوقعة اللفظية أهمية مطلقا ، كان وكده منصبا حول ما يقدمه من نتاج فياض إبداعي ينهض بهذا الفن الأصيل الى أوج عظمته ويدفع به الى ذروة مشاركته في بناء الهرم الحضاري ، فماذا يجني الباحث والمتعلم ، وهذا العلم نفسه ، من الجفاف في الحد ، او الغلظة في الرسم ، أو الصرامة المضنية في القاعدة . ____________ (1) محمد عبد الغني حسن ، مقدمة تلخيص البيان : 48 . (2) المؤلف ، أصول البيان العربي ، رؤية بلاغية معاصرة : 18 . (3) حققه لأول مرة كل من الأستاذ محمد عبدة ، ومحمد محمود الشنقيطي . القاهرة ، 1921 وصدرت مؤخرا طبعة منقحة ، بتحقيق محمود محمد شاكر ، مكتبة الخانجي ، القاهرة 1984 . (4) حققه ، وخرج آياته ، وضبطه ضبطا علميا فريدا الأستاذ الدكتور هلموت ريتر، مطبعة المعارف ، استانبول ، 1954 م .
( 35 )
انظر إليه وهو يتحدث عن أصالة « علم البيان » والمجاز أساسه وقاعدته الصلبة ببيان ساحر ، ومنطق جزل ، وهو يصرح باسمه اصطلاحا فيقول : « ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا ، وأبسق فرعا ، وأحلى جنى ، وأعذب وردا ، وأكرم نتاجا وأنور سراجا من « علم البيان » الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي ، ويصوغ الحلي ، ويلفظ الدرر ، وينفث السحر ويقري الشهد ، ويريك بدائع من الزهر ، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر ، والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها ، وتصويره إياها ، لبقيت كامنة مستورة ، ولما استبنت لها ـ يد الدهر ـ صورة ، ولاستمر السرار بأهلتها ، واستولى الخفاء على جملتها ، الى فوائد لا يدركها الإحصاء ، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء »(1) . لقد بحث عبد القاهر في أسرار البلاغة مفردات « علم البيان » وفي طليعتها المجاز ، وبحث في دلائل الإعجاز أغلب مفرجات علم المعاني ، وكرّ أيضا على المجاز . والسبب في هذا واصح لأن المجاز القرآني من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز . فالمجاز عنده في أسرار البلاغة نوعان : مجاز عن طريق اللغة ، وهو المجاز اللغوي ، ومضماره الاستعارة والكلمة المفردة . ومجاز عن طريق المعنى والمعقول ، وهو المجاز الحكمي ، وتوصف به الجمل في التأليف والإسناد(2) . وحد المجاز الحكمي « أن كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه من العقل لضرب من التأويل فهي مجاز(3) . وقد فرّق بين المجاز العقلي واللغوي في الحدود والاستعمال والإرادة ، وقال : « أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل ، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة »(4) . وكل من المجازين اللغوي ____________ (1) عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 4 . (2) ظ : عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 376 . (3) المصدر نفسه : 356 . (4) ظ : المصدر نفسه : 344 .
( 36 )
والعقلي لا يدرك الا في التركيب ، ووراء كل منهما معان غير ما يفهم من تكوين الجملة النحوي في الإيحاءات النفسية التي يستند إليها التصوير القرآني (1) . وهذا التقسيم لم يكن واضحا بدقته هذه قبل عبد القاهر بل كان المجاز بجملته يشمل صور البيان بعامة ، وقد يتخصص بالاستعارة والمجاز كما هي الحال عند الشريف الرضي كما أسلفنا . وقد استنار بهذه التسمية كل من فخر الدين الرازي ( ت : 606 هـ ) وأبي يعقوب السكاكي ( ت : 626 هـ ) بل هما قد نسخا رأي عبد القاهر نسخا حرفيا . فالرازي يقسم المجاز الى قسمين : مجاز في الإثبات ، ومجاز في المثبت ،وهما العقلي واللغوي ، وعنده أن المجاز في الإثبات إنما يقع في الجملة ، وأن المجاز في المثبت إنما يقع في المفرد(2) . والسكاكي يقسم المجاز الى قسمين : لغوي وعقلي ، واللغوي الى قسمين : خال من الفائدة ، ومتضمن لها ويسميها الاستعارة . إلا أنه يغض النظر عن المجاز العقلي ، ويؤكد على اللغوي ، وكأنه يميل الى عدّه أساس المجاز (3) . وفي « دلائل الإعجاز » نجد عبد القاهر يحقق القول الدقيق في المجال الحكمي عنده ، والعقلي عنده وعند غيره ممّن تبعه فيه حتى في التسمية ، وهو برؤيته الثاقبة يلمس أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي ، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل في أحكام تجريها على اللفظ وهو متروك على ظاهره(4) . والقول عنده في التفريق بين المجاز والاستعارة ، أن المجاز هو ____________ (1) ظ : فتحي أحمد عامر ، فكرة النظم بين وجوه الإعجاز : 123 . (2) ظ : الرازي ، نهاية الإيجاز : 48 . (3) ظ : السكاكي ، مفتاح العلوم : 194 ـ 198 . (4) ظ : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 293 وما بعدها ، تحقيق : محمود شاكر .
( 37 )
الاستعارة ، لأنه ليس هو بشيء غيرها ، وإنما الفرق أن « المجاز » أعم ، من حيث أن كل استعارة مجاز ، وليس كل مجاز استعارة (1) . ان الوعي المجازي الذي أدركه عبد القاهر ، وميّز فروقه وخصائصه من أبلغ ما توصل إليه العمق البلاغي للمجاز ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في صياغة المنهج المتطور لدقائق الاصطلاح المجازي . وستجد ـ فيما بعد ـ في كل من فصلي « المجاز العقلي في القرآن » و « المجاز اللغوي في القرآن » سبرا لنظريته البلاغية في المجاز القرآني ، وإشارة مغنية لطائفة من آرائه التطبيقية في الموضوع ، فهناك موضعها الطبيعي من البحث . والذي نؤكد عليه هنا أن تنظير عبد القاهر في المجاز جاء طافحا بآيات القرآن المجيد فهي أصل ، وجاء الشعر والأمثال فرعا فيه ، لأنه معنيّ ببيان إعجاز القرآن ، فهو يستدل عليه بآياته الكريمة . انظر إليه وهو يتحدث عن المجاز العقلي . « وهذا الضرب من المجاز كثير في القرآن ، فمنه قوله تعالى : ( تؤتي أُكلها كلّ حين بإِذن ربّها )(2) ، وقوله عز إسمه : ( وإذا تُليت عليهم ءاياته زادتهم إيمانا )(3) ، وفي الأخرى : ( فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيمانا )(4) ، وقوله : ( وأخرجت الأرض أثقالها * )(5) ، وقوله عزّ وجلّ : ( حتى إذا أقلّت سحابا ثقالا سقناه لبلد مّيّت )(6) . أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا الى المعقول على معنى السبب ، وإلا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الأكل ، ____________ (1) ظ : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 462 تحقيق : محمود شاكر . (2) إبراهيم : 25 . (3) الأنفال : 2 . (4) التوبة : 124 . (5) الزلزلة : 2 . (6) الأعراف : 57 .
( 38 )
ولا الآيات توجد العلم في قلب السامع لها ، ولا الأرض تخرج الكامن في بطنها من الأثقال ، ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله ظهر ما كنز فيها وأودع جوفها . . . والنكتة أن المجاز لم يكن مجازا لأنه إثبات الحكم لغير مستحقه بل لأنه أثبت لما لا يستحق ، تشبيها وردا له إلى ما يستحق ، وأنه ينظر من هذا الى ذاك ، وإثباته ما أثبت للفرع الذي ليس بمستحق يتضمن الإثبات للأصل الذي هو المستحق . . .(1) . 4 ـ وإذا جئنا إلى دور جار الله الزمخشري ( ت : 358 هـ ) فسنرى له اليد الطولى في هذا المضمار ، وبحدود كبيرة مما أفاده من تجارب الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) المجازية ، وما استقاه من ينبوع عبد القاهر ( ت : 471 هـ ) البلاغي . وكان الزمخشري يهدف في جهوده المجازية إلى أمرين : الأول : هو الهدف المركزي ، وهو كشف بلاغة القرآن وتأكيد إعجازه ، وإثبات تميزه في التعبير على كل نصّ أرضي وسماويّ . الثاني : الهدف الهامشي في دعم الفكر المعتزلي القائل باتساع المجاز في القرآن وعند العرب بمنظور كلامي . وأنا أذهب مذهبه في كلا الأمرين بأغلب وجهات نظره البيانية ، لا على اساس معتزلي ، فلا علاقة لي بهذا الملحظ ، بل من خلال الذائقة البلاغية والفنية في تقويم النصوص العربية العليا ليس غير . للزمخشري في تطوير نظرية المجاز القائمة في القرآن والمأثور العربي كتابان مهمان هما : 1 ـ أساس البلاغة(2) . 2 ـ الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه ____________ (1) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 356 ـ 357 . (2) طبع طبعة منقحة فريدة بتحقيق : عبد الرحيم محمود ، وتقديم : العلامة أمين الخولي ، القاهرة 1953 .
( 39 )
التأويل (1) . أما الأول ، فقد رتبه على أساس جديد من الأعمال المعجمية الرائدة ، فاتبع طريقة « الألفباء » في ترتيب مفرداته اللغوية ، وهو يورد الكلمة الواحدة في استعمالها الحقيقي تارة ، وباستعمالها المجازي تارة أخرى ، ويعطي معنى كل منهما ، والذي يبدوا لنا من عمله هذا أنه يميل الى أن معظم مفردات العربية مجاز وان الباقي هو الحقيقة ؛ وهو بهذا يحقق جهدا تراثيا عظيما إزاء هذه الغاية ، ويقوم بفهرسة إحصائية لمجاز اللغة ، ولدى ذكر خصائص كتابه الفنية نجده يشير الى هذه الحقيقة بقوله : « ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح ، بإفراد المجاز عن الحقيقة ، والكناية عن التصريح »(2) . ولم ينس الغرض من تأليف هذا الكتاب في بيان بلاغة القرآن هدفا رئيسا ، والوقوف عند وجوه إعجازه ، ولطائف أسراره فقال : « ولما أنزل الله تعالى كتابه مختصا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي تقطعت عليها أعناق العتاق السبّق ، وونت عنها خطا الجياد القرّح ، كان الموفق من العلماء الأعلام . . . من كانت مطامح نظره ، ومطارح فكره ؛ الجهات التي توصل الى تبين مراسم البلغاء ، والعثور على مناظم الفصحاء ؛ والمخابرة بين متداولات ألفاظهم ، متعاورات أقوالهم ، . . . والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه الإعجاز أوقف ، وبأسراره ولطائفه أعرف ، حتى يكون صدر يقينه أثلج ، وسهم احتجاجه أفلج ، وحتى يقال : هو من علم البيان حظي ، وفهمه فيه جاحظي . والى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير اليه محمود بن عمر الزمخشري ، عفا الله تعالى عنه في تصنيف كتاب أساس البلاغة »(3) . ويرى الأستاذ أمين الخولي في تصديره لأساس البلاغة : أن الزمخشري لم يستقص تتبع المجازات اللغوية بالنص عليها في أساسه ، ____________ (1) طبع عدة طبعات ، وصورت طبعاته بالأوفست ، وبين يدي طبعة دار المعرفة ، بيروت ( د . ت ) وبحاشيتها كتاب الإنصاف لأحمد بن المنير . (2) ظ : الزمخشري ، أساس البلاغة ، المقدمة . (3) ظ : المصدر نفسه : مقدمة المؤلف .
( 40 )
الذي زعم له نفسه هذه الميزة (1) . وقد يكون هذا الرأي صحيحا بحدود ، إذ لم يكن أساس البلاغة موسوعيا كبقية المعاجم المطولة ، ولكنه بعمله قد جاء بشيء جديد من ناحيتين : الأولى : التأكيد على الاستعمال المجازي في القرآن وعند العرب في معجمه هذا في أغلب المفردات وهو ما لم يفعله سواه . الثانية : أنه اتبع الطريقة المعجمية السمحة بالنسبة لطلاب البحث العلمي ، فالتزم طريقة « الألفباء » كما صنع الراغب ( ت : 502 هـ ) في المفردات من ذي قبل ، ورفض طريقة المخارج في دقتها ، والأبنية في تعقيدها ، والباب والفصل في كل حرف كما هو شأن غيره . « وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولا ، وأسهله متناولا ، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع ، من غير أن يحتاج في التقتير عنها الى الإيجاف والإيضاح ، والى النظر فيما لا يوصل الا بإعمال الفكر اليه ، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه »(2) . بهذا يختتم الزمخشري مقدمة كتابه ، ومهمته فيه التيسير ، وتهيئة المناخ العلمي للبحث دون عناء ، وهو إنجاز ضخم من الناحيتين العلمية والفنية . وأما الكشاف ، فهو التفسير البياني الذي تلمس فيه مدى جمال المجاز القرآني ، وطلاوة رونقه ، وعذوبة مخارجه ، ودقائق استعمالاته ، أو هو الكتاب الذي تبصر به المجاز حيا نابضا متكلما بمعناه الاصطلاحي ومناخه الأدبي معا ، في ضوء ما أشار إليه ابن قتيبة ، وما ابتكره الشريف الرضي وما أسسه عبد القاهر الجرجاني . لقد فتح الزمخشري في الكشاف عمق دراسة رقيقة مهذبة في المجاز العربي بعامة ، والقرآني بخاصة ، فزاد ما شاءت له الزيادة من نكت بلاغية ، وصيغ جمالية ، ومعان إعجازية ، وسيرورة بيانية ، عاد فيها الكشاف كنزا لا ____________ (1) ظ : أمين الخولي : أساس البلاغة بين المعجم ، تعريف بالكتاب في أوله . (2) ظ : الزمخشري ، أساس البلاغة ، مقدمة المؤلف .
( 41 )
تفنى فرائده ، وبحرا فنيا لا تدرك سواحله . وقد تجلى في الكشاف ما أضافه الزمخشري من دلالات جمالية في نظم المعاني ، وما بحثه من المعاني الثانوية في المجاز القرآني ، والتي توصل اليها بفكره النير ، من خلال نظره الفاحص في تقديم المتأخر ، وعائدية الضمائر ، وأسلوب العبارة ، والتركيب الجملي ، لرصد المضمون البياني في القرآن المتمثل لديه في التمثيل والتشبيه والإستعارة وأصناف المجاز ، وهو كثيرا التنقل بالألفاظ القرأنية من الحقيقة الى المجاز مستعينا على ذلك بشؤون الكلام العربي في الحذف والإظهار ، والتقدير والإضمار ، ذلك بإزاء استجلاء إعجاز القرآن فنيا والتأكيد عليه لفظيا ومعنويا من خلال معطيات الشكل ومميزات المضمون . صحيح أن الهدف الجانبي عند الزمخشري قد يكون كلاميا كما أسلفنا ، ولكن هذا لا يمانع من أن يكون كتابه هذا جوهرة نحن بأمس الحاجة الى امثالها في تبيين روعة القرآن ، وجمال عبارته ، ودقة بلاغته . ولست هنا في مجال الحديث عن الكشاف إلا إجمالا ، ومن خلال هذا الإجمال ، أضع نموذجين لتحقيقه المجازي بين يدي البحث : الأول ، تعقيبه على قوله تعالى ( الرحمن على العرش أستوى * )(1) ، فهو يبحثها بلاغيا في ضوء ما تستعمله العرب مجازا أو كناية في معنى العرش والأستواء ، ويضرب لذلك الأشباه والنظائر من القرآن الكريم والموروث العربي ، فيقول : « ولما كان الأستواء على العرش ، وهو سرير الملك مما يردف الملك ، جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على العرش ، يريدون ملك ، وإن لم يقعد على السرير البتة . وقالوا أيضا ـ لشهرته في ذلك المعنى ومساواته ـ : ملك ، في مؤداه وإن كان أشرح وأبسط أدل على صورة الأمر ، ونحوه قولك : يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة ، بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت : حتى أن من لم يبسط يده بالنوال قط ، أو لم تكن له يد رأسا ، قيل فيه : يده مبسوطة لمساواته ____________ (1) طه : 5 .
( 42 )
عندهم قولهم هو جواد . ومنه قوله تعالى : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) ، أي هو بخيل ( بل يداه مبسوطتان )(1) ، أي هو جواد من غير تصور يد ، ولا غل ، ولا بسط . والتفسير بالنغمة ، والتمحل للتثنية من ضيق العطف ، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام »(2) . الثاني : تعقيبه على قوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم . . . )(3) ، قال : « فإن قلت : كيف أسند الخسران الى التجارة وهو لأصحابها ؟ قلت : هو من الإسناد المجازي ، وهو أن يسند الفعل الى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشترين . . فإن قلت : هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن تم مبايعة على الحقيقة ؟ قلت : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تنساق كلمة مساق المجاز ثم تقفى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة ، وأكثر ماءً ورونقا وهو المجاز المرشح . . . فكذلك لما ذكر سبحانه الشراء ( أولئك الذين أشتروا الضلالة بالهدى )(4) ، أتبعه بما يشاكله ويواخيه ، وما يكتمل ويتم بانضمامه إليه ، تمثيلا لخسارهم وتصويرا لحقيقته »(5) . وفيما عدا الزمخشري بتوسعه في ذكر مجازات القرآن ، بمعانيها الاصطلاحية فيما يبدوا لي ، فإننا لا نجد نظيرا لهذا التفسير من هذا الوجه فحسب . نعم هناك شذرات مجازية في الجزء الخامس من « حقائق التأويل » للشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) أشرنا إليها ضمن البحث فيما يأتي ، ولو وصلنا حقائق التأويل كاملا لحصلنا على علم كثير . ____________ (1) المائدة : 64 . (2) الزمخشري ، الكشاف 2 : 530 . (3) البقرة : 16 . (4) الزمخشري ، الكشاف : 1/191 وما بعدها . (5) توفي ظهر الأربعاء : 9/3/1966م عن واحد وسبعين عاما . وكان آخر لقائنا به في بغداد بتاريخ : 11/2/1966م حينما اشتركنا معا في مهرجان تأبين علامة العراق الشيخ محمد رضا الشبيبي في جامع براثا ببغداد .
( 43 )
وهناك لمحات مجازية عند السيد المرتضى ( ت : 436 هـ ) في أماليه ( غرر الفوائد ودرر القلائد ) وعند أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( ت : 406 هـ ) في التبيان ، وعند أبي علي الطبرسي ( ت : 548 هـ ) في مجمع البيان ، وعند فخر الدين الرازي ( ت : 606 هـ ) في مفاتيح الغيب ، وعند أمثالهم من الأكابر ، ولكنها لا تشكل عملا مجازيا تكامليا كما هي الحال في الكشاف . وأما الحديث عن ابن رشيق ( ت : 463 هـ ) في العمدة ، وابن سنان ( ت : 466 هـ ) في سر الفصاحة ، وابن الزملكاني ( ت : 651 هـ ) في كل من البرهان والتبيان ، وابن أبي الأصبع ( ت : 654 هـ ) في بديع القرآن ، وابن الأثير ( ت : 637 هـ ) في المثل السائر ، وسليمان بن علي الطوفي البغدادي ( ت : 716 هـ ) في الأكسير في علم التفسير ، وشهاب الدين محمود الحلبي ( ت : 725 هـ ) في حسن التوسل ، ويحيى بن حمزة العلوي ( ت : 749 هـ ) في الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز ، وبدر الدين الزركشي ( ت : 794 هـ ) في البرهان ، وجلال الدين السيوطي ( ت : 911 هـ ) في الاتقان . وأمثالهم من فطاحل البلاغيين والنقاد القدامى والتراثيين ، فلهم في المجاز نظرات متفاوتة ، إلا أن الملحظ لديهم الاستناد على أساس متين منه وهو مجاز القرآن ، ولكنهم لم يكتبوا فيه كتابا قائما بذاته ، أو جهدا موسوعيا كمن أسلفنا ، بل جاء جزءا من كل ، وتقاطيع في أبواب ، لذا أشرنا إليهم ، وستجد جملة من آراء بعضهم في الكتاب . وهنا يجب أن نشير الى حقيقة مؤكدة هي أن كلا من أبي يعقوب السكاكي ( ت : 626 هـ ) والخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) وسعد الدين التفتازاني ( ت : 791 هـ ) وأضرابهم من علماء البلاغة كالسبكي والطيبي ، قد كرسوا جهودهم التطبيقية في الحديث عن المجاز في البيان العربي على التمثل والاستشهاد والتنظير أولا بأول ـ بآيات المجاز في القرآن ، فكان ذلك دون شك : سراجهم الهادي ودليلهم الأمين . ولا بد لي من الإشارة الهادفة الى ما قدمه أبو حيان ، أثير الدين ، محمد بن يوسف الأندلسي ( ت : 754 هـ ) في تفسيره : ( البحر المحيط ) من جهد متميز يقتفي فيه آثار الشريف الرضي والزمخشري في تتبع اللمسات
( 44 )
البلاغية في القرآن ، والتأكيد على المجاز فنا بيانيا ، وبذلك فهو مشارك مشاركة جيدة في هذا المضمار دون ابتكار أو تزيد فيما يبدوا لي .
|