ذكر شواهد قرآنية (2)
خلق الإنسان وخلافته : يحلل الله تعالى مسألة الإنسان إلى أصل هي الروح ، وإلى فرع هو الجسم ويسند هذا الفرع إلى الطين والتراب والطبيعة والمادة . ( إني خالق بشراً من طين ) (1) . ويسند ذلك الأصل إليه ويقول : ( ونفخت فيه من روحي ) (2) . ____________ (1) سورة ص ، الآية : 71 . (2) سورة الحجر ، الآية : 29 .
(94)
وفي سورة المؤمنون حين تصل مسألة الجنين إلى النهاية ويقطع الطفل المراحل الجنينية يقول تعالى : ( ثم أنشأناه خلقاً أخر ) (1) . أعطيناه الروح ، أي الروح تأتي عندما تكون مسألة المرأة والرجل قد انتهت ، أي بعد : ( فكسونا العظام لحماً ) (2) . عندما قام المصور بالتصوير وانتهت مسألة الذكورة والأنوثة ، قال : ( ثم أنشأناه خلقاً آخر ) ، وذلك الخلق الآخر ليس مكوناً ذكور وإناث . في سورة القيامة نقرأ آية تشير بشكل كامل إلى أن ارتباط الذكورة والأنوثة يعود إلى الطبيعة والمادة لا إلى الروح . قال تعالى : ( ألم يك نطفة من منّي يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوّى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى )(3) هذه الآية تشير إلى ان الوالدين لا يقومان إلا بالإمناء ، وما يسمى بالخلق هو من الله . في هذه الآية يقول تعالى بأن المذكر والمؤنث يعود إلى ( منّي يمنى ) لا إلى ( نفخت فيه من روحي ) كيفية الصورة مختلفة ، مسألة المذكر والمؤنث هي من العلقة وما بعد ذلك ، ومسألة الذكور والإناث مطروحة في نظام البدن . وبعد ان تنتهي مسألة الذكور والإناث ، يأتي عند ذلك دور الروح ، وسواء فسرت الروح على أساس ، ما يعين ان ( الأرواح جنود مجندة ) حيث يقول البعض ان الارواح هي قبل الأبدان ، أو على أساس ان ____________ (1) سورة المؤمنون ، الآية : 14 . (2) المصدر السابق . (3) سورة القيامة ، الآيات : 37 ـ 39 .
(95)
الروح المجردة تحدث متزامنة مع كمال البدن ، أو على أساس ثالث . فعلى أيّ حال فإن الروح هي بعد حدوث الذكورة والأنوثة ، أي أنه بعد أن يعبر البدن مرحلة المذكر والمؤنث ، عند ذلك حديث الروح ، وهذا يجب تبيينه في الفصل الثاني والثالث بالاستعانة بالفصل الأول . ولأن الله تعالى يعتبر عمل الوالدين الإمناء وعمله الخلق ، لذا يثمن عمله ويقسم في جملة واحدة وسياق واحد بخلق المرأة والرجل ويعطي هذه الخلقة حرمة ويقول : ( والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى ) (1) . عندما يقسم بالليل ويقسم بالنهار في حالتيهما المتنوعتين ، يقسم أيضاً بخلق المرأة والرجل لأن كلمة ( ما ) في ( وما خلق الذكر والأنثى ) هي مصدرية ، الخلق هو موضع القسم ، وليس المخلوق ، والله لا يقسم بالمرأة والرجل ، بل يقسم بخلق المرأة والرجل وهو فعله ، ولو لم يكن الاثنان محترمين ، لما أقسم بخلقهما .
الزوج والزوجة في القرآن : كلمة زوج وزوجة متقابلتان في التعابير العرفية ، ولكن القرآن الكريم كما يرى الرجل زوجاً يرى المرأة كذلك . يعد المرأة زوجاً ، فكلمة زوجة أو زوجات لم تستعمل في القرآن ، بل يستعمل أزواج . المرأة زوج كما ان الرجل زوج ويعبر بأن الله خلق آدم . وخلق زوجه من تلك النفس . ( وخلق منها زوجها ) (2) . ____________ (1) سورة الليل ، الآيات : 1 ـ 3 . (2) سورة النساء ، آية : 1 .
(96)
ولأن الزوج هو الشيء الذي يصبح الواحد بواسطته اثنين . فحين يرد كلام عن المرأة والرجل ، يقول : ( فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ) . أو يذكر نساء الجنة بصفة ( أزواج ) مطهرة . لا ( زوجات ) . وكما ان الرجل هو زوج المرأة ، فالمرأة أيضاً هي زوج الرجل ، أحياناً يرد الكلام عن الزوج والزوجة لرفع الالتباس والتكلم على أساس المعايير الأدبية والدراسية ، وإلا فتعبير القرآن الكريم بشأن المرأة والرجل متساوٍ .
الإنسان ومقام الخلافة : المسالة الأخرى المطروحة في هذا البحث هي ان أرفع مقام يفرض للإنسان هو مقام الخلافة ، أي خلافة الله . إذا وصل في الخلافة إلى مقام رفيع ، فهناك إلى جانب ذلك مسألة الولاية والرسالة والنبوة ، وأمثالها . وإذا دخل إلى المراحل الوسطى أو النازلة فهو الإيمان وأمثاله ، ويمكن ان لا ترافقه الرسالة أو النبوة . والسؤال المطروح هو : هل ان الخلافة الإلهية هي للرجل والذكورة شرط والأنوثة مانع ؟ أم ان الخلافة ليست للرجل ، ولكن الرجال استطاعوا النجاح في تحصيل الخلافة ولم تنجح النساء ؟ أم أنها غير مشروطة بالذكورة ولا ممنوعة بالأنوثة ، والذين نجحوا في أن يصبحوا خليفة الله إنسانيتهم أدت إلى ذلك ذكورتهم ، الرجل لم يصبح خليفة ، بل الذي أصبح خليفة الله ، إنسان له بدن رجل . توضيح المسألة أنه جاء في القرآن الكريم كلام عن خلافة آدم : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) (1) . ____________ (1) سورة البقرة ، الآية : 30 .
(97)
ثم قال الملائكة : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) (1) . فأوضح الله تعالى لهم بأنه معلمهم وخليفته عن طريق تعليم الاسماء لآدم . وقد توضح في بحوث الخلافة ان آدم ، ليس ( قضية شخصية ) وشخصاً معيناً خليفة الله ، بل أن مقام الإنسانية هو خليفة الله . لذا جميع الأنبياء ، خاصة خاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم هم خلفاء الله ، هذه ليست ( قضية في واقعة ) بل هي تشير إلى مقام الإنسانية ، فكيف يكون آدم خليفة الله ، مع انه ليس من الأنبياء أولي العزم ، ولا يكون الأنبياء الآخرون خاصة أولوا العزم وبالأخص خاتمهم ـ عليهم السلام ـ خليفة الله ؟ بل المقصود هو الإنسان الكامل ، فالفرض ليس شخص آدم ، بل شخصيته الإنسانية . وفي هذه المسألة ( ان خليفة الله هو مقام الانسانية لا الذكورة ) شهد آخر على أن سر كون مقام الإنسانية خليفة الله ، هو بسبب تعليم الاسماء . قال تعالى : ( وعلّم وآدم الاسماء كلها ) (2) . إن م حور التعليم والتعلم كما مر في البحوث السابقة هي روح الإنسان ، لا البدن ولا مجموع الروح والبدن . ان الذي يصبح عالماً هي الروح ، والروح ليست مذكراً ولا مؤنثاً . بناء على هذا فان العالم بالاسماء الإلهية هي الروح وليس الجسم ، والنتيجة : أن معلم الملائكمة هي روح الإنسان وليس البدن . وثمرة البحث هي ان خليفة الله هي روح الإنسان وليس ____________ (1) سورة البقرة ، الآية : 30 . (2) سورة البقرة ، الآية : 31 .
(98)
الجسم .
مقام الإنسانية ، مسجود الملائكة : من البحث السابق يستنتج ان مسجود الملائكة هي روح الإنسان وليس الجسم ، حيث أن الملائكة خاضعة لروح الإنسان و الشياطين أعداء لروح الإنسان . فالشيطان ليس شيئاً مع الرجال لأنه كان سيئاً مع آدم . وإنما هو مسيء للإنسانية وعدو للناس ( سواء كانوا رجالاً رجالاً أو نساءً ) ، لذا نجد الله تعالى يخاطب المجتمع البشري بأن عدوكم المبين هو الشيطان بناء على هذا ، فان مسجود الملائكة هو مقام الإنسانية ، ولأن معلم الملائكة هو مقام الإنسانية ، فالعالم بالاسماء هو مقام الإنسانية ، ومقام الإنسانية العالم بالاسماء ، منزه عن الذكورة والأنوثة ، فارفع مقام وهو مقام الخلافة ، هو لإنسانية الإنسان ولا بختص بالمرأة أو الرجل ، وما ورد في سورة الأعراف يؤيد هذه المسالة أحياناً ، جاء في أوائل سورة الأعراف : ( و لقد خالقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) (1) . أي انه ذكر خلاصة الناس وهو مقام الإنسانية بعنوان آدم وقال للملائكة ان يكونوا خاضعين لمقام المعلم ، ورغم ان البعض يظنون انه يمكن الاستفادة من هذه الآية وجود أناس كانوا قبل آدم ، ولكن آيات سورة آل عمران وأمثالها توضح جيداً أن هؤلاء الناس هم نسل آدم عليه السلام وآدم من ( تراب ) ، رغم انه طبقاً لبعض الروايات قد وجد بشر كثيرون جاؤوا قبل آدم ، ولكنهم رحلوا والنسل الفعلي للبشر ينتهي إلى آدم ، حيث قال تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن ____________ (1) سورة الأعراف ، الآية : 11 .
فيكون ) (1) . يقول تعالى بانه لماذا الغلوّ بشأن عيسى ، تعتبرونه ( ابن الله ) وتقولون بشأن الله ( ثالث ثلاثة ) ؟ قضية عيسى مثل قضية آدم . لو كان آدم ابنا لأبوين لما أصبحت قضية عيسى شبيهة بقضية آدم وحواء أبداً . الخلاصة انه يستنبط من آية سورة الأعراف أن خلاصة الإنسانية ظهرت بصورة آدم ، وهذه الخلاصة صارت خليفة الله ومسجود ومعلم الملائكة . إنسان وكلما زاد سهم من خلاصة الإنسانية حصل على حظ وافر من الخلافة ونصيب أكثر من التعليم وحصة أهم من المسجود ، لذا يكثر تعرض الشياطين له إلا أن ييأسوا .
استفهام الملائكة واعتراض الشيطان : عندما أراد الله تعالى خلق الخليفة كان الملائكة والشيطان غافلين عن هذا الأمر ، لذا فكلاهما سأل الله تعالى ، ولكن لياقة الملائكة كانت تقتضي ان يطرحوا هذا السؤال بصفة استفهام ، وشيطنة الشيطان دفعنه إلى طرح هذا السؤال بصفة اعتراض ، كلاهما سأل ، ولكن أحدهما مستفهما والآخر متعنتاً ـ جاء في الجوامع الروائية في مسألة آداب التعلم . ( سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً ، فغن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم وان العالم المتعسف شبيه بالجاهل المتعنت ) (2) أي ان السؤال مفتاح العلم وكثير من الفضائل مترتبة على السؤال ، كما ورد أن العلم مخزون في كنز ومفتاحه السؤال وبأن جماعة كثيرة تؤجر بسؤالكم . فالذي يجيب يحصل على أجر وكذلك المستمع يحصل على أجر ، أي ان السامع يحصل على أجر ____________ (1) سورة آل عمران ، الآية : 59 . (2) نهج البلاغة ، تحقيق صبحي الصالح ، الحكمة 320 .
(100)
والسائل أيضاً مأجور ، ولكن كما هو مشخص ان مراد مضمون الرواية هو انه يجب السؤال لأجل الفهم ، لا لأجل العناد ـ لذا حين قال تعالى : ( اني جاعل في الأرض خليفة ) (1) . قال الملائكة : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) . وذكروا سرّ أولويتهم هكذا : ( ونحن نسبحّ بحمدك ونقدس لك ) . تلك الجهة رجحان خلافة الملائكة وهذه الجهة مرجوحية خلافه الإنسان ، إحداهما سلبية والأخرى إثباتية ، ولكن الملائكة بدأوا جميع هذه الاحتجاجات في سؤالهم الأول ، بالتسبيح وقالوا : ( سبحانك ) ، أي انك منزه عن كل نقص وعيب ، ومبرأ من كل نقد واعتراض ، ونحن الذين لا معلم ن وأنهم بعد الفهم سبحوا أيضاً وقالوا : ( سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنا ) (2) . أما اعتراض الشيطان عند الأمر بالسجدة فكان هكذا : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) (3) . ولأن سؤال الشيطان كان ممزوجاً بالنقد والاعتراض ، لذا عبر القرآن الكريم عن شيطنة الشيطان ، بهذا التعبير : ( أبى واستكبر وكان من الكافرين ) . ____________ (1) سورة البقرة ، الآية : 30 . (2) سورة البقرة ، الآية : 32 . (3) سورة الأعراف ، الآية : 12 .
(101)
أقسام الإباء والامتناع : الإباء على نوعين : 1 ـ إباء اشفاقي ، وهذا النوع من الإباء ليس مذموماً ، فالشخص العاجز عن تحمل تكليف يأبى ، ولكن إباءه ، هو إباء إشفاقي وليس له مذمة ، كما في قوله تعالى : ( إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها ) (1) . هنا ليس في الأمر ذم ، لأنهما لم تكونا قادرتين فأبين . 2 ـ إباء استبكاري : يكون الإباء استكبارياً عندما توجد قدرة على الفعل ، ولكن في نفس الوقت يتمرد ، لذا تعبير القرآن عن إباء الشيطان ممزوج بالاستكبار ( أبى واستكبر وكان من الكافرين ) . من هنا يتضح أن محور نقد الشيطان ومحور سؤال الملائكة هو في رؤيتهم البدن ، وإلا لا الملائكة أدركت روح الإنسان ، ولا الشيطان كان عالماً بروحه . الملائكة رأت الجنبة ، المادية والبدن ، لذا سألوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) . كما ان الشيطان رأى البدن وقال : ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) .
آدم ، معلم ، الاسماء : وقد رفع الله ، في مقام الجواب ، الحاجب ، بحيث أطلع الملائكة وعلمهم ، وعلم الشيطان أيضاً مع هذا الفرق وهو أن تعليم الشيطان رفقه ____________ (1) سورة الأحزاب ، الآية : 72 .
(102)
طرد ، وتعليم الملائكة امتزج بالتقرب ، قال تعالى للملائكة : ( إني أعلم ما لا تعلموم ) (1) . ثم بين الأمر للملائكة هكذا وقال : ( وعلّم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ) (2) . قال للملائكة : إن خليفته ليس مصداق ( من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ، بل خلفيته العارف بحقائق العالم ومتعلم الاسماء ، والذي يسفك الدماء ، على أساس ( اثّاقلتم إلى الأرض ) (3) ، ويقبل بمسألة سفك دماء البدن أو يقبل بالفساد ، فالإنسان من ناحية ان لديه روحاً عالمة طبق ( وعلم آدم الاسماء ) هو خليفته ، حيث انه تعالى ذكر أن آدم ليس مسجوداً من ناحية أنه خلق من طين ، وخرج من تراب ، بل من ناحية أنه يمر من الأفلاك .
عدم شأنية الملائكة للتعلم : عندما طرح الله مسألة تعليم الاسماء عرف الإنسان الكامل معلماً للملائكة ، وجعل الملائكة تلاميذ الإنسان ، وليس تلاميذ الله ، ولو كان للمائكة شأنية كسب العلم من الله بدون واسطة ، لم يكن عند الله تعالى إمساك وبخل عن قبولهم . فيتضح ان الملائكة ليس لهم شأن في أن يكونوا تلاميذ الله بلا واسطة بدليل انه : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) (4) . كما ليس لهم لياقة لأن يصبحوا عالمين وبحقائق جميع الاسماء ، بل هم ____________ (1) سورة البقرة ، الآية : 30 . (2) سورة البقرة ، الآية : 31 . (3) سورة التوبة ، الآية : 38 . (4) سورة الصافات ، الآية : 164 .
(103)
يعرفون فقط في حد الأنباء عن حقائقها ، ولو كان غير هذا لقال الله تعالى لآدم : يا آدم علمهم باسماء هؤلاء . ولأنه لم يقل لآدم : كن معلمهم ، بل قال : ( أنبئهم بأسمائهم ) (1) . أي أنبئهم بالاسماء ، لا تعليم الأسماء يتضح أولاً : ان الملائكة هم دون ان يجعلوا تلاميذ الله بلا واسطة ، وثانياً : هم دون ان يكونوا تلاميذ ومتعلمين لجميع الاسماء ، بل يجب ان يكونوا مستمعين صرفاً ويسمعون النبأ فقط ، وليس كل المسائل . عندما تكلم الله تعالى عن هذه الساحة أفهم الملائكة ان خليفته هو معلم ومنبيء وعالم الاسماء ، وقال للشيطان إن خليفته ، ليس الذي خرج من التراب ، بل الشخص الذي له إحاطة ، بالتراب أيضاً ، وذلك . أولاً : معنى الخلافة هو ان يكون شخص خليفة ( المستخلف عنه ) . ثانياً : في معنى الخلافة أخذت غيبة المستخلف عنه ، لأن المستخلف عنه إذا كان له حضور ، فلا محل للخلافة . ثالثاً : معنى الخلافة هو ان يأتي شخص الخليفة من خلف المستخلف ، لا من الأمام واليمين واليسار لذا يجب ان يكون للمستلف عنه خلف ، أي يكون محدوداً حتى يكون هناك محل للخليفة . رابعاً : ولأن الله تعالى هوالمحيط الكل ، وليس له خلف وغايبة حتى يملأ شخص ذلك الخلف والغيبة ، في النتيجة يجب أن يكون خليفة الله محيطاً أيضاً ، حتى يستطيع تحمل لياقة خلافة الله ، وهو لا يمكن ان يكون إلا ____________ (1) سورة البقرة ، الآية : 33 .
(104)
الإنسان الكامل ؛ لأنه مظهر تشبيه وتنزيه وجامع كل الاسماء الحسنى ، و ليس الملائكة الذين هم جامعون الاسماء التنزيهية فقط ، ولا الحيوانات وغير الحيوانات التي لديها الاسماء التشبيهية فقط . فالإنسان هو الذي يتوفر فيه الجلال والجمال والتشبية والتنزيه والإنسان يستطيع ان يدل على المحيط ، لذا فهو خليفة محيط . يتضح من هذا البيان ان من هو خليفة الله له مقام أرفع من نشأة البدن ، وذلك المقام لائق للخلافة ، وما فوق نشأة البدن . ليس محلاً للذكورة والأنوثة ، وعلى أساس هذا التحليل فان خليفة الله ليس امرأة ولا رجلاً ، بل هو إنسان ، مسجود الملائكة ليس أمرأة ولا رجلاً ، بل هي إنسانية الإنسان .
عدم اختصاص الخلافة بآدم : الموضوع الآخر هو : أنه في مسألة الخلافة رغم ان الخطاب أحياناً لآدم وأحياناً الضمير بصورة مفرد أو مذكر وأمثال ذلك ، ولكن هذا ليس بمعنى ان الخلافة أو السجود لآدم وأمثال ذلك ، خاص بآدم عليه السلام أو مختص بالرجل ، والأدلة الدالة على هذا الموضوع عبارة عن : 1 ـ محور تعليم القرآن الكريم هو التعليم ، والتعليم عام أيضاً . 2 ـ في قضية آدم عليه السلام هذه يذكر مسألة عداوة الشيطان لآدم وحواء في إحدى السور بضمير مفرد وفي سورة أخرى بضمير تثنية ، ويتضح من هذا الأسلوب في البيان أن إتيان الضمير مفرداً في أحد المواضع ، هو لأجل الغشعار بأن الممثل هو شخص واحد ، لا من أجل أن العمل مع شخص واحد . وحين يقول الله تعالى لآدم : إن الشيطان عدوّ له ، فذلك من أجل ان آدم يتكلم بصفة ممثل للناس ، وهم يتكلمون مع آدم بصفته ممثلاً ، لا بمعنى أن الشيطان بصفة ممثل للناس ، وهم يتكلمون مع آدم بصفته ممثلاً ، لا بمعنى أن الشيطان هو عدو لآدم فقط ، وليس له شغل مع حواء ، ولهذا يذكر عداوة
(105)
الشيطان في سورة أخرى بضمير تثنية ويقول : ( لكما عدو مبين ) (1) . هذا أولاً ، وثانياً ؛ عندما يكون الكلام عن الوسوسة وتأثر آدم ، يذكر تعالى هذا المعنى بضمير مفرد في محل من القرآن ، وبضمير تثنية في محل آخر فيقول : ( وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين ) (2) . يقول صدر المتألهين في تفسير هذه الآية : العدو ، أي الشيطان أقسم لآدم وحواء عليه السلام أنني اتصرف معكما بنصح ، ثم أغواهما ، والحال بالنسبة لنا أقسم ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) (3) ماذا سيفعل ؟ الله أعلم . الشيطان أقسم بشأن آدم وحواء انه سيتصرف معهما بطريق النصيحة ( وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين ) أما بشأن بني آدم فأقسم ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) . هناك قال تعالى : ( وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين ) . ثم قال تعالى : ( فدلاهما بغرور ) ، ثم ذكر هذه المسألة بضمير مفرد في آية وقال : ( يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) (4) . وفي آية أخرى بين بضمير تثنية ، وقال : ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا ان تكونا ملكين أو تكونا من ____________ (1) سورة الأعراف ، الآية : 22 . (2) سورة الأعراف ، الآية : 21 . (3) سورة ص ، الآية : 82 . (4) سورة طه ، الآية : 120 .
(106)
الخالدين ) (1) . هنا يفسر الشيطان كلام الله بالرأي ، فالذي يدّعي ( أنا خير منه ) إذا سمع كلام الله أيضاً يفسره بالرأي في ان الله نهاكما وقال : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) (2) . هو لأنه إذا اكلتما من هذه الشجرة تصبحان ملكين وتلدان إلى الأبد ، وأن الله نهاكما من أجل ان لا تكونا خالدين ، ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ) ، وهذا المعنى ذكر بضمير مفرد في محل آخر في القرآن بصفة خطاب لآدم ( يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) .
الدلالة ، التدلية : ثم يقول تعالى في هذه المسألة : ( فدلاّهما بغرور ) (3) . التدلية ، أي التعليق ، هو إخلاء أسفل القدم بالشكل الذي يزل الإنسان . لذا عبر بـ ( فأزلّهما الشيطان ) (4) ، والإنسان يزل عندما يكون قد تعرض للتدلية ، ذهب بحجة الدلالة وقام بالتدلية . في جميع الحالات ذكر ضمير التثنية ، ولكن هنا ذكر ضمير المفرد وهذا يختم أيضاً ذلك الظن الباطل في أن يتخيل شخص ان الشيطان نفذ عن طريق المرأة ، بل خدعهما كليهما في آن واحد . و إذا كان هناك محل لمثل هذا التوهم ، وكان هناك ____________ (1) سورة الأعراف ، الآية : 20 . (2) سورة البقرة ، الآية : 35 . (3) سورة الأعراف ، الآية : 22 . (4) سورة البقرة ، الآية : 36 .
(107)
إمكان لقول الباطل يجب أن يقدم الإنسان هذا الباطل وهو أن الشيطان خدع المرأة عن طريق الرجل ، لا أنه خدع الرجل عن طريق المرأة ، رغم ان هذا هو أيضاً خيال باطل كما أن ذلك هو ظن باطل ، لأن الشيطان نفذ إليهما مباشرة ، ولم يخدع الرجل عن طريق المرأة ـ كما يعتقد البعض ولا خدع المرأة عن طريق الرجل ، قد يستفيد شخص ساذج التفكير مثل هذه الاستفادة من الآية ( هل أدلك على شجرة الخلد ) . بناء على هذا ، فإن مجيء الضمير مفرداً هو بسبب ان آدم كان بصفة مخاطب أوّلي وبصفة ممثل ، بصفة انه مستمع وترجمان وناطق ، ولذا في كل هذه المسألة ليست هناك أية خصوصية لآدم . ثالثاً : مسألة ( إهبطا ) (1) لكليهما و ( اهبطوا ) (2) للجميع ، هذا الموضوع له اشعار بأن ما تعود إليه الخلافة هي الإنسانية وما هو موضع عداوة الشيطان هي إنسانية الإنسان أيضاً ، عندما يأخذ الشيطان إنسانية الإنسان منه ، ويجعله في زمرة أوليائه عند ذلك تتبدل العدواة إلى ولاية ، حيث ان هناك بعض الناس تحت ولاية الشيطان ، ويذكرهم القرآن بصفة ( أولياء الشيطان ) (3) .
|