ذكر شواهد قرآنية (3)
تمهيد خلافة الإنسان : يرى القرآن الكريم ان الكمالات العليمة والعملية تشير إلى مقام الإنسانية ، وذلك المقام منزه عن الذكورة والأنوثة ، فكثير من الرجال قد يسقطون ويصبحون مصداق : ____________ (1) سورة طه ، الآية : 123 . (2) سورة البقرة ، الآية : 36 . (3) سورة النساء ، الآية : 76 .
(108)
( اولئك كالأنعام بل هم أضل ) (1) . وكثير من النساء قد يصبحن مشمولات لقوله تعالى : ( يا أيها النفس المطمئنة * أرجعي إلى ربّك راضية مرضية ) (2) . ما يطرح في هذا البحث هو تفصيل للبحث السابق ، وهو لماذا يصل الإنسان إلى هذا المقام الرفيع ؟ في القرآن الكريم كثير من الفضائل العلمية مطروحة . وهي باسم إنسانية الإنسان ، وبعض الفضائل لا يصل إليها الملائكة أيضاً ، فإذا ثبت هذان الموضوعان ، عند ذلك سيتضح سر سجود الملائكة لساحة إنسانية الإنسان .
المقامات العليمة للإنسان : الموضوع الأول ، وهو أن المقامات العلمية تتعلق بإنسانية الإنسان ، ولا تختص بالمرأة أو الرجل ، بعض الآيات التي يستدل بها في هذا المجال هي آية سورة الأعراف التي تقول : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) (3) . نشأة أخذ الميثاق وساحة أخذ الميثاق نزلت بصفة بني آدم ، ورغم أن الألفاظ التي استعملت في هذه الآية هي ألفاظ مذكر ، ولكن واضح ان عنوان الآية هو بنو آدم ، وكلمة بنين ليست في مقابل بنات بل هي عنوان أبناء آدم ، ____________ (1) سورة الأعراف ، الآية : 179 . (2) سورة الفجر ، الآيتين : 27 ـ 28 . (3) سورة الأعراف ، الآية : 172 .
(109)
لا أولاد آدم ، الآية يقول : إن جميع الناس قالوا : ( بلى ) في أخذ الميثاق أي شاهدوا عبوديتهم ، وادركوا ربوبية الله سبحانه وتعالى بالعلم الشهودي ، لا إنهم فهموا بالعلم الحصولي ، هذا المقام الرفيع يتعلق بإنسانية الإنسان بدون تدخل المذكر والمؤنث . هذا مثال . مثال آخر هو آية سورة الروم المعروفة بآية الفطرة : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) (1) . في هذه الآية ذكر الناس ، لا المذكر والمؤنث ، إذ يقول تعالى : إن الناس خلقوا على الفطرة التوحيدية . هذه القضية لا تختص بالماضي أو الحاضر ، بل المستقبل أيضاً محكوم بهذا الحكم ، لأنه قال ( لا تبديل لخلق الله ) بعنوان « لاء نفي الجنس » . مثال ثالث هي آية سورة الشمس التي تقول : ( ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها ) (2) . الإنسان ملهم بالفجور والتقوى ، وفي حين ولادته لا يعرف شيئاً عن العلوم والحصولية . ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً ) (3) . عندما يأتي الإنسان إلى الدنيا ليس لديه سهم عن العلوم الخارجية ، فيتعلمها بالدرس والبحث ، ولكنه يعرف ويستفيد من العلم الداخلي . العلوم المتعلقة بالتهذيب والتزكية ، وهي رأسمال أساسي ولا يوجد في آية مدرسة ، ____________ (1) سورة الروم ، الآية : 30 . (2) سورة الشمس ، الآيتين : 7 ـ 8 . (3) سورة النحل ، الآية : 78 .
(110)
تلك العلوم خلقها الله مع الإنسان وأعطاها له بعنوان رأس مال أول ، وأما العلوم الحصولية فقد قال للإنسان أن يتعلمها عن طريق الكسب والعمل ، والسمع والبصر ، والفؤاد ، أما العلم الذي لا يوجد في مدرسة البشر فقد اعطاه للإنسان بعنوان رأسمال . في هذه الآية لم يرد كلام عن المذكر والمؤنث أيضاً ، بل كلام عن ( ونفس وما سواها ) ، لأن كل روح تخلق على الفطرة التوحيدية ، وهي ملهمة بالفجور والتقوى ، وقد التزمت في ساحة أخذ الميثاق ، لذا في سورة الحشر ، كل روح مكلفة بالمراقبة والمحاسبة ، وليس هناك كلام عن المرأة والرجل . ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) (1) . في هذه الآية ليس الكلام في أن يكون الرجل مراقباً ، أو يكون أهل محاسبة ، بل كل نفس يجب ان تكون رقبية ، أو حسيبة لنفسها ، وطريق التهذيب ( وهو طريق المراقبة وطريق المحاسبة ) يتعلق بالنفس الإنسانية . لا بالمذكر ولا بالمؤنث .
الإنسان حامل الأمانة : الأمثلة العلمية التي ذكرت تشير إلى أن الإنسان يستطيع ان يقوم بالعمل الذي تعجز عنه الجبال والأرض والسماوات . والآية الأخيرة في سورة الأحزاب تفهم هذا المعنى . ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها واشفقن منها ) (2) . وأما قوله : ( وحملها الإنسان ) الإنسان ، لا يختص بالمذكر ____________ (1) سورة الحشر ، الآية : 18 . (2) سورة الاحزاب ، الآية : 72 .
(111)
والمؤنث ، ولأن الإنسان الذي تشرحه المعارف العليمة في تلك ، الآيات ، دخل إلى هذا المقام المنيع ، لذا في نهاية سورة الأحزاب وصل إلى هذا المقام الرسمي ، واستطاع بتلك الرساميل وحمل ثقل القرآن والولاية ، والمعرفة والدين وأمثالها ، ولم يكن ليحمل هذه الأمانة الثقيلة ولا يحملها ويكون مصداق ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ) (1) ، بل يحمل بإرادته ، لذا لم يقل حمّل عليها ، ولم يحمل ، بل قال : ( وحملها الإنسان ) . وعليه فان هذا الإنسان الحامل لثقل الأمانة هو أوزن وأثقل من كل كائن مادي ، وفي هذا القسم ليس هناك كلام عن المذكر والمؤنث أيضاً . ثم نصل إلى مرحلة أعلى من هذه ، وهي أن الإنسان إذ سار حاملاً رأسمال أخذ الميثاق حسب آية سورة الأعراف وحاملاً رأسمال الفطرة ، حسب آية سورة الروم ، ولديه رأسمال الإلهام حسب سورة والشمس ، وبإداء وظيفة المحاسبة والمراقبة الرسمية حسب سورة الحشر ، عند ذلك سوف يحصل على قدرة ترفع هذا الثقل ويعبر السماوات والأرض ، وإذا رفع هذا الإنسان الحمل الالهي عند ذلك لا يكون في الارض ، ولا في السماء. وحين يخرج من حدود هذا النظام الدنيوي ، عند ذلك لا يكون الكلام على الرجل ولا المرأة ، الكلام فقط عن إنسانية الإنسان ، ويتضح من قوله : إن الجبال عاجزة عن حمل هذه الأمانة ، أو قوله إن السماوات عاجزة عن حملها ، وأن الإنسان هو الذي يحملها ، ان الإنسان يعبر هذا السقف المقرنس ، ويصل إلى درجة ليست في متناول السماء والأرض أيضاً .
تكلم الله مع الإنسان : الآن يجب رؤية هل ان الإنسان يستطيع ان يصل إلى درجة ليست في ____________ (1) سورة الجمعة ، الآية : 5 .
(112)
متناول الملائكة ؟ في الجواب يجب القول : إذا استعمل هذه الرساميل وأوصل هذا الحمل إلى المقصد بصورة صحيحة ، يصل إلى درجة ليست في متناول الملائكة أيضاً . أخيراً أحد الحواميم السبعة لهذه الآية الكريمة موجود وهو : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً ومن وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ) (1) . أي أن الإنسان يستطيع بأحد هذه الطرق الثلاثة ان يكون مستمعاً لله ويدرك الكلام الإلهي ـ بصورة قضية منفصلة منعة الخلو ، وهي قابلة للجمع أيضاً ـ . الأول : عن طريق الوحي بدون واسطة ، وفي ذلك المقام لا توجد فاصلة وواسطة بين الإنسان الكامل والله تعالى ، لا الفلك تفصل ولا الملك واسطة ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً ) . الثاني : ( أو من وراء حجاب ) شبيه بما جاء في شأن موسى الكليم عليه السلام الذي سمع من وراء حجاب الشجر ( إني أنا الله ) (2) . الثالث : ( أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ) ، بناء على هذا ، فإن الإنسان يصل إلى درجة يتلقى فيها الوحي من الله بدون واسطة ، وفي ذلك القسم لا تصل الملائكة . جاء بشأن معراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان بعض آيات القرآن الكريم تلقاها بصورة مشافهة ، وقيل : إن الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة هما من هذا القبيل ، أي آية ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن ____________ (1) سورة الشورى ، الآية : 51 . (2) سورة القصص ، الآية : 30 .
(113)
بالله )(1) وآية ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) (2) . حيث تلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هاتين الآيتين من الله تعالى شفاهاً بلا واسطة ، وبعض غرر آيات القرآن الكريم هي من هذا القبيل ، لم يكن الملك دخيلاً في تلقيها ، إذ أن جبرائيل عليه السلام قال في مسألة المعراج طبق رواية ( لو دنوت أنملة لا حترقت ) (3) . بناء على هذا فإن الإنسان الكامل يدخل في مرحلة لا يستطيع الملك ان يحلق فيها . مثال آخر ورد في هذا الصدد جمل أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل حيث قال : بأن بعض اسرارنا الباطنية لا يفهمها الملائكة . ورغم ان الله تعالى أمر الملائكة بتسجيل أعمالنا ، ولكن تلك الخاطرات الدقيقة . رقيقة إلى درجة ان الملائكة لا يستطيعون خرق حجابها النوري وفهم ذلك السر المخفي ( والشاهد لما خفي عنهم وبرحمتك أخفيته وبفضلك سترته ) (4) . الله تعالى بتولى مباشرة بعض أعمالنا . فهو يقول : ( ونكتب ما قدموا وآثارهم ) (5) . ويقول تعالى : ( والله يكتب ما يبيتون ) (6) . وذلك أحياناً من أجل أن لا يعطيه بيد الملائكة ، حتى يبقى سراً بين العبد والمولى ، ذلك الحاجب يكون قائماً لكي لا يراق ماء وجه العبد أمام ____________ (1) سورة البقرة ، الآية : 285 . (2) سورة البقرة ، الآية : 286 . (3) بحار الأنوار ، ج 18 ، ص 382 . (4) دعاء كميل . (5) سورة يس ، الآية : 12 . (6) سورة النساء ، الآية : 81 .
(114)
أي ملك ، والله تعالى هو حسيب ذلك القسم من السيئات . بناء على هذا فلكل واحد من الملائكة حدّ معين : ( وما منّا إلا ما مقام معلوم ) (1) . وان ما يذكر في بعض الأسئلة انه إذا كانت الملائكة مأمورة بتسجيل عقائدنا ونياتنا وخطراتنا ، وأقوالنا وأعمالنا ، فهم إذن يتمتعون بنشأة علمية واسعة وعميقة . هذه المسألة صحيحة ، ولكن في بحوث الرؤية الكوية يجب عدم جعل الأفراد العالين معياراً ، الكلام ليس في الاشخاص الكلام في مقام الإنسانية ، فعندما يدور الأمر بين مقام الإنسانية ومقام الملائكة عند ذلك يتضح أن مقام الإنسانية يمكن ان يرقى إلى درجة بحيث تكون الملائكة غير مطلعة على بعض زوايا عمله ، لذا يمدح الله تعالى الملائكة بكثير من الأوصاف ويقول : إنهم رقباء ، عتيدون ، معيدون . كرماء ، حفيظون ، لا يفوتهم شيء ، لا يضيفون شيئاً ولا يضيعون شيئاَ . منزهون عن الإفراط ، وبمرؤون من التفريط ، ولكن في نفس الوقت لا يسمح بأن تفهم الملائكة بعض الأشياء أيضاً .
ملائكة الله وتعليم الاسماء : بناء على هذا يتضح من هذه البحوث إشكال الأمر في مقام تعليم الاسماء ، إشكال الأمر ليس في أن الملائكة ليسوا عالمين ، متعلمين ومعلمين ؛ لأن جميع هذه عندهم . بل إشكال الأمر هو ان بعض الحقائق رفيعة إلى درجة ان الملائكة لا يستطيون تعلمها أولاً ويجب ان يسمعوا خبرها فقط ويفهموها بشكل خبري وثانياً : لا يستطيعون تلقي هذا الخبر من الله بدون واسطة . بل يجب أن يتلقون بواسطة ، لذا في مسالة خلافة آدم عليه السلام طرح الكلام على علم الملائكة وتعلمهم وتعليم الله لهم ، ولذا ____________ (1) سورة الصافات ، الآية : 164 .
(115)
قالوا : ( لا علم لنا إلاّ ما علمّتنا ) (1) . فعلم الملائكة وتعلم الملائكة والتعليم الإلهي ثابت . وهذا طبعاً ليس بمعنى أن تكون هذه ( قضية موجبة حقيقية كلية ) ، أي ان تفهم الملائكة جميع العلوم ، بل الملائكة قالوا : ( لا علم لنا إلاّ ما علمّتنا ) ، لذا لم يقل الله تعالى إنه سيعلمهم كل ما علمّه لآدم ، وهذا طبعاً ليس بمعنى نقص وبخل في المبدأ الفاعلي ( معاذ الله ) بل ان الملائكة لم يكن لديهم قابلية القبول . ولو كان الملائكة أهلاً للوصول إلى حقائق الاسماء ، كما وصل آدم لكان الله تعالى علّمهم أيضاً ، ولو كان الملائكة يستطيعون تلقي خبر حقائق الاسماء هذا من الله سبحانه بلا واسطة ، لقال الله تعالى : « أنبئكم أو انبئكم » . ولم يقل لآدم عليه السلام ( يا آدم أنبئهم باسمائهم ) (2) . بناء على هذا يتضح من ان الكلام بشان آدم عن التعليم ، حيث قال : ( وعلّم آدم الاسماء كلها ) (3) وبشأن الملائكة ليس الكلام عن التعليم ، بل عن الأنباء أن الإنسان الكامل يصبح عالماً بتلك الحقائق الرفيعة ، أولاً ، وثانياً ، يتلقى من الله تعالى بدون واسطة ، ولكن الملائكة يتلقون تلك الحقائق بشكل خبر وذلك أيضاً بواسطة . بناء على هذا ، يتضح لماذا تكون الملائكة خاضعة وساجدة في ساحة الإنسان الكامل لانها وهي ( مدبرات العالم ) بإذن الله تتواضع في ساحة معلمها الحقيقي . الإنسان ووسوسة الشيطان : السؤال الآخر الذي يطرح هو ان الإنسان الكامل إذا كان قد تعلم جميع الاسماء ، فلماذا لم يكن في أمان من الخدعة والوسوسة ، ولماذا لم يتعلم ____________ (1) سورة البقرة ، الآية : 32 . (2) سورة البقرة ، الآية : 33 . (3) سورة البقرة ، الآية : 31 .
(116)
هذه المسألة ، وظل لا يعرف شيطنة الشيطان ؟ جواب هذا السؤال هو : أن هذا لازم أعم ، أي أن الشخص إذا لم يكن في أمان من وسوسة وأثرت فيه الخدعة ، فهذا الأمر هو أحياناً من أثر الجهل بالمسألة ، وأحياناً من أثر نسيان المسألة ، وما يبين في قضية آدم عليه السلام هو بعنوان ( فنسي عهده ) . ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد لم عزماً ) (1) . هو نسيان ذلك العهد ، وإلا فان الله تعالى قال بصراحة : ( فقلنا يا آدم إنّ هذا عدّو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) (2) . وسوسة الشيطان هي جزء المرحلة النازلة لتلك الاسماء ويجب عدم البحث عن انه هل هذا داخل بألف ولام في الجمع المحلّى أم لا ؟ لأنه نزلت في هذا المجال أخرى منفصلة إذا قال تعالى : ( يا آدم إن هذا عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) . ولكن يأتي كلام عن النسيان . غاية الأمر ان البحث بشأن هل أن النشأة هي نشأة تكليف أم لا ؟ وهل الأمر والنهي الواقع في الآية المذكورة مولوي أم لا ؟ وإذا كان مولوياً ، هل هو تحريمي ، أم تنزيهي ؟ وإذا كان مولوياً ، فهل هو وجوب ، أم استحباب ؟ وإذا لم يكن مولوياً فان كونه ارشادياً له حكم رأساً كما انه إذا كان تمثيلاً ، حكمه أنه منفصل راساً ، فهو بحث مستقل ، لكن هذا المعنى وهو ان آدم عليه السلام ابتلي بالوسوسة ، لا من أجل أنه ك ان لا يعرف بخرط الوسوسة ، أو لم يكن لديه علم بشيطنة الشيطان ، أو كان جاهلاً بعداوة الشيطان ، بل الكلام هو عن النسيان . ____________ (1) سورة طه ، الآية : 115 . (2) سورة طه ، الآية : 117 .
(117)
الفيض الإلهي والمراتب الإنسانية : السؤال الآخر هو هل ان تعليم الاسماء خاص بالناس الأسوة والنموذجيين ، أم يتعلق بأي إنسان ؟ ولأن ( أسماء ) جمع محلى بألف ولام يتضمن جميع الحقائق والمعارف ، إذا استطاع شخص الوقوف صحيحاً على الميثاق الذي عقده ، ويكون ملتزماً على أساس الإلهام الذي تلقاه ، ويكون ثابتاً على اساس الفطرة التي فطر عليها ، و يكون معصوماً تماماً على أثر المارقبة والمحاسبة ، مثل هذا الشخص يصل إلى جميع الاسماء ، وإذا لم يحصل على أي من الأمور المذكورة في أية مرحلة يكون مصداق الآية الكريمة التي تقول : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) (1) . مثل هذا الشخص لا يحقق أية استفادة ، وإذا كان في حد حياة حيوانية ، يحصل على فائدة حيوانية ، عند ذلك يكون بين هؤلاء الذين يحملون فائدة حيوانية وبين أولئك الذين هم في أوج الإنسانية مراتب وكل منهم يتعلم بدوره إسماً من الأسماء الحسنى ، حتى تصل إلى العترة الطاهرة عليهم السلام الذين يعلمون الاسماء ، وهم مظهر تام للأسماء الحسنى من باب ( إتحاد العالم والمعلوم ) ، لذا روي عن الإمام الصادق عليه السلام في ذيل الآية الكريمة : ( ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها ) (2) . قوله : ____________ (1) سورة البقرة ، الآية : 74 . (2) سورة الأعراف ، الآية : 180 .
(118)
« نحن والله الاسماء الحسنى » (1) .
اتحاد العاقل والمعقول أو العالم والعلم : ورد في الكتب الفلسفية ان العالم والمعلوم أو العاقل والمعقول متحدان ، ومحور الوحدة أو الاتحاد ليس خارج حدود الروح . بيان مسألة هو ان هناك ستة أمور مطروحة في مسألة ( إتحاد العاقل والمعقول ) ، أربعة منها خارج محور البحث ، وأمران فقط يقعان في محوره فمثلاً إذا أدرك شخص حيقة شيء خارج ، يسمى الشجر ، وكان متخصصاً بالاشجار ، وعرف كيف تنمو الشجرة ، وأين تزرع ، وما هي آفتها ، وكيف تعالج ، وكيف تثمر ، ولماذا لا تثمر ، مثل هذا الشخص يصبح مهندساً زراعياً . ان الشجرة التي في الخارج لها ماهية باسم ( الجنس النامي ) ولها وجود غرست بذلك الوجود في بستان وأصبحت ( الشجرة موجودة ) . الماهية الخارجية ، والوجود الخارجي للشجر ليس داخلاً رأساً في مسألة اتحاد العاقل والمعقول . من ناحية أخرى ، الإنسان المدرك والعالم بهذه الشجرة الخارجية ، له ماهية باسم حيوان ناطق ، وله وجود وهو وجود إنساني ، هنا أيضاً ماهية الإنسان غير داخلة في مسألة اتحاد العاقل والمعقول ، لكن وجوده داخل في البحث . من ناحية أخرى والآخر وجود تلك الماهية لدى العالم ، هذا الوجود ، هو العلم الذي يعتبر المهندس بواسطته عالماً بماهية الشجرة ، هنا أيضاً تلك الماهية أو المفهوم الذي في الذهن هو خارج رأساً من محل البحث ، فبين هذه الأمور الستة ( وجود الإنسان وماهية ، وجود الخارجي وماهيتها ، وجود الشجرة الذهني ____________ (1) أصول الكافي ، ج 1 ص 144 ، الباب 23 .
(119)
وماهية الموجود في الذهن ) تخرج ماهية الشجرة والوجود الخارجي للشجرة من البحث رأساً ، وماهية الإنسان لم تكن داخلة في البحث أيضاً ، وماهية أو مفهوم الشجرة الذهني أيضاً خارج من البحث . بناء على ذلك يظل من تلك الأمور الستة وجود الإنسان مع العلم وهذا العلم هو غير الوجود الذهني لذا فالبحث هو عن اتحاد العالم لا اتحاد العالم مع الوجود الذهني . الفرق بين الوجود الذهني والعلم هو بعهدة الحكمة المتعالية ، لذا يطرح بحث الوجود الذهني منفصلاً عن بحث العلم في الكتب الفلسفية ، إذا نضج الإنسان يرتبط مع العلم لامع المعلوم . وهذا العلم علم بذاته ، معلوم بذاته ، عالم بذاته ، وعندما ترتبط النفس بالعلم تصبح عالمة ، وهذا الارتباط في أوائل الأمر هو بنحو الحال ، وبعد ان يصبح ملكة ويصبح هذا الشخص صاحب رأي ومجتهداً يصبح العالم عين العلم والعلم عين العالم .
مظاهر الاسماء الحسنى : عند ذلك تبين المسالة التي ذكرها الإمام السادس ( نحن والله الاسماء الحسنى ) هكذا : انهم علم وقدرة وحكمة ومظاهر عينية للاسماء الحسنى . لأن العلم هو وجود خارجي والوجود الخارجي غير الوجود الذهني ، لذا كل شخص يسير في هذا الطريق يحمل سهماً من الاسماء الإلهية بمقدارة . والملائكة لهم أيضاً دردات متنوعة ، والملائكة الأرضيين هم غير الملائكة السماويين ، والملائكة السماويين أيضاً ليس لهم مراتب متساوية ، ويمكن ان يصل الإنسان إلى محل يكون الملائكة في خدمته. إن الملائكة تستقبل الإنسان عند الموت وتستقبله عند الدخول إلى الجنة البرزخية أو الجنة الكبرى ويقولون :
( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) (1) . هو من هذا القبيل . الملائكة ليسوا كلهم في مستوى ( حملة العرش ) ، بل بعض الملائكة هم خدّام الإنسان ويكون الإنسان سبباً في ظهور ذلك النوع من الملائكة ، وان هذا يتعلق قطعاً بكيفية حمل الأمانة بواسطة الإنسان وإلى أية درجة يستطيع معرفة هذا الحمل وإيصاله إلى الهدف .
درجات الإنسان من لغة القرآن : من هذا الإنسان ؟ نقرأ في القرآن أن الإنسان أرقى من مجموعة النظام الدنيوي ويستطيع ان يعمل ما لا تستطيعه السماوات والأرض والجبال ، أحياناً نقرأ في القرآن ان الجبل أفضل وأرقى من الإنسان ، والسماء والأرض أفضل منه ، إذ فهم الإنسان ثقل الأمانة وحملها ، يعبر هذا النظام الدنيوي وإذا ظل بمستوى الظلوم الجهول يصبح مصداق : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ) (2) . الله تعالى يقول للإنسان الذي يفكر في حدود البدن فقط : ( لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ) (3) . وفي آية أخرى يقول : ( إنك لم تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً ) (4) . القرآن يقول : إن الإنسان عبر ويعبر السماوات . فإذا لم يستطع ان يوصل هذا الحمل إلى المقصد ، يقول له القرآن : ( لخلق السموات والأرض
(121)
أكبر من خلق الناس ) ويقول : ( أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسوّاها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ) (1) الإنسان يقع بين هذا النفي والإثبات ، أما يصبح أحقر من الحجر أو يذهب أبعد من جميع السماوات .
آلية البدن في جميع النشآت : يلزم خلال هذا البحث الانتباه إلى أنه رغم ان روح الإنسان تشكل حقيقته . ولكن الإنسان يرافق البدن في كل نشأة ، ففي الدنيا له بدن ، وفي البرزخ ايضاً . وفي القيامة أيضاً ، الكلام ليس في ان الإنسان يكون بلا بدن في نشأة من النشآت ، المقصود هو أن البدن ليس هو حقيقة الإنسان ولا هو جزء من حقيقته . بل هو أداة صرفة ، الآن حيث لدينا في الدنيا جسم وروح ، تقوم الروح بجميع الأعمال ، وتتحمل الروح جميع الآلام والمتاعب أو اللذة والنشاط ، عندما تتعرض اليد إلى ضربة فإن القوة اللامسة هي التي تشعر لا جرم اليد ، كما ان قوة اللمس هذه وهي جزء من شؤون الورح إذا خدّرت وقطعت اليد قطعة قطعة لا تشعر بالألم ، الروح هي التي تشعر ، عندما نأكل ، رغم ان الفك يتحرك والأسنان تلوك ولكن الذائقة تلتذ والذائقة هي من شؤون الروح ، عندما نشرب ماء رغم ان التجرع هو عمل فضاء الفم ولكن الارتواء والشعور برفع العطش يتعلق بالروح . في الألم هكذا وفي النشاط كذلك . فالآن حيث لدينا ابدان ، فان جميع الأعمال تتولاها الأرواح والأبدان أدوات ليست أكثر ، تنقلها الأرواح من مكان إلى مكان (2) . في جهنم المسألة على هذا المنوال أيضاً . الله تعالى يقول : ____________ (1) سورة النازعات ، الآيات : 27 ـ 29 . (2) ديوان حكيم الأسرار ، الحاج ملا هادي السبزواري .
(122)
( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ) (1) . لأن قوة اللمس عموماً منتشرة في جميع جرم البدن خاصة في الجلد ، وقوة اللمس هذه هي بعهدة هذا الجلد ، لذا تتبدل جلودهم لكي يشعروا بالألم أكثر ، لا أن الجلد يتألم ، بل هم يتألمون بجلد جديد ( ليذوقوا العذاب ) بناء على هذا فانه كما أن للإنسان بدناص في الدنيا كذلك له بدن في النشأة الأخرى ولكن كما أن البدن هو فرع في الدينا ، ففي النشأة الأخرى أيضاً يكون البدن فرعاً .
|