(174)
(175) كنت فيما سبق ، قد توخيت الدقة في البحث ، والموضوعية في الاستنتاج ، والحيطة في المقارنة ، فعرضت أمهات المسائل ، وأثرت عشرات الجزئيات ، وانتهيت إلى العديد من النتائج ، وكان الرائد الأول في جميع ذلك هو استقراء الحقيقة وحدها ، وما يدريك فلعلي قد أصبت الهدف ، ولعلي قد أخطأت التقدير ، والله أعلم وهو المسدد إلى الصواب . مهما يكن من أمر ، فقد توصلت إلى بعض المؤشرات في النتائج يمكن إجمالها ـ بكل تواضع ـ على الشكل الآتي : 1 ـ انتهينا في الفصل الأول من معالجة ظاهرة الوحي معالجة علمية ، فرقنا فيها بين الوحي والكشف والإلهام ، ووجدنا الوحي عملية مرتبطة بحوار ثنائي : بين ذات أمرة ، وذات متلقية ، ورأينا ظاهرة الوحي مرئية ومسموعة ، ولكنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده . ولم يكن الوحي ظاهرة ذاتية عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إطلاقا ، بل كانت منفصلة عنه انفصالا تاما ، ربما صاحبه من خلالها إمارات خارجية في شحوب الوجه أو تصبب الجبين عرقا ، ولكنها إمارات لم تكن لتمتلك عليه وعيه نهائيا ، وكان الداعي لبحث ذلك هو الرد على هجمات طائفة من المستشرقين الذين يرون الوحي نوعا من الإغماء ، أو مثلا من التشنج ، والأمر ليس كذلك ، بل هو استقبال لظاهرة ، أعقبه هذا الوقع ، استعداد للنشر والتبليغ . بعد هذا أرسينا مصطلح الوحي على قاعدة من الفهم القرآني . 2 ـ انتهينا في الفصل الثاني من تحديد بداية نزول القرآن زمنيا ، وتعيين ما نزل منه أول مرة ، ثم أشرنا للنزول التدريجي ، وضرورة تنجيم القرآن ، وعالجنا هذه الظاهرة بما نمتلك من تقليل لأسرارها ، وتقييم
(176) لأبعادها ، وأوضحنا إيمان القرآن بمرحلية النزول ، وتعقبنا ذلك بتأريخية ما انقسم منه إلى مكي ومدني ، وسلطنا الضوء على ضوابط السور المكية والمدنية ، وحمنا حول أسباب النزول وقيمتها الفنية ، وما يستأنس منه بجذورها في تعيين النزول زمانيا ومكانيا ، وتتبعنا ما نزل من القرآن بمكة أولا بأول ، وما نزل بالمدينة أولا بأول ، معتمدين على أصح الروايات وأشهرها ، أو بما يساعد عليه نظم القرآن وسياقه ، وختمنا الفصل بجدول إحصائي إستقرائي لسور القرآن كافة بترتيبها العددي والمصحفي والزماني والمكاني . 3 ـ وانتهينا في الفصل الثالث إلى القول : بأن القرآن الكريم قد كان مجموعا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل ومدونا في المصحف ، وذلك بمناقشة روايات الجمع وغربلتها ، وكانت أدلتنا في هذا الحكم هو سيل الروايات المعتبرة ، ووجود مصاحف في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظاهرة الختم والإقراء في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ودليل الكتابة وتواتر الكتاب ، وأدلة قطعية أخرى مما يؤكد لنا جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان القصد وراء ذلك إبراز القرآن سليما من الوجوه كافة ، يحضى بعناية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإشارة من الوحي ودليل من الكتاب ، وكان مصحف أبي بكر يتسم بالفردية لا بالصفة الرسمية ، وانتهينا في ذلك إلى رأي قاطع بالموضوع ، وبحثنا جمع عثمان للمصحف ، فكان توحيدا للقراءة ، وإلغاء للاختلاف ، وكان هذا التوحيد هو النص القرآني الوحيد الذي لا يختلف في صحته إثنان . 4 ـ وانتهينا في الفصل الرابع إلى : اعتبار الشكل المصحفي ، وطريق الرواية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتعدد لهجات القبائل ، مضافا إلى المناخ الإقليمي القائم بين مدرستي الكوفة والبصرة ، أسسا قابلة للاجتهاد والأثر في تعدد القراءات القرآنية ، وانتهينا إلى أن الاختلاف كان في الأقل ، والاتفاق في الأكثر ، وحددنا وجهة النظر العلمية تجاه القراء السبعة والقراءات السبع ، وأعطينا الفروق المميزة بين القراءة والاختيار ، وأوردنا مقاييس القراءة المعتبرة ، وأشرنا إلى تواتر هذه القراءات عند قوم ، وإلى اجتهاديتها عند قوم آخرين ، وفرقنا بين حجية هذه القراءات ، وبين جواز الصلاة فيها ، بما كان فيه بحق بحثا طريفا جامعا لشؤون القراءات كافة . 5 ـ وانتهينا في الفصل الخامس إلى : تحقيق القول في شكل القرآن
(177) ورسمه ، وبحث جملة الزيادات التوضيحية ، ولاحظنا ما أسداه أبو الأسود الدؤلي ، وما ابتكره في إعجام القرآن ونقطه حتى تيسر للخليل بن أحمد الفراهيدي أن يشاركه هذه المكرمة . وقد وجدنا توسع المسلمين وتجوزهم بوضع التحسينات على الخطوط بقصد معرفة النص وإيضاحه ، ونعيهم على من منع ذلك دون مسوّغ ، ثم وجدنا الرسم المصحفي وهو يحتل مكانته بشيء من المغالاة حينا ، والتقديس غير المعقول حينا آخر ، وظهر لنا أن الرسم ليس توقيفيا ، وإنما الخط المصحفي كان باجتهاد ممن كتب ، ولم تكن صناعتهم في هذا الفن متكاملة ، فكان ما قدموه من سنخ ما يحسنون لا أكثر ولا أقل ، وتعقبنا ظاهرة استنساخ القرآن الكريم حتى وقفنا بها عند حدود انتشار القرآن في الطباعة الأنيقة النموذجية . 6 ـ وانتهينا في الفصل السادس إلى : القول بسلامة القرآن وصيانته من التحريف ، وتوثيق النص القرآني جملة وتفصيلا ، وناقشنا شبه القائلين بالتحريف ، فزيفنا الادعاءات ، ودحضنا الافتراضات ، وعالجنا الروايات فكانت أخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا ، وناقشنا الاتهامات ، وفندنا الشبهات ، وتعقبنا المحاولات ، وخلصنا من وراء ذلك إلى إنجاز الوعد الإلهي بحفظ القرآن . ما قدمناه خلاصة مركزة في « تأريخ القرآن » آثرنا فيها المعاناة على الدعة ، والمواجهة على الاستكانة فعادت صفحات مشرقة فيما نعتقد ، أخلصنا فيها القصد لخدمة كتاب الله ، فإن أصبنا الحقيقة فذلك ما نتمناه ، وإن كانت الأخرى ، فلي من حسن النية ما يسدد الزلل .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
النجف الأشرف | كلية الفقه |
د . محمد حسين علي الصغير | الجامعة المستنصرية
|