( 32 )
سودة بنت عمارة بن الاشتر الهمدانية ، شاعرة من شواعر العرب ، ذات فصاحة وبيان ، وهي من شيعة علي عليه السلام ، والحاضرات معه في صفين . جاهدت بلسانها وقالت كلمة الحق أمام السطان الجائر معاوية بن أبي سفيان .
قال ابن طيفور في بلاغات النساء : قال أبو موسى بن مهران : حدثني محمد بن عبيد الله الخزامي ، يذكره عن الشعبي . ورواه العباس بن بكار عن محمد بن عبيد الله ، قال : استأذنت سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية على معاوية فأذن لها ، فلما دخلت عليه قال : هيه يا بنت الأسك ألست القائلة يوم صفين :
شمر كفعل أبيك يا بن عمارة * يوم الطعان وملتقـى الأقــران واُنصر عليا والحسين ورهطه * واقصد لهنـد وابنهـا بهــوان إن الإمام أخا النبي محـمـد * علم الهدى ومنــارة الإيمــان
( 127 )
فقد الجيوش وسر أمام لوائه * قدما بأبيض صارم وسنــان
قالت : أي والله ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب .
قال لها : فما حملك على ذلك ؟ .
قالت : حب علي عليه السلام ، واتباع الحق .
قال : فو الله لا أرى عليك من أثر علي شيئاً .
قالت : اُنشدك الله يا أمير المؤمنين واعادة ما مضى ، وتذكار ما قد نسي .
قال : هيهات ، ما مثل مقام أخيك ينسى ، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك .
قالت : صدق قولك ، لم يكن أخي ذميم المقام ولا خفي المكان ، كان والله كقول الخنساء :
وإن صخـراً لتأتم الهداة به * كأنه علم فـي رأسـه نــار
قال : صدقت ، لقد كان كذلك .
فقالت : مات الرأس وبتر الذنب ، وبالله أسأل اعفائي مما استعفيت منه .
قال : قد فعلت ما حاجتك ؟ .
قالت : إنك اصبحت للناس سيدا ولأمرهم متقلدا ، والله سائلك من أمرنا وما افترض عليك من حقنا ، ولا تزال تقدم علينا من ينوء بعزك ويبسط بسلطانك ، فيحصدنا حصد السنبل ، ويدوسنا دوس البقر ، ويسومنا الخسيسة ، ويسلبنا الجليلة .
هذا بُسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك ، فقتل رجالي ، وأخذ مالي ، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة . فإما عزلته عنا فشكرناك ، وإما لا فعرفناك .
( 128 )
فقال معاوية : اتهددني بقومك ، لقد هممت أن أحملك على قتب (1) أشرس ، فأردك إليه ينفذ حكمه فيك .
فأطرقت تبكي ، ثم أنشأت تقول :
صلى الإله على جسم (2) تضمنه * قبر فأصبح فيه العدل مدفونــا قد حالـف الحق لا يبغي به ثمناً * فصـار بالحق والإيمان مقرونـا
قال لها معاوية : ومن ذاك ؟ .
قالت : علي بن أبي طالب .
قال : وما صنع بك حتى صار عندك كذلك ؟ .
قالت : قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا فكان بيني وبينه ما بين الغث (3) والسمين ، فأتيت علياً عليه السلام لأشكو إليه ما صنع بنا ، فوجدته قائماً يصلي ، فلما نظر إلي أنفتل من صلاته ، ثم قال لي برأفة وتعطف : « ألك حاجة » ؟ فأخبرته الخبر ، فبكى ثم قال : « اللهم أنت الشاهد علي وعليهم اني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك » .
ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب فكتب فيها : « بسم الله الرحمن الرحيم ( قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا ____________ (1) القتب : الرحل الصغير على قدر السنام . لسان العرب 2 : 661 « قتب » . (2) في العقد الفريد : روح . (3) الغث : الرديء من كل شيء . لسان العرب 3 : 171 « غثث » .
( 129 ) تبخسوا الناس اشياءهم ) (1) ( ولا تعثوا في الارض مفسدين ) (2) ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ) (3) ، اذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك عن عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام » .
فأخذته منه ، والله ما ختمه بطين ولا خزمه (4) بخزام فقرأته .
فقال لها معاوية : لقد لمظكم (5) ابن أبي طالب على السطان فبطيئاً ما تفطمون ، ثم قال : اكتبوا لها برد مالها والعدل اليها .
قالت : ألي خاصة ، أم لقومي عامة ؟ .
قال : وما أنت وقومك ؟
قالت : هي والله اذاً الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلاً شاملاً ، وإلا فأنا كسائر قومي .
قال : أكتبوا لها ولقومها (6) .
وروى ذلك أيضا ابن عبد ربه ـ في العقد الفريد ضمن الوافدات على معاوية ـ عن عامر الشعبي . وفيه :
فقال معاوية : اكتبوا لها بالانصاف لها والعدل عليها .
فقالت : ألي خاصة أم لقومي عامة ؟ .
قال : ما أنت وقومك ؟
قالت : هي والله الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلاً شاملاً ، وإلا يسعني ما ____________ (1) الأعراف : 85 . (2) العنكبوت : 36 . (3) هود : 86 . (4) خزمه : شكه وثقبه ، أي : أقفله . انظر : لسان العرب 12 : 174 « خزم » . (5) لمظكم : عودكم وعلمكم . لسان العرب 7 : 462 « لمظ » . (6) بلاغات النساء : 30 .
( 130 ) يسع قومي .
قال : هيهات ! لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان ، فبطيئاً ما تفطمون ، وغركم قوله :
فلو كنــت بوابا على باب جنة * لقلت لهمدان ادخلــوا بســلام
وقوله :
ناديت همـدان والابواب مغلقـة * ومثل همدان سنى (1) فتحة الباب كالهندواني (2) لم تفلل مضاربه * وجه جميل وقلب غير وجّاب (3)
اكتبوا لها بحاجتها (4). ____________ (1) سنّى : سهّل . لسان العرب 14 : 404 « سنا ». (2) الهندواني : السيف اذا عمل ببلاد الهند واحكم عمله . لسان العرب 3 : 438 « هند ». (3) وجاب : خائف متهيب . انظر : القاموس المحيط 1 : 136 ، مجمع البحرين 2 : 179 « وجب ». (4) العقد الفريد 1 : 344. وانظر : أعلام النساء 2 : 270 ، أعيان النساء : 245 ، رياحين الشريعة 4 : 351.
( 131 )
|