ثالثاً: منذ قصة الشورى
روى الماوردي بسنده عن الزهري عن ابن عباس قال: وجدت عمر ذات يوم مكروباً، فقال: ما أدري ما أصنع في هذا الأمر؟ أقوم فيه وأقعد؟ فقلت:
هل لك في علي، فقال: إنه لها لأهل، ولكنه رجل فيه دعابة، وإني لأراه لو تولى أمركم لحملكم على طريقة من الحق تعرفونها، قال قلت: فأين أنت عن عثمان؟ فقال: لو فعلت لحمل ابن أبي معيط على رقاب الناس، ثم لم تلتفت إليه العرب حتى تضرب عنقه، والله لو فعلت لفعل، ولو فعل لفعلوا، قال:
فقلت فطلحة؟ قال: إنه لزهو، ما كان الله ليوليه أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، مع ما يعلم من زهوه، قال فقلت فالزبير؟ قال: إنه لبطل، ولكنه يسأل عن الصاع والمد بالبقيع بالسوق، أفذاك يلي أمر المسلمين؟ قال فقلت سعد بن أبي وقاص؟
قال: ليس هناك، إنه لصاحب مقثب يقاتل عليه، فأما ولي أمر فلا، قال فقلت فعبد الرحمن بن عوف؟ قال: نعم الرجل ذكرت لكنه ضعيف، إنه والله لا يصلح لهذا الأمر يا ابن عباس، إلا القوي في غير عنف، اللين من غير ضعف، والممسك من غير بخل، والجواد في غير إسراف (1).
وروى اليعقوبي عن ابن عباس قال: طرقني عمر بن الخطاب بعد هدأة من الليل فقال: أخرج بنا نحرس نواحي المدينة، فخرج وعلى عنقه درته - حافياً، حتى أتى بقيع الغرقد، فاستلقى على ظهره، وجعل يضرب أخمص قدميه بيده، وتأوه صعداً فقلت له: يا أمير المؤمنين: ما أخرجك إلى هذا الأمر؟ قال:
أمر الله يا ابن عباس، قال: إن شئت أخبرك بما في نفسك، قال: غص غواص إن كنت لتقول فتحسن، قال: ذكرت هذا الأمر بعينه، وإلى من تصيره، قال:
____________
(1) أبو الحسن علي بن محمد الماوردي الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 11 - 12 (بيروت 1982).
صدقت، قال: فقلت له: أين أنت من عبد الرحمن بن عوف؟ فقال: ذاك رجل ممسك، وهذا الأمر لا يصح إلا لمعط في غير سرف، ومانع في غير إقتار، قال: فقلت: سعد بن أبي وقاص؟ قال: مؤمن ضعيف، قال فقلت: طلحة بن عبيد الله؟ قال: ذاك رجل يناول للشرف والمديح، يعطي ماله حتى يصل إلى مال غيره، وفيه بأو وكبر.
قال فقلت: فالزبير بن العوام، فهو فارس الإسلام؟ قال: ذاك يوم إنسان ويوم شيطان، وعفة نفس، إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر، حتى تفوته الصلاة، قال فقلت: عثمان بن عفان؟ قال: إن ولي حمل ابن أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس، وأعطاهم مال الله، ولئن ولي ليفعلن والله، ولئن فعل لتسيرن العرب إليه حتى تقتله في بيته، ثم سكت.
قال: فقال: امضها يا ابن عباس، أترى صاحبكم لها موضعاً؟ قال فقلت:
وأين يبتعد من ذلك، مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه؟ قال: هو والله، كما ذكرت، ولو وليهم تحملهم على منهج الطريق فأخذ المحجة الواضحة، إلا أن فيه خصالاً: الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس - مع حداثة السن - (يعني علي بن أبي طالب).
قال قلت: يا أمير المؤمنين، هلا استحدثتم سنه يوم الخندق، إذ خرج عمرو بن عبد ود، وقد كعم عنه الأبطال، وتأخرت عنه الأشياع، ويوم بدر، إذ كان يقط الأقران قطاً، ولا سبقتموه بالإسلام، إذ كان جعلته السعب وقريش يستوفيكم؟.
فقال: إليك عني يا ابن عباس، أتريد أن تفعل بي، كما فعل أبوك وعلي بأبي بكر، يوم دخلا عليه؟ قال: فكرهت أن أغضبه فسكت، فقال: والله يا ابن عباس، إن علياً ابن عمك لأحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله، ولئن
وليهم ليأخذنهم بمر الحق، لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته، ثم ليتحاربن (1).
وروى ابن سعد عن الواقدي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: قال عمر: لا أدري ما أصنع بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وذلك قبل أن يطعن، فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال: أصحابكم؟ يعني علياً، قلت: نعم، هو لها أهل، في قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره وسابقته وبلائه، قال: إن فيه بطالة وفكاهة، فقلت، أين أنت من طلحة، قال: فأين الزهو والنخوة، قلت: عبد الرحمن؟ قال: هو رجل صالح، على ضعف فيه، قلت: فسعد؟ قال: ذاك صاحب مقنب وقتال، لا يقوم بقربة لو حمل أمرها، قلت: فالزبير؟ قال: وعقة لقس، مؤمن الرضا، كافر الغضب، شحيح، وأن هذا الأمر لا يصلح، إلا لقوي في غير عنف، رفيق في غير ضعف، وجود في غير سرف، قلت: فأين أنت عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه.
وروى الطبري وابن الأثير: أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال له من حوله (لما طعن) استخلف، قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه، فخرجوا ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين لو عهدت عهداً، فقال: قد كنت قد أجمعت بعد مقالتي أن أنظر، فأولي رجلاً أمركم، هو أحراكم أن يحملكم على الحق، وأشار إلى علي، فرهقتني غشية، فرأيت رجلاً دخل جنة فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالب على أمره، فما أردت أن أتحملها حياً وميتاً، عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
____________
(1) أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح المعروف باليعقوبي تاريخ اليعقوبي 2 / 158 - 159 (بيروت 1980).
إنهم من أهل الجنة، وهم علي وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، فليختاروا منهم رجلاً، فإذا ولوا والياً فأحسنوا مؤازرته وأعينوه (1).
ويقول ابن شهاب الزهري في المغازي: يروى أن عمر بن الخطاب قال لأحد من الأنصار: من ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي، قال: فعد رجلاً من المهاجرين، ولم يسم علياً، فقال عمر: فما لهم من أبي الحسن، فوالله إنه لأحراهم - إن كان عليهم - أن يقيمهم على طريقة من الحق.
ويروى عن عمرو بن ميمون الأزدي أنه قال: كنت عند عمر بن الخطاب، حين ولى الستة، فلما جاوزوا أتبعهم ببصره، ثم فال: لئن ولوها الأجيلح (الأجيلح: من انحسر شعره من جانبي رأسه) ليركبن بهم الطريق، يعني علياً (2).
وقال الماوردي: حكى ابن إسحاق أن عمر، رضي الله عنه، لما دخل منزله مجروحاً، سمع هدة فقال: ما شأن الناس؟ قالوا: يريدون الدخول عليك، فأذن لهم، فقالوا: إعهد يا أمير المؤمنين، استخلف علينا عثمان، فقال: كيف يحب المال والجنة، فخرجوا من عنده، ثم سمع لهم هدة، فقال: ما شأن الناس؟ قالوا: يريدون الدخول عليك، فأذن لهم، فقالوا: استخلف علينا علي بن أبي طالب، قال: إذن يحملكم على طريقة هي الحق، قال عبد الله بن عمر: فاتكأت عليه عند ذلك، وقلت: يا أمير المؤمنين، وما يمنعك منه؟ فقال:
يا بني أتحملها حياً ميتاً.
وفي شرح نهج البلاغة: وأما أنت يا علي: فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم، فقام علي مولياً يخرج، فقال عمر: والله إني لأعلم مكان
____________
(1) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 65 - 66، وانظر: تاريخ الطبري 4 / 228.
(2) محمد بيومي مهران: الإمام علي بن أبي طالب 1 / 166 (بيروت 1990).
رجل، لو وليتموه أمركم، لحملكم على المحجة البيضاء، قالوا: من هو؟ قال:
هذا المولي من بينكم، قالوا: فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلى ذلك سبيل.
وفي خبر آخر، رواه البلاذري في تاريخه: أن عمر لما خرج أهل الشورى من عنده، قال: إن ولوها الأجلح، سلك بهم الطريق، فقال عبد الله بن عمر:
فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين، قال: أكره أن أتحملها حياً وميتاً (1).
وعلى أية حال، فإن رأي عمر في الإمام علي، إنما سبقه إليه سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: إن تؤمروا علياً - ولا أراكم فاعلين - تجدوه هادياً مهدياً، يأخذ بكم الصراط المستقيم (2).
هذا وقد روى الطبري وابن الأثير (3) وغيرهما: أن العباس - شيخ بني هاشم - قال لعلي، عندما خرجوا من عند عمر أول مرة، لا تدخل معهم، قال علي: إني أكره الخلاف، قال العباس: إذن ترى ما تكره.
فلما كانت المقابلة الأخيرة، قال الإمام علي - لقوم كانوا معه من بني هاشم - إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبداً، وتلقاه العباس، فقال علي:
عدلت عنا، قال العباس: وما علمك، قال علي: قرن بي عثمان، وقال (أي عمر) كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً، ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان (فهو زوج أخته أم كلثوم بنت عقبة، أخت الوليد بن عقبة وعثمان لأمه) لا يختلفون، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمان، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله إني لا أرجو إلا أحدهما (لعله يعني الزبير، فقد كان حتى الآن مع بني هاشم أخواله، لم يغيره ولده عبد الله).
____________
(1) الماوردي: المرجع السابق ص 13، شرح نهج البلاغة 12 / 259 - 260 (بيروت 1979).
(2) أسد الغابة 4 / 112، مسند الإمام أحمد 1 / 108 - 109، حلية الأولياء 1 / 64.
(3) تاريخ الطبري 4 / 228، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 63.
فقال له العباس: لم أرفعك في شئ، إلا رجعت إلي مستأخراً بما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تسأله فيمن هذا الأمر، فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى، ألا تدخل معه فأبيت، أحفظ عني واحدة، كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط، فإنهم لا يبرحون يبعدوننا عن هذا الأمر، حتى يقوم لنا به غيرنا، وأيم الله لا تناله إلا بشر، لا ينفع معه خير، فقال على: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا لتجدني حيث يكرهون (1).
وجمع المقداد بن عمرو أهل الشورى - في بيت المال أو بيت المسور بن مخرمة أو في حجرة عائشة أو في بيت فاطمة أخت الضحاك بن قيس، على اختلاف في الآراء - وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، فحصد بهما سعد، وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في الشورى، وتكلم عثمان - وكان أكبرهم سناً، فقد كان في التاسعة والسبعين - ثم تكلم الزبير ثم سعد، ثم تكلم الإمام علي - وكان أصغرهم سناً، بعد الأربعين بعام أو عامين - فقال: الحمد لله الذي بعث محمداً منا نبياً، وبعثه إلينا رسولاً، فنحن بيت النبوة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حق، إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، ولو طال السرى، لو عهد إلينا رسول الله عهداً لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولاً لجادلنا عليه حتى نموت، لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق، وصلة رحم، لا حول ولا قوة إلا بالله، اسمعوا كلامي، وعوا منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر، بعد هذا المجمع تنتضي فيه السيوف، وتخان فيه العهود، حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلال، وشيعة لأهل الجهالة (1).
____________
(1) تاريخ الطبري 4 / 229 - 230، الكامل لابن الأثير 3 / 67 - 68.
(2) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 73.
وبعد أن انتهوا جميعاً من كلامهم، قال عبد الرحمن بن عوف: أيكم يطيب نفساً أن يخرج نفسه من هذا الأمر، ويوليه غيره، فأمسكوا عنه ولم يجبه أحد، فقال: أنا أنخلع منها، فقال عثمان: أنا أول من رضي، فقالوا: رضينا، ولم يقل الإمام علي شيئاً، فظل يفكر فيما عسى أن يصنعه عبد الرحمن، فهو صهر عثمان، وابن عم سعد، أيؤثر أحدهما؟ فقال عبد الرحمن: ما تقول يا أبا الحسن، فقال علي: أعطني موثقاً لتؤثرن الحق، ولا تخص ذا رحم، ولا تألو الأمة نصحاً، قال عبد الرحمن: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير، وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلى ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه، ولا آلو الأمة نصحاً، وأعطاهم موثقاً، وأعطوه موثقاً.
واختلى عبد الرحمن بالإمام علي ثم بعثمان، وبين لكل منهما حقه، ثم قال لكل منهما: إذا صرف عنك هذا الأمر، من تراه أحق به؟ فأجاب علي:
عثمان، وأجاب عثمان: علي، ثم قال الإمام علي لسعد بن أبي وقاص:
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام وأسألك برحم بني هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحم عمي حمزة (وهو خال سعد)، ألا تكون مع عبد الرحمن ظهيراً لعثمان علي.
ومضى عبد الرحمن إلى رؤساء الجند، وأشراف الناس يشاورهم، حتى إذا ما كانت الليلة التي في صبيحتها يستكمل الأجل المضروب - وهو ثلاثة أيام - أتى إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة في آخر الليل، فأيقظه وقال له:
انطلق فادع الزبير وسعداً، فلما حضرا حاول أن يقنعهما بالبيعة لعثمان، وطبقاً لرواية الطبري قال لسعد: أنت وأنا كلالة، فاجعل نصيبك لي فأختار، قال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان، فعلي أحب إلي، وأما الزبير فقال:
نصيبي لعلي، ثم دعا عبد الرحمن علياً وعثمان، وانصرف علي - كرم الله وجهه في الجنة - وهو لا يشك أنه صاحب الأمر.
فلما صلى الصبح بهم صهيب جمع عبد الرحمن أهل الشورى الخمسة
- وكان طلحة ما زال غائباً لم يحضر بعد - كما بعث إلى المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، حتى امتلأ بهم المسجد، ثم قال: أيها الناس، إن الناس قد أحبوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، وقد عرفوا من إمامهم، فأشيروا علي. فقال عمار بن ياسر: إذا أردت ألا يختلف المسلمون فبايع علياً، فقال المقداد: صدق عمار، إن بايعت علياً قلنا: سمعاً وطاعة، فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح (أخو عثمان من الرضاعة، ووالي مصر في عهد عثمان): إذا أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عمار بن ياسر، لعبد الله بن سعد بن أبي سرح: متى كنت تنصح المسلمين، وتكلم بنو هاشم وبنو أمية، وأوشكت أن تحدث بينهما شحناء.
فقال عمار: أيها الناس، إن الله أكرمنا بنبيه، وأعزنا بدينه، فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم، فقام رجل من بني مخزوم فقال: لقد عدوت طورك يا ابن سمية، وما أنت و تأمير قريش لنفسها، وأوشكت النعرات الجاهلية أن تثور بين القوم، فقال سعد: يا عبد الرحمن، أفرغ قبل أن يفتتن الناس.
فارتقى عبد الرحمن المنبر وقال: أيها الناس، إني سألتكم سراً وجهراً، من إمامكم؟ فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين - علي وعثمان - فدعا علياً وقال له: عليك عهد الله و ميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسول الله، وسيرة الخليفتين بعده، قال: أرجو أن أفعل، فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال: له مثل ما قال لعلي، فقال: نعم، فبايعه، ودعا الناس إلى بيعته.
فقال علي: ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علي، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون، أما و الله ما وليت عثمان، إلا ليرد الأمر إليك (1)،
____________
(1) روي أن عثمان اعتل علة، فدعا حمران بن أبان، وكتب عهداً لمن بعده، وترك موضع الاسم، ثم كتبه بيده عبد الرحمن بن عوف، وربطه وبعثه إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقرأه حمران في الطريق، فأتى عبد الرحمن فأخبره، فقال عبد الرحمن - وقد غضب غضباً شديداً - استعملته علانية ويستعملني سراً، وانتشر الخبر في المدينة، وغضب بنو أمية، فدعا عثمان بمولاه حمران، فضربه مائة سوط، وسيره إلى البصرة، فكان ذلك سبب العداوة بين عبد الرحمن وعثمان (تاريخ اليعقوبي 2 / 169).
والله كل يوم هو في شأن، فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك سبيلاً، فإن نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان، فقال علي:
سيبلغ الكتاب أجله.
وروى ابن الأثير بسنده عن أبي بكر عن عياش عن عاصم عن أبي وائل قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم علياً؟ فقال: ما ذنبي؟ قد بدأت بعلي فقلت: أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، قال فقال: فيما استطعت، قال: ثم عرضتها على عثمان فقبلها (رواه ابن حنبل في مسنده 1 / 57).
وقال المقداد: أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق، وبه يعدلون:
فقال: يا مقداد: والله لقد اجتهدت للمسلمين، قال: إن كنت أردت بذلك الله، فأثابك الله ثواب المحسنين.
وروى اليعقوبي في تاريخه: ومال قوم مع علي بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان، فروى بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله، فرأيت رجلاً جاثياً على ركبتيه يتلهف تلهف من كأن الدنيا كانت له فسلبها، وهو يقول: واعجباً لقريش، ودفعهم هذا الأمر على أهل بيت نبيهم، وفيهم أول المؤمنين، وابن عم رسول الله، أعلم الناس وأفقههم في دين الله، وأعظمهم عناء في الإسلام، وأبصرهم بالطريق، وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي، الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحاً للأمة، ولا صواباً في المذهب، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعداً وسحقاً للقوم الظالمين، فدنوت منه فقلت: من أنت يرحمك الله، ومن هذا الرجل؟.
فقال: أنا المقداد بن عمرو، وهذا الرجل، علي بن أبي طالب، قال:
فقلت: ألا تقوم بهذا الأمر فأعينك عليه؟ فقال: يا ابن أخي، إن هذا الأمر لا يجري فيه الرجل ولا الرجلان، ثم خرجت، فلقيت أبا ذر، فذكرت له ذلك،
فقال: صدق أخي المقداد، ثم آتيت عبد الله بن مسعود، فذكرت له ذلك، فقال: لقد أخبرنا فلم نأل.
وروي أن الإمام علي قال: إن الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم.
وسرعان ما حدث هرج ومرج، ورأى الإمام علي أن اختلاف الناس قد يؤدي إلى الفتنة، فشق الناس حتى بايع، وهو يقول: خدعة أيما خدعة، ثم ارتقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لقد علمتم أني أحق الناس من غيري، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور، إلا علي خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله.
وفي أسد الغابة بسنده عن يحيى بن عروة المرادي قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أرى أني أحق بهذا الأمر، فاجتمع المسلمون على أبي بكر، فسمعت وأطعت، ثم إن أبا بكر أصيب، فظننت أنه لا يعدلها عني، فجعلها في عمر، فسمعت وأطعت، ثم إن عمر أصيب، فظننت أنه لا يعدلها عني، فجعلها في ستة أنا أحدهم، فولوها عثمان، فسمعت وأطعت، ثم إن عثمان قتل، فجاءوا فبايعوني - طائعين غير مكرهين - ثم خلعوا بيعتي، فوالله ما وجدت إلا السيف أو الكفر بما أنزل، عز وجل، على محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا بايع الإمام علي الخليفة الجديد - رغم اقتناعه أنه أحق الناس بالخلافة - بل ودعا الناس إلى بيعته، وخاصة أولئك الذين رأوا في اختيار عثمان ظلماً للإمام علي، سواء أكانوا من بني هاشم، أو من أهل الورع والسابقة في الإسلام - مثل سلمان وعمار وأبي ذر والمقداد وغيرهم من رواد شيعة الإمام - حتى لا يتحول هذا الشعور في أعماقهم إلى مرارة، وربما إلى نقمة على عثمان، وحرصاً على أن يطيع الجميع ولي الأمر الجديد، وأن يكون الإمام علي
لعثمان، كما كان لأبي بكر وعمر، كما يكون له في قلوب هؤلاء النفر من أهل السبق والفضل والتقوى، ما كان لأبي بكر وعمر أيضاً.
وروى الطبري وابن الأثير: أن المغيرة بن شعبة قال لعبد الرحمن بن عوف: يا أبا محمد، قد أصبت إذا بايعت عثمان، وقال لعثمان: لو بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا، فقال عبد الرحمن: كذبت يا أعور، لو بايعت غيره لبايعته، ولقلت هذه المقالة، وعلى أية حال، فلقد تمت البيعة بحضور طلحة من سفره، ومبايعته لعثمان (1).
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدة نقاط تتصل بقصة الشورى، وبيعة عثمان خليفة للمسلمين: منها (أولاً) أن الفاروق عمر، رضي الله عنه، إنما كان يريد اختيار الإمام علي - رضي الله عنه. وكرم الله وجهه في الجنة - لأن الإمام - فيما يرى - أحرى أن يحملهم على الحق، ولكنه تردد أخيراً، حتى لا يتحمل مسؤولية الخلافة حياً وميتاً، ومن ثم فقد لجأ إلى الشورى، ومع ذلك فإنه يقول - حين أوصى بالشورى - لو ولوها الأحيلج لحملهم على الجادة، أو إنه أحراهم - إن كان عليهم - أن يقيمهم على طريقة من الحق، ولعله كان في هذا مقتدياً بقوله صلى الله عليه وسلم: وإن تؤمروا علياً - ولا أراكم فاعلين - تجدوه هادياً مهدياً، يأخذ بكم الصراط المستقيم.
هذا فضلاً عما يتحلى به الإمام علي - رضوان الله عليه - من فضائل كثيرة،
____________
(1) أنظر عن قصة الشورى (تاريخ الطبري 3 / 227 - 239، الكامل لابن الأثير 3 / 65 - 75، تاريخ اليعقوبي 2 / 162 - 163، ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 1 / 39 - 745 الماوردي: الأحكام السلطانية ص 11 - 13، تاريخ ابن خلدون 2 / 993 - 998، شرح نهج البلاغة 1 / 185 - 197، ابن كثير: البداية والنهاية 7 / 158 - 161، البلاذري: أنساب الأشراف 5 / 16 - 22، ابن دقماق:
الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين ص 39 - 40، السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 153 - 154، العقاد: ذو النورين - عثمان بن عفان ص 126 - 152، ابن عبد ربه: العقد الفريد 5 / 26 - 36 أسد الغابة 3 / 592 - 593، 4 / 112، محمد بيومي مهران: الإمام علي بن أبي طالب 1 / 163 - 173، شرح نهج البلاغة 12 / 256 - 281، طبقات ابن سعد 3 / 41 - 42، طه حسين: الفتنة الكبرى - الجزء الأول - عثمان - القاهرة 1984 ص 48 - 49، 58 - 64.
سنتعرض لها بالتفصيل فيما بعد، وهي على أية حال، فضائل يعرفها له أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين، ويؤمن له بها أهل السنة، كما يؤمن له بها الشيعة، والدارس للتاريخ - عن حيدة ونزاهة - إنما يعرف المشكلات والقضايا الكثيرة التي عرضت للإمام علي، والتي تدل - دونما لبس أو غموض - أن سيدنا ومولانا الإمام علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - إنما كان أهلاً لكل الفضائل التي عرفت عنه، ولأكثر منها، وأنه كان أجدر الناس بأن يسير بالمسلمين إلى الصراط المستقيم - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب في أن الفاروق عمر إنما كان صاحب فراسة صادقة، وحدس يكاد لا يخطئ، أو نادراً ما يخطئ حين أشار بتولية الإمام علي، فقد كان يراه أشبه الناس به - أو هو أشبه الناس به - في شدته في الحق، و إذعانه للحق، وغلظته على الذين ينكرون الحق أو يضيقون به، ولكن القوم لم يولوا الإمام بعد الفاروق، حين كانت الدنيا مقبلة، والنشاط قوياً، و الإقدام قارحاً، والبصائر نافذة، والأمور تجري بالمسلمين على ما أحبوا، و إنما ولوا خلافتهم عثمان، فكان من أمرهم معه، وأمره معهم ما كان.
ومنها (ثانياً) أن أصحاب الشورى الخمسة الذين حضروا مجلس الشورى - وهم علي وعثمان والزبير وسعد وعبد الرحمن - كان ثلاثة منهم مع علي - وهم علي والزبير وسعد - وقد ذكرنا من قبل: أن عبد الرحمن طلب أن يعطيه سعد نصيبه، فقال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلي أحب إلي، وأن الزبير أعطى نصيبه لعلي، هذا إذا سلمنا أن عبد الرحمن كان في صف صهره عثمان، وطبقاً لوصية عمر في الشورى فصاحب الأغلبية هو الخليفة، وعلي هو صاحب الأغلبية.
ومن ثم فإن هاشم - فضلاً عن شيعة الإمام علي - رأوا فيما فعله عبد الرحمن خدعة لإقصاء الإمام علي وبني هاشم عن الخلافة.
هذا وربما يقول البعض: إن الإمام علي لم يتعهد لعبد الرحمن - كما تعهد عثمان - بأن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه، وسيرة الخليفتين - أبي بكر وعمر - من بعده، وإنما قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، والحق أن جواب الإمام علي جواب حكيم، ولا يدل أبداً على أنه يعدل عنهما، وإنما يدل على أنه يعمل جهد طاقته، ولا يقول ذلك في الغالب الأعم، إلا عالم متواضع، وليس الإمام علي هو الذي يشك في أنه سيقود السفينة - التي بدأت الأمواج والرياح تأخذ بها من كل جانب - إلى بر الأمان.
على أن الدكتور جمال سرور، من ناحية أخرى، إنما يذهب إلى أن طلب عبد الرحمن من الإمام علي، أن يتعهد بأن يسير بسيرة الخليفتين - أبي بكر وعمر - وهو يعلم أن علياً لا يرضى أن يتقيد بسياستهما، إنما أراد أن يحرجه، ليفسح المجال لاختيار عثمان، وسرعان ما تحقق غرضه، فقد تحرج الإمام علي من أن يعطي هذا العهد خشية أن تضطره الظروف إلى عدم الوفاء به، وعبر عن رفضه له بقوله: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، وفي رواية:
أرجو أن أفعل، فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي. ثم دعا عبد الرحمن عثمان، وقال له مثل ما قال لعلي، فقال عثمان: اللهم نعم، فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد، ويده في يد عثمان، ثم قال: اللهم اسمع واشهد، إني جعلت ما في رقبتي في رقبة عثمان، فازدحم الناس على عثمان يبايعونه.
وهكذا كان انتخاب عثمان مصطبغاً بصبغة التحيز للأمويين، وقد وجدت هذه النتيجة - من أول الأمر - معارضة من الهاشميين، فضلاً عن أهل الورع والسبق في الإسلام، مثل سلمان وعمار وأبي ذر والمقداد وغيرهم من رواد شيعة الإمام، حتى ذهب البعض إلى أن التشيع إنما بدأ منذ تلك اللحظة.
هذا ويذهب الدكتور أحمد صبحي (1) إلى أن عبد الرحمن بن عوف قد بنى
____________
(1) أحمد محمود صبحي: الزيدية - الإسكندرية 1980 ص 10.
اختياره على قاعدة غير معروفة في الشرع، إذ قرن سيرة الشيخين - أبي بكر وعمر - بكتاب الله وسنة رسوله، شرطاً على كل من علي وعثمان، ولم يقل أحد من قبل، ولا من بعد، أن سيرة الشيخين تقترن بكتاب الله وسنة رسوله في المسائل السياسية، وحين أراد الإمام على أن ينبهه إلى ذلك - كتاب الله وسنة رسوله فقط، وأن أجتهد، كما اجتهدا - نحاه عبد الرحمن، ليختار عثمان، حتى إذا اعترض الإمام علي، قال عبد الرحمن ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، فأضاف خطأ آخر باستشهاده بالآية الشريفة في غير موضعها، فضلاً عن أنها لا تقال لمثل الإمام علي.
ومنها (ثالثاً) ما ذهب إليه الأستاذ الخطيب (1)، من أن انتقال الخلافة من شخص إلى شخص، ومن بيت إلى بيت، من شأنه أن يحدث في مشاعر الناس وفي أفكارهم شيئاً جديداً، يتولد من نظرتهم لهذا الشخص وتقديرهم له، وصلتهم النفسية أو النسبية به وبأهله، وقد حدث شئ من هذا في خلافة الصديق والفاروق، فرضي أناس، وسخط آخرون، ولكن سرعان ما فاء الساخطون إلى الرضا،، فقد كان الناس قريبي عهد بالنبوة، وأمرهم لم يزل قائماً لحساب الدين وفي ظله، أكثر من قيامه لحساب العصبية وفي ظلها.
غير أن خلافة ذي النورين - عثمان بن عفان - إنما كان الأمر فيها مختلفاً، لأسباب، منها أن الزمن كان قد تراخى قليلاً بعهد النبوة، فانطلقت النفوس على طبيعتها، وتحركت النزوات والأطماع التي كان الدين قد اعتقلها زمناً، ومنها أن الصديق أبا بكر والفاروق عمر، لم يكونا من البيوت المتنازعة على زعامة قريش، بعكس عثمان - وهو أموي - ومن ثم فقد تحركت العصبية التي كانت قائمة قبل الإسلام بين بني أمية وبني هاشم، بل لقد ظن الأمويون أن هذه فرصتهم للحاق ببني هاشم، وأن الخلافة ستعيد إليهم مكانتهم التي كانت لهم
____________
(1) عبد الكريم الخطيب: علي بن أبي طالب - بقية النبوة وخاتم الخلافة - بيروت 1975.
في الجاهلية، روى المسعودي أن أبا سفيان قال - عقب اختيار عثمان خليفة - يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زالت أرجوها لكم، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة، فانتهره عثمان وساءه ما قال.
ونمي هذا القول إلى المهاجرين والأنصار، وغير ذلك الكلام، فقام عمار ابن ياسر في المسجد، فقال: يا معشر قريش، أما إذ صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم، ههنا مرة، وههنا مرة، فما أنا ينزعه الله منكم، فيضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله.
وقال المقداد: ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وما أنت وذاك يا مقداد بن عمر، فقال المقداد: إني والله لأحبهم، لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم، وإن الحق معهم وفيهم، يا عبد الرحمن، أعجب من قريش - وإنما تطولهم على الناس بفضل أهل هذا البيت - قد اجتمعوا على نزع سلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعده من أيديهم، أما وأيم الله يا عبد الرحمن، لو أجد على قريش أنصاراً لقاتلهم، كقتالي إياهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، يوم بدر (1).
ومنها أن عثمان كان سخي اليد، سمح النفس، قريب الرضا، بعيد الغضب، كما كان فيه حياء حي، يملك عليه أمره، إنه يلقى أحداً بما يسوؤه أو يحرجه أو يخزيه، هذا إلى أنه - كما وصفه الإمام علي - إنه أوصلنا للرحم، وفي طبقات ابن سعد عن الزهري قال: لما ولي عثمان عاش اثنتي عشرة سنة أميراً، يعمل ست سنين لا ينقم الناس عليه شيئاً، وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب، لأن عمر كان شديداً عليهم، فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم، ثم توانى في أمرهم، واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر،
____________
(1) المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر 1 / 633 (بيروت 1982).
وكتب لمروان بخمس مصر، وأعطى أقرباءه المال، وتأول في ذلك الصلة التي أمر الله بها، واتخذ المال، واستلف من بيت المال.
وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما، وإني أخذته فقسمته في أقربائي، فأنكر الناس عليه، وعن أم بكر بنت المسور عن أبيها عن أبيها قال: سمعت عثمان يقول: أيها الناس، إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف أنفسهما وذوي أرحامهما وإني تأولت فيه صلة رحمي (1).
ومن عجب أن صلة رحم عثمان بأهله وبره بهم، إنما كانت من الأسباب التي أدت إلى تغيير مجرى الأحداث، حتى انتهت بقتله شهيداً بين يدي كتاب الله، فلقد استغل بنو أمية أدب ذي النورين في صلة رحمه، أسوأ استغلال، فكان عثمان - وهو القانت ذو النورين - يصوم الدهر، وما يكاد يشبع من طعام، ثم يمنح أبا سفيان مائتي ألف دينار (2)، ويسمح لأعوانه أن يتخذوا
____________
(1) طبقات ابن سعد 3 / 44 (دار التحرير - القاهرة 1969).
(2) ليس صحيحاً ما ذهبت إليه بعض المراجع عن غنى أبي سفيان وثروته الطائلة من التجارة على أيام الجاهلية وأول الإسلام، ودليلنا أن ولده معاوية بن أبي سفيان كان على أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقيراً وربما معدماً، وقد روى أهل الفقه والحديث والمغازي وأصحاب الطبقات ما يدل على ذلك في قصة فاطمة بنت قيس، حيث روى الأئمة مالك ومسلم وأبو داود وابن قيم الجوزية وابن سعد وابن الأثير وابن حجر العسقلاني، واللفظ هنا للإمام مالك، حيث يروي في الموطأ (باب ما جاء في نفقة المطلقة) بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن فاطمة بنت قيس: أن أبا عمر بن حفص طلقها البتة - وهو غائب بالشام - فأرسل إليها وكيلة بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شئ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتد عند عبد الله بن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك عنده، فإذا حللت فأذنيني، قالت: فلما حللت ذكرت له: أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم بن هشام، خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك، لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، فنكحته، فجعل الله في ذلك خيراً، واغتبطت به (الموطأ ص 358 - 359، صحيح مسلم 10 / 94 - 98، سنن أبي داود 1 / 531 - 532، ابن الأثير: أسد الغابة 7 / 230، ابن حجر:
الإصابة في معرفة الصحابة 3 / 497 - 498، ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 5 / 185 - 186، ابن سعد: الطبقات الكبرى 8 / 200.
=>
القصور والضياع، ويلبسوا الديباج، وهو بعد يبيحهم من ألوان الترف والمتاع كل ما حرمه عليهم أبو بكر وعمر، واستهجنه علي.
وكان عثمان قد أخذ نفسه بورع الخلافة والإمامة والسنة الشريفة، ولكن عماله وأقاربه قد تسلطوا على رقاب الناس، فأخذوا الرعية بسياسة الملك العضوض، و ليس بسياسة الإمامة الورعة، ثم رأى الخليفة أنه من البر بذوي القربى ألا يسوءهم فتمادوا في مظالمهم، يحبسون مخالفيهم ويضربونهم بالسياط، وهم من خيرة الصحابة البررة الأمر الذي أثار ثائرة الناس على الخليفة، وسرعان ما وجد أعداء الإسلام من تفرق الشمل، ثغرة تسللوا منها، ومن ثم فليت الخليفة الشهيد أخذ عماله بسياسة عمر، ولكنه كان رفيقاً بهم، فرتعوا حتى سخطت الرعية، وانتهت الأمور بقتل الخليفة المظلوم، رضوان الله عليه -.
بقيت الإشارة إلى أن ابن خلدون، رغم أنه إنما يرى أن بداية التشيع إنما كان عندما توفي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أن الشيعة إنما وضح أمرها في أيام الشورى، حيث يقول: كان جماعة من الصحابة يتشيعون لعلي، ويرون
____________
<=
وروى الطبري وابن الأثير وابن أبي الحديد بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه قالوا: إن هند ابنة عتبة قامت إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فاستقرضته من بيت المال أربعة آلاف درهم، تتجر فيها وتضمنها، فأقرضها، فخرجت فيها إلى بلاد كلب، فاشترت وباعت، فبلغها أن أبا سفيان وعمرو بن أبي سفيان قد أتيا معاوية (وكان أميراً في الشام) فعدلت إليه من بلاد كلب، فأتت معاوية - وكان أبو سفيان قد طلقها، قال: ما أقدمك أي أمة؟ قالت النظر إليك أي بني، إنه عمر، وإنما يعمل لله، وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شئ، وأهل ذلك هو، فلا يعلم الناس من أين أعطيته فيؤنبونك، عمر، فلا يستقيلها أبداً، فبعث إلى أبيه وأخيه بمائة دينار، وكساهما و حملهما، فتعظمها عمر، فقال أبو سفيان: لا تعظمها، فإنه عطاء لم تغب عنه هند، ومشورة قد حضرتها هند، ورجعوا جميعاً، فقال أبو سفيان لهند: أربحت؟
فقالت: الله أعلم، معي تجارة إلى المدينة، فلما أتت المدينة وباعت شكت الوضيعة، فقال لها عمر: لو كان مالي لتركته لك، ولكنه مال المسلمين، هذه مشورة لم يغب عنها أبو سفيان، فبعث إليه، فحبسه حتى أوفته، وقال لأبي سفيان: بكم أجازك معاوية، فقال: بمائة دينار (تاريخ الطبري 4 / 221، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 3 / 62، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 12 / 98).
استحقاقه على غيره، ولما عدل به إلى سواه تأففوا من ذلك و أسفوا له، مثل الزبير وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وغيرهم، إلا أن القوم لرسوخ قدمهم في الدين، وحرصهم على الألفة، لم يزيدوا في ذلك وعلى النجوى بالتأفف والأسف (1).
|