متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
تاسعاً: إمامة المفضول
الكتاب : الإمامة وأهل البيت (ع) ج1    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

تاسعاً: إمامة المفضول

يقول ابن حزم: إن الخوارج والشيعة - ما عدا الزيدية - وقوم من المعتزلة، يذهبون إلى أنه لا تجوز إمامة أحد، إذا وجد من هو أفضل منه، قال أبو الحسن الأشعري: يجب أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه في شروط الإمامة ولا تنعقد الإمامة لأحد، مع وجود من هو أفضل منه فيها - وإن أجاز بعض الأشاعرة عقد الإمامة للمفضول (1) -.

ويرى ابن حزم: أن عدم جواز عقد الإمامة للمفضول ليس صحيحاً، إذ لو كان صحيحاً، لما صحت إمامة أبداً، إذ لا يتيقن الفضل في أحد بعد الصحابة، مع توازي الناس في الفضل وتقاربهم، ثم يضرب ابن حزم مثلاً بقبيلة قريش في زمانه (أي في الفترة 384 - 456 هـ‍/ 994 - 1064 م)، فإنها قد كثرت، وطبقت الأرض من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، فلا سبيل أن يعرف الأفضل من قوم هذا مبلغ عددهم، بوجه من الوجوه (2).

وأما أهل السنة والزيدية والمرجئة، وقوم من المعتزلة، فقد ذهبوا إلى إمامة المفضول، الذي في الناس أفضل منه، إذا كان المفضول قائماً بالكتاب والسنة، يقول ابن حزم: وهذا هو الصواب، إلا إذا كان الفضل في جميع الوجوه متيقناً، من الفضل البين والعلم - كما كان في أبي بكر (3).

وعلى أية حال، فهناك من يرى أنه لا يجوز إمامة المفضول بحال، ويفسق المفضول، إذا سبق الأفضل بالدعوة (4).

على أن الزيدية (5) - رغم اعتقادهم بأفضلية الإمام علي بن أبي طالب على

____________

(1) البغدادي: أصول الدين - بيروت 1981 ص 293.

(2) ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 110 (دار الباز - مكة المكرمة 1957).

(3) ابن حزم: الأصول والفروع 2 / 292 (تحقيق محمد عاطف العراقي - القاهرة 1978).

(4) أحمد صبحي: المذهب الزيدي ص 49.

(5) الزيدية: هم أتباع الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الإمام الحسين، وبعد استشهاد زيد انقسم

=>


الصفحة 152
جميع الصحابة - إنما اعتقدوا في صحة خلافة أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، وأن طاعتهما واجبة، وإذا كان علي أفضل بمناقبه في الإسلام ومواقفه في الحروب، فإن مصلحة المسلمين كانت في تولي الشيخين، يقول الشهرستاني:

كان علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها، من تسكين ثائرة الفتنة، تطييب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً، وسيف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، من دماء المشركين من قريش لم يجف بعد، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر، كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين، والتؤدة، و التقدم في السن، والسبق في الإسلام، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا ترى أنه (أي أبو بكر) لما

____________

<=

تلاميذه إلى فرق، فجعلهم القاضي عبد الجبار ست فرق: هي الجارودية والسليمانية البترية واليمانية والصباحية والعقبية (المغني في أبواب التوحيد والعدل 20 / 184 - 185 - القاهرة 1965) وذكر الرازي لهم ثلاث فرق هي: الجارودية والسليمانية والصالحية (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 52 - 53)، وأما الأشعري فالرأي عنده أنهم ست فرق هم: الجارودية والبترية والعقبية، ثم النعيمية، ولا يذكر اسم الفرقة الخامسة (والتي يرى أنها تتبرأ من أبي بكر وعمر، ولا تنكر رجعة الأموات)، وأخيراً اليعقوبية (مقالات الإسلاميين 1 / 140 - 145)، وأما النوبختي، فيقسمهم إلى الضعفاء والأقوياء (فرق الشيعة ص 57 - 58 - دار الأضواء - بيروت 1984 م)، على أن المسعودي إنما يذكر لهم ثماني فرق (مروج الذهب 3 / 220)، ويذكر المقريزي خمس فرق هي: الجارودية والجريدية والبترية واليعقوبية والصباحية (خطط المقريزي 2 / 352 - 354).

ولا يذكر ابن تيمية (منهاج السنة 1 / 265) والبغدادي (الفرق بين الفرق ص 22 - 23) والاسفراييني (التبصير في الدين ص 16 - 27) والشهرستاني (الملل والنحل 1 / 154 - 162) غير ثلاث فرق هي: الجارودية والسليمانية والبترية، وانفرد ابن النديم يذكر فرقة القاسمية (الفهرست ص 274)، وأما الملطي أقدم مؤرخي الفرق (ت 377 هـ‍/ 987 م)، فقد اعتبر الزيدية من جملة الروافض بحجة طعنهم في عثمان، وإن كانوا يتولون أبا بكر وعمر، ثم قسمهم إلى أربع فرق (التنبيه والرد ص 38 - 39، 156)، وانظر الزيدية وفرقها (الدكتور أحمد شوقي إبراهيم: الحياة السياسية والفكرية للزيدية في المشرق الإسلامي - رسالة دكتوراه من قسم التاريخ - كلية الآداب - جامعة المنيا - 1411 هـ‍/ 1991 م).

الصفحة 153
أراد في مرضه الذي مات فيه، تقليد الأمر عمر بن الخطاب، زعق الناس وقالوا: لقد وليت علينا فظاً غليظاً، فما كانوا يرضون بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لشدته وصلابته، وغلظه في الدين، وفظاعته على الأعداء، حتى سكنهم أبو بكر لو سألني ربي لقلت: وليت عليهم خيرهم لهم.

وعلى أية حال، فإن إمامة المفضول عند الزيدية، ليست قاعدة عامة تطبق في كل الأحوال، وإلا لسقط مبرر الخروج، وإنما قال به الإمام زيد لتبرير شرعية خلافة أبي بكر، ولإسقاط دعوى الطاعنين فيه، ومن المعروف أن أهل الكوفة والبصرة اشترطوا أن يتبرأ الإمام زيد من أبي بكر وعمر، حتى ينصروه، فأبى زيد، وقال: غفر الله لهما، ما سمعت أحداً من أهل بيتي تبرأ منهما، وإني لا أقول فيهما إلا خيراً، قالوا: فلم تطلب إذن بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر، ولكن القوم استأثروا علينا به، ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة.

قالوا: فلم تقاتلوا هؤلاء إذن؟ قال: إن هؤلاء القوم (أي الأمويين) ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس، وظلموا أنفسهم وإني أدعو إلى كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإحياء السنن، وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولي، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل، فرفضوه وانصرفوا عنه، ونفضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يومئذ، ومن تابعه من الناس على قوله سموا الزيدية.

وهكذا فإن الإمام زيد إنما قال بإمامة المفضول، لتبرير شرعية خلافة أبي بكر، فضلاً عن إسقاط دعوى الطاعنين فيه، ومن ثم فإن أئمة الزيدية - بعد الإمام زيد - إنما يقولون بوجوب إمامة الأفضل (1).

____________

(1) ابن كثير: البداية والنهاية 9 / 371، وانظر ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5 / 242 - 234، تاريخ الطبري 7 / 180 - 181، تاريخ ابن خلدون 3 / 99، 4 / 346، المقريزي: الخطط 2 / 439، ابن العماد الحنبلي: 1 / 158 - 159، الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 137، ابن تيمية: منهاج السنة 1 / 171، 2 / 105، الذهبي: سير الأعلام النبلاء 5 / 390، المقدسي: البدء والتاريخ 6 / 50، الصفدي: الوافي بالوفيات، ابن عساكر: تاريخ دمشق 6 / 21، 26، ابن العبري:

=>


الصفحة 154
وقالت الزيدية إن الإمام علي بن أبي طالب إنما كان مصيباً في كل حروبه، ضد طلحة والزبير وغيرهما، وأن من قاتل الإمام علي أو حاربه كان على خطأ ووجب على الناس محاربتهم مع علي (1).

ويقول الجارودية من الزيدية: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي رضي الله عنه، بالوصف، دون التسمية، وهو الإمام بعده، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف، ولم يطلبوا الموصوف، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم، فكفروا بذلك، وقد خالف أبو الجارود (زياد بن أبي زياد) - زعيم الجارودية (2) - إمامة زيد بن علي في هذه المقالة، فإنه لم يعتقد هذا الاعتقاد (3).

____________

<=

مختصر تاريخ الدول ص 200 البغدادي: الفرق بين الفرق ص 34 - 36، الصبيان: إسعاف الراغبين ص 22، الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 162 - 163.

(1) القمي: كتاب المقالات والفرق ص 11 (هذا مع ملاحظة أن فرق الزيدية قد اختلفت في الصحابة - بعد الإمام زيد - فالجارودية يطعنون في أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، ويفسقونهما بل قال بعضهم بكفرهما، والعياذ بالله، (الرازي: اعتقادات فرق المسلمين ص 52 - 53، الكتبي:

فوات الوفيات 2 / 37، القاضي عبد الجبار المغني 20 - 185) وبعضهم كان يتبرأ من عثمان رضي الله عنه ويكفره (الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 144 - 145، القاضي عبد الجبار:

المغني 20 / 184 - 185، الأصفهاني: مقاتل الطالبين ص 468) وبعضهم رضي بخلافة أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، ولكنهم تهجموا على عثمان وكفروه، كما كفروا عائشة وطلحة والزبير (النوبختي: فرق الشيعة ص 9، الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 145، الشهرستاني:

الملل والنحل 1 / 164 - 165، القاضي عبد الجبار: المغني 20 / 184، الإسفراييني: التعبير في الدين ص 17، الصفدي: الوافي بالوفيات 15 / 360، الجرجاني: التعريفات ص 107، المقريزي: الخطط 2 / 352، المقدسي: البدء والتأريخ 5 / 133).

(2) القمي: كتاب المقالات والفرق - تحقيق محمد جوار مشكور - طهران 1963 ص 11.

(3) الجارودية: نسبة إلى مؤسسة زياد بن أبي زياد المنذر العبدي (المتوفى فيما بين عامي.

150، 160 هـ‍767، 776 م)، ويكنى أبا النجم، ويقال له النهدي والقفي والكوفي، كان من أتباع الإمام محمد الباقر وولده الإمام جعفر الصادق، رضي الله عنهما، ثم تركهما ولحق بالزيدية، ولقبه الإمام الباقر سر خوبا وهو شيطان كان يسكن البحر، وقال عنه الإمام الصادق: إنه أعمى القلب والبصيرة، ويصفه النسائي بأنه متروك وليس بثقة، والجارودية من أهم فرق الزيدية، وإن كانوا هم أنفسهم مختلفين فيما بينهم، وينسبون إلى أئمة أهل البيت العلم اللدني، فطرة وضرورة قبل التعليم، وأن العلم ينبت في صدورهم كما ينبت الزرع المطر، وأن الحلال حلال آل محمد، والحرام حرامهم، والأحكام أحكامهم، وأن صغيرهم وكبيرهم في الظلم سواء، وأنهم يقولون برجعة الإمام المنتظر (وانظر عن الجارودية. الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 157 - 158،

=>


الصفحة 155
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى الاتجاهات المختلفة في تفضيل سيدنا الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - على غيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

روى ابن عبد البر (368 - 463 هـ‍) في كتابه الإستيعاب في معرفة الأصحاب عن سلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وخباب، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم - من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أول من أسلم، وفضله هؤلاء الصحابة على غيره (1).

وقد سبق الإمام ابن حنبل، ابن عبد البر (2) إلى ذلك.

____________

<=

البغدادي: الفرق بين الفرق ص 30 - 32، الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 141 / 150، النوبختي فرق الشيعة ص 55 - 57، ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب 3 / 386، القمي:

المقالات والفرق ص 70 - 72.

(1) الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 157 - 158، البغدادي: الفرق بين الفرق ص 30، النوبختي:

فرق الشيعة ص 21، الأشعري: مقالات الإسلاميين 1 / 141، المقدسي: البدء والتأريخ 5 / 133، الإسفراييني: التبصير في الدين ص 16، ابن تيمية: منهاج السنة 1 / 265، الجرجاني:

التعريفات ص 64، ابن المرتضى القلائد ص 47.

(2) ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، إمام عصره في الحديث والأثر، وما يتعلق بهما روى على كبار شيوخ عصره، وله مصنفات كثيرة أهمها: 1 - الاستذكار لمذهب علماء الأمصار، فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، وقد شرح فيه الموطأ على وجهه، ونسق أبوابه. 2 - الإستيعاب: وفيه ترجمة للصحابة.

3 - جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله. 4 - الدر في اختصار المغازي والسيرة 5 - كتاب العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم. 6 - كتاب في قبائل العرب وأنسابهم، وغير ذلك من تواليفه.

وكان الحافظ ابن عبد البر، مع تقدمه في علم الأثر، وتبصره بالفقه ومعاني الحديث، له بسطة في علم النسب، كما صنف بهجة المجالس وآنس المجالس في ثلاثة أسفار. هذا وقد توفي ابن عبد البر يوم الجمعة، آخر يوم من شهر ربيع الآخرة، سنة ثلاث وستين وأربعمائة، بمدينة شاطبة بشرق الأندلس، وهي نفس السنة التي توفي فيها الحافظ الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، وكان حافظ الشرق، وابن عبد البر حافظ الغرب، وهما إمامان في علم الحديث، وأما ولادة ابن عبد البر فكانت يوم الجمعة، والإمام، لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة (وفيات الأعيان 7 / 66 - 72، شذرات الذهب 3 / 314 - 316، عبر الذهبي 3 / 255، ترتيب المدارك 4 / 808).

الصفحة 156
روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل (164 - 241 هـ‍) في كتاب فضائل الصحابة بسنده عن أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد عن علقمة عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة، علي بن أبي طالب.

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن مسعود قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبعين سورة، وختمت القرآن على خير الناس، علي بن أبي طالب عليه السلام، (رواه الطبراني في الأوسط).

وعن عقبة بن سعد العوفي قال: دخلنا على جابر بن عبد الله - وقد سقط حاجباه على عينيه فسألناه عن علي، قال - فرفع حاجبيه بيده - فقال: ذاك من خير البشر - أخرجه أحمد في المناقب.

وروى الإمام أحمد في الفضائل بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال:

سمعته يقول: ليس في آية القرآن * (يا أيها الذين آمنوا) *، إلا وعلي على رأسها وأميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن، وما ذكر علياً إلا بخير (1).

قال: وذكره المحب الطبري في الرياض النضرة، والذخائر (2).

وعن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مررت بسماء، إلا وأهلها يشتاقون إلى علي بن أبي طالب، وما في الجنة نبي، إلا وهو يشتاق إلى علي بن أبي طالب.

قال: أخرجه الملا في سيرته.

وفي شرح نهج البلاغة: والقول بتفضيل الإمام علي - رضي الله عنه،

____________

(1) الإمام ابن حنبل: فضائل الصحابة 2 / 646، 2 / 654.

(2) الرياض النضرة: 2 / 292.

الصفحة 157
وكرم الله وجهه في الجنة - على جميع الصحابة قول قديم، قال به كثير من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة: عمار، والمقداد، وأبو ذر، وسلمان، وجابر بن عبد الله، وأبي بن كعب، وحذيفة، وبريدة، وأبو أيوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وعثمان بن حنيف، وأبو الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت، وأبو الطفيل، عامر بن واثلة، والعباس بن عبد المطلب وبنوه، وبنو هاشم كافة، وبنو المطلب كافة.

وكان الزبير من القائلين به في أول الأمر، ثم رجع، وكان من بني أمية قوم يقولون بذلك، منهم خالد بن سعيد بن العاص، ومنهم عمر بن عبد العزيز (1).

روى ابن الكلبي فقال: بينا عمر بن عبد العزيز جالساً في مجلسه، دخل حاجبه، ومعه امرأة أدماء طويلة، حسنة الجسم والقامة، ورجلان متعلقان بها، ومعهم كتاب من ميمون بن مهران إلى عمر، فدفعوا إليه الكتاب، ففضه فإذا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، من ميمون بن مهران، سلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإنه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور، وعجزت عنه الأوساع (جمع وسع، وهو الطاقة)، وهربنا بأنفسنا عنه، ووكلناه إلى عالمه، لقول الله عز وجل * (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * (2).

____________

(1) الرياض النضرة 2 / 274، ذخائر القربى ص 89.

المحب الطبري: الرياض النضرة في مناقب العشرة 2 / 292 (طنطا 1372 هـ‍/ 1953 م)، وانظر في الباب أحاديث أخرى (فضائل الصحابة 2 / 616، 2 / 663، 2 / 711 - 712، المسند 1 / 157، صحيح الترمذي 5 / 29، كنز العمال 6 / 216، 7 / 102، المستدرك للحاكم 3 / 138، تهذيب الخصائص ص 29 - 31، تحفة الأشراف 7 / 353، الرياض النضرة 2 / 279 - 280.

(2) سورة النساء: آية 83.

الصفحة 158
وهذه المرأة والرجلان، أحدهما زوجها، والآخر أبوها، وإن أباها - يا أمير المؤمنين - زعم أن زوجها حلف بطلاقها، أن علي بن أبي طالب عليه السلام، خير هذه الأمة، وأولاها برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يزعم أن ابنته طلقت منه، وأنه لا يجوز له في دينه أن يتخذه صهراً، وهو يعلم أنها حرام عليه كأمه.

وإن الزوج يقول: كذبت، وأثمت، لقد بر قسمي، وصدقت مقالتي، وإنها امرأتي - على رغم أنفك، وغيظ قلبك - فاجتمعوا إلي يختصمون في ذلك، فسألت الرجل عن يمينه، فقال: نعم، قد كان ذلك، وقد حلفت بطلاقها: أن علياً خير هذه الأمة، وأولاها برسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفه من عرفه، وأنكره من أنكره، فليغضب من غضب، وليرض من رضى.

وتسامع الناس بذلك، فاجتمعوا له، وإن كانت الألسن مجتمعة، فالقلوب شتى، وقد علمت - يا أمير المؤمنين - اختلاف الناس في أهوائهم، وتسرعهم إلى ما فيه الفتنة، فأحجمنا عن الحكم، لتحكم بما أراك الله، وإنهما تعلقا بها، وأقسم أبوها أن لا يدعها معه، وأقسم زوجها أن لا يفارقها، ولو ضربت عنقها، إلا أن يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته، والامتناع منه فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين، أحسن الله توفيقك وأرشدك.

قال: فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أمية، وأفخاذ قريش، ثم قال لأبي المرأة: ما تقول أيها الشيخ؟

قال: يا أمير المؤمنين، هذا الرجل زوجته ابنتي، وجهزتها إليه بأحسن ما يجهز به مثلها، حتى إدا أملت خيره، ورجوت صلاحه، حلف بطلاقها كاذباً ثم أراد الإقامة معها.

فقال له عمر: يا شيخ، لعله لم يطلق امرأته، فكيف حلف؟ قال الشيخ:

سبحان الله، الذي حلف عليه لأبين حنثاً، وأوضح كذباً، من أن يختلج في

الصفحة 159
صدري منه شك، مع سني وعلمي، لأنه زعم أن علياً خير هذه الأمة، وإلا فامرأته طالق.

فقال الزوج: ما تقول؟ أهكذا حلفت؟ قال: نعم، فقيل: إنه لما قال نعم، كاد المجلس يرتج بأهله، وبنو أمية ينظرون إليه شزراً، إلا أنهم لم ينطقوا بشئ، كل ينظر إلى وجه عمر.

فأكب عمر ملياً ينكت الأرض بيده، والقوم صامتون، ينظرون ما يقوله، ثم رفع رأسه فقال:

إذا ولي الحكومة بين قوم * أصاب الحق والتمس السدادا
وما خير الإمام إذا تعدى * خلاف الحق واجتنب الرشادا

ثم قال للقوم: ما تقولون في يمين هذا الرجل؟ فسكتوا، فقال:

سبحان الله، قولوا، فقال قائل من بني أمية: هذا حكم في فرج، ولسنا نجترئ على القول فيه، وأنت عالم بالقول، مؤتمن لهم وعليهم، قل ما عندك، فإن القول ما لم يكن يحق بالملأ، ويبطل حقاً، جائز علي في مجلسي، قال: لا أقول شيئاً.

فالتفت إلى رجل من بني هاشم، من ولد عقيل بن أبي طالب، فقال له:

ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقيلي؟ فاغتنمها فقال: يا أمير المؤمنين، إن جعلت قولي حكماً، أو حكمي جائزاً، قلت، وإن لم يكن ذلك فالسكوت أوسع لي، وأبقي للمودة، قال: قل وقولك حكم. وحكمك ماض.

فلما سمع ذلك بنو أمية قالوا: ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين، إذ جعلت الحكم إلى غيرنا، ونحن من لحمتك، أولي رحمتك، فقال: أسكتوا، أعجزاً ولؤماً، عرضت عليكم ذلك آنفاً، فما انتدبتم له، قالوا: لأنك، لم تعطنا ما أعطيت العقيلي، ولا حكمتنا كما حكمته.

فقال عمر: إن كان أصاب وأخطأتم، وحزم وعجزتم، وأبصر وعميتم،

الصفحة 160
فما ذنب عمر، لا أبا لكم، أتدرون ما مثلكم، قالوا: لا ندري، قال: ولكن العقيلي يدري، ثم قال: ما تقول يا رجل؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، كما قال الأول: -

دعيتم إلى أمر فلما عجزتم * تناوله من لا يداخله عجز
فلما رأيتم ذاك أبدت نفوسكم * نداماً، وهل يغني من القدر الحذر

فقال عمر: أحسنت وأوصبت، فقل ما سألتك عنه، قال: يا أمير المؤمنين، بر قسمه، ولم تطلق امرأته، قال: وأني علمت ذلك.

قال: أنشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لفاطمة عليها السلام - وهو عندها في بيتها عائد لها - يا بنية ما علتك؟ قالت:

الوعك يا أبتاه - وكان علي غائباً في بعض حوائج النبي صلى الله عليه وسلم - فقال لها:

أتشتهين شيئاً؟ قالت: نعم أشتهي عنباً - وأنا أعلم أنه عزيز، وليس وقت عنب - فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله قادر على أن يجيئنا به، ثم قال: اللهم ائتنا به مع أفضل أمتي عندك منزلة.

فطرق علي الباب، ودخل ومعه مكتل، وقد ألقى عليه طرف ردائه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا علي؟ قال: عنب التمسته لفاطمة، فقال: الله أكبر، الله أكبر، اللهم كما سررتني بأن خصصت علياً بدعوتي، فاجعل فيه شفاء بنيتي، ثم قال: كلي على اسم الله يا بنية فأكلت، وما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى استقلت وبرأت.

فقال عمر: صدقت وبررت، أشهد لقد سمعته ووعيته، يا رجل، خذ بيد امرأتك، فإن عرض لك أبوها، فأهشم أنفه، ثم قال: يا بني عبد مناف، والله ما نجهل ما يعلم غيرنا، ولا بنا عمي في ديننا، ولكنا كما قال الأول: -

تصيدت الدنيا رجالاً بفخها * فلم يدركوا خيراً بل استقبحوا الشرا
وأعماهم حب الغنى وأصمهم * فلم يدركوا إلا الخسارة والوزرا

قيل: فكأنما ألقم بني أمية حجراً ومضى الرجل بامرأته.


الصفحة 161
وكتب عمر إلى ميمون بن مهران: -

سلام عليك، فإني أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني قد فهمت كتابك، وورد الرجلان والمرأة، وقد صدق الله يمين الزوج، وأبر قسمه، وأثبته على نكاحه، فاستيقن ذلك، واعمل عليه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فأما من قال بتفضيله على الناس كافة من التابعين، فخلق كثير، مثل أويس القرني، وزيد بن صوحان، وصعصعة أخيه، وجندب الخير، وعبد السلماني، وغيرهم ممن لا يحصي كثرة.

هذا ولم تكن لفظة الشيعة تعرف في ذلك العصر، إلا من قال بتفضيل الإمام علي، ولم تكن مقالة الإمامية ومن نحا نحوها من الطاعنين في إمامة السلف، هم المسلمون الشيعة، وجمع ما ورد من الآثار والأخبار في فضل الشيعة، وأنهم موعودون بالجنة، فهؤلاء هم المعنيون به دون غيرهم، ولذلك قالت المعتزلة في كتبهم وتصانيفهم: نحن الشيعة حقاً (1).

ويقول ابن أبي الحديد (586 - 656 هـ‍)، واختلفوا في التفضيل، فقال قدماء البصريين كأبي عثمان عمرو بن عبيد وأبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام وأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وأبي معن ثمامة بن أشرس وأبي محمد هشام بن عمرو الفوطي، وأبي يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام وجماعة غيرهم: أن أبا بكر أفضل من علي عليه السلام، وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل مثل ترتيبهم في الخلافة.

وقال البغداديون قاطبة - قدماؤهم ومتأخروهم - كأبي سهل بشر بن المعتمر، وأبي موسى بن صبيح، وأبي عبد الله جعفر بن مبشر، وأبي جعفر الإسكافي، وأبي الحسين الخياط، وأبي القاسم عبد الله بن

____________

(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 20 / 221 - 222 (دار الفكر - بيروت 1387 هـ‍/ 1967).

الصفحة 162
محمود البلخي وتلامذته: إن علياً عليه السلام، أفضل من أبي بكر.

وإلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي أخيراً، وكان من قبل من المتوقفين، كان يميل إلى التفضيل، ولا يصرح به وإذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته، وقال في كثير من تصانيفه: إن صح خبر الطائر، فعلي أفضل (1).

ثم إن قاضي القضاة ذكر في شرح المقالات لأبي القاسم البلخي: أن أبا علي ما مات، حتى قال بتفضيل علي عليه السلام، وقال: إنه نقل ذلك عنه سماعاً، ولم يوجد في شئ من مصنفاته، وأنه يوم مات استدعى ابنه أبا هاشم إليه - وكان قد ضعف عن رفع الصوت - فألقى إليه أشياء، من جملتها القول:

بتفضيل علي عليه السلام.

هذا وقد ذهب إلى تفضيل الإمام علي - من البصريين أيضاً - أبو عبد الله الحسين بن علي البصري رضي الله عنه وكان متحققاً في تفضيله، حتى أنه صنف فيه كتاباً مفرداً، وكذا قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد، وقد كان متوقفاً، ثم قطع على تفضيل الإمام علي بكامل المنزلة، وهناك أيضاً أبو محمد الحسن بن متوية صاحب التذكرة، وقد نص في كتاب الكفاية على تفضيله للإمام علي، عليه السلام، على أبي بكر، رضي الله عنه، واحتج لذلك، وأطال الاحتجاج.

ويقول ابن أبي الحديد: وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله عليه السلام، وبينا في كتبنا الكلامية معنى الأفضل،

____________

(1) حديث الطائر رواه الترمذي في صحيحه 2 / 299، وابن الأثير في أسد الغابة 4 / 110 - 111، والهيثمي في مجمعه 9 / 126، والحاكم في المستدرك 3 / 130، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 2 / 560 - 562، والبخاري في الكبير 1 / 202، 1 / 1 / 385، والذهبي في تذكرة الحفاظ 4 / 1042، والمحب الطبري في الرياض النضرة 2 / 211، وابن كثير في البداية والنهاية 7 / 351.

الصفحة 163
وهل المراد الأكثر ثواباً، أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة، وبينا أن الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، هو الأفضل وعلى التفسيرين معاً (1).

ويقول ابن الحديد: وأما الذي استقر عليه رأي المعتزلة - بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل وغيره - أن علياً عليه السلام أفضل الجماعة، وأنهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها، وأنه لم يكن هناك نص يقطع العذر، وإنما كانت إشارة وإيماء، لا يتضمن شئ منها صريح النص، وأن علياً عليه السلام، نازع ثم بايع، وجمح ثم استجاب، ولو أقام على الامتناع لم نقل بصحة البيعة، ولا بلزومها، ولو جرد السيف - كما جرده في آخر الأمر - لقلنا بفسق كل من خالفه على الإطلاق، - كائناً من كان - ولكنه رضي بالبيعة أخيراً، ودخل في الطاعة.

وبالجملة، أصحابنا (المعتزلة) يقولون: إن الأمر كان له، وكان هو المستحق والمتعين، فأن شاء أخذه لنفسه، وإن شاء ولاه غيره، فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره، اتبعناه ورضينا بما رضي (2) به.

وأما الشيعة فيؤمنون بالنص على الإمام علي، وقد وضعت الشيعة الإمامية العديد من الكتب في النص على الإمام علي عليه السلام، وجمعوا فيها الآيات والأحاديث من طرق الشيعة والسنة، سواء بسواء، ومن أشهر هذه الكتب:

الشافي للمرتضى، ونهج الحق للعلامة الحلي، والجزء الثاني من دلائل الصدق للمظفر، ونقض الوشيعة، والجزء الأول من أعيان الشيعة للسيد الأمين، والمراجعات لشرف الدين، والغدير للأميني (3).

وسوف نناقش هذه الأدلة - من القرآن والسنة - في مكانها من هذه المدرسة (الإمام علي والإمامة) وهو الجزء الثاني من هذا الكتاب.

____________

(1) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 20 / 222 - 226.

(2) شرح نهج البلاغة 10 / 226 - 227، أحمد صبحي: المذهب الزيدي ص 51.

(3) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان ص 429 - 439.

الصفحة 164
وعلى أية حال - وعوداً على رأي الزيدية في إمامة المفضول - فإن الإمام زيد، إنما يرى أن الإمامة يجب أن تكون مقصورة على الفاطميين - أبناء الإمام علي بن أبي طالب من سيدة نساء العالمين، السيدة فاطمة الزهراء - ولا تجوز أبداً إمامة غيرهم (1). وإن ذهب رأي شاذ قال بعضهم الزيدية، يجيز الإمامة في غير الفاطميين، من ولد علي عليه السلام (2).

وهكذا فقد جوز معظم الزيدية أن كل فاطمي زاهد عالم شجاع سائس عادل سخي، خرج بالإمامة إنما يكون إماماً واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن أو الحسين (3)، وقد سار على هذا المذهب أكثر علماء الحديث والفقهاء منهم سفيان الثوري وسفيان بن عيينة (4).

ويرجع الإمام يحيى بن الحسين أن السبب في اشتراط الإمام زيد أن يكون الإمام فاطمياً، أنه يرى أن أبناء سيدة نساء العالمين - فاطمة الزهراء - إنما

____________

(1) يحيى بن الحسين: رسائل العدل والتوحيد 2 / 76، ابن النديم: الفهرست ص 253، القلقشندي: صبح الأعشى 13 / 228، المقريزي: الخطط 2 / 352، تارخ ابن خلدون 1 / 165، 4 / 3، المقدمة ص 197، 200، شرح نهج البلاغة 9 / 87، الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 159 - 160.

(2) شرح نهج البلاغة 9 / 87.

(3) الشهرستاني: الملل والنحل 1 / 160، المقريزي: الخطط 2 / 352.

(4) سفيان بن عيينة: أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، من الكوفة ثم انتقل إلى مكة، كان إماماً عالماً، ثبتاً حجة زاهداً ورعاً، مجمعاً على صحة حديثه وروايته، روى عن أعيان العلماء كالزهري، وعمرو بن دينار، ومحمد بن المنكدر، وأبي الزناد، والأعمش وغيرهم، وروى عنه الإمام الشافعي وشعبة بن الحجاج وابن إسحاق وابن جريح والزبير بن بكار وعمه مصعب، وعبد الرازق بن همام الصنعاني، ويحيى بن أكثم القاضي وخلق كثير. وقد ولد سفيان بالكوفة في منتصف شعبان سنة 107 هـ‍، وتوفي يوم السبت آخر جمادى الآخرة وقيل أول رجب عام 198 هـ‍، ودفن بالحجون بمكة (أنظر: وفيات الأعيان 2 / 391 - 393، تاريخ بغداد 9 / 174، حلية الأولياء 7 / 270 - 318، صفوة الصفوة 2 / 130، تهذيب التهذيب 4 / 117، ميزان الاعتدال 2 / 170، العقد الثمين 4 / 591، طبقات ابن سعد 5 / 497، شذرات الذهب (1 / 354 - 355).

الصفحة 165
سيقيمون أكثر من غيرهم عمود الدين، وسنن الإسلام (2).

على أن الشيعة الإمامية إنما تحصر الإمامة في أولاد مولانا الإمام الحسين، دون غيرهم من العلويين (2)، كما أن الشيعة الإمامية لا ترى إمامة المفضول، الأمر الذي سنشير إليه بالتفصيل، فيما بعد.

وذهبت الحجرية - أتباع سليمان بن حجر الزيدي - إلى أن الإمامة شورى، وأنها تنعقد بعقد رجلين من خيار الأمة، وأجاز إمامة المفضول، وأثبت إمامة أبي بكر وعمر، وزعم أن الأمة تركت الأصلح في البيعة لهما، لأن علياً كان أولى بالإمامة منهما، إلا أن الخطأ في بيعتهما لم يوجب كفراً، ولا فسقاً (3).

هذا وقد اختلف أهل السنة في إمامة المفضول، فأباها شيخنا أبو الحسن الأشعري (260 - 324 هـ‍/ 874 - 935 م)، وأجازها القلانسي (4).

وأما إمام الحرمين - أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني (419 - 478 هـ‍/ 1028 - 1085 م) - فالرأي عنده: أن الذي يقع التعرض له من الفضل، والقول في الفاضل والمفضول، ليس هو على أعلى القدر والمرتبة وارتفاع الدرجة، والتقرب إلى الله تعالى في عمله، فرب ولي من أولياء الله، هو قطب الأرض، وعماد العالم، ولو أقسم على الله لأبره، وفي العصر من هو أصلح منه للقيام بأمور المسلمين، فالمعنى بالفضل استجماع الخلال التي يشترط اجتماعها في المتصدي للإمامة.

____________

(1) يحيى بن الحسين: رسائل العدل والتوحيد.

(2) البغدادي: الفرق بين الفرق ص 22 - 23، تاريخ ابن خلدون 1 / 161، شرح نهج البلاغة 9 / 87، الشهرستاني: الملل والنحل 2 / 4 / ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 77.

(3) البغدادي: الفرق بين الفرق ص 32 - 33.

(4) نفس المرجع السابق ص 352.

الصفحة 166
ومن ثم فقد صار طوائف من أئمتنا إلى تجويز عقد الإمامة للمفضول، مع التمكن من العقد للأفضل الأصلح، واعتلوا بأن المفضول، إذا كان مستجمعاً للشرائط المرعية، فاختصاص الفاضل بالمزايا، اتصاف بما لا تفتقر الإمامة إليه، فإذا عقدت الإمامة لمن ليس عارياً عن الخلال المعتبرة، استقلت بالصفات التي لا غنى عنها، ولا مندوحة، وليس للفضائل نهاية وغاية.

هذا وقد ذهب معظم المنتمين إلى الأصول من جلة الأئمة، إلى أن الإمامة لا تنعقد للمفضول، مع إمكان العقد للفاضل، ثم تحزب هؤلاء حزبين، وتصدعوا صدعين، فذهب فريق إلى أن المسألة من المظنونات التي لا تتطرق إليها أساليب العقول، ولا قواطع الشرع المنقول.

ثم يرى أنه لا خلاف، إذا عسر عقد الإمامة للفاضل، واقتضت مصلحة المسلمين تقديم المفضول، وذلك لصغو الناس، وميل أولي النجدة والبأس إليه، ولو فرض تقديم الفاضل لاشرأبت الفتن، وثارت المحن، ولم نجد عدداً، وتفرقت الأجناد بدداً، فإذا كانت الحاجة في مقتضى الإيالة تقتضي تقديم المفضول قدم لا محالة، إذ الغرض من نصب الإمام استصلاح الأمة، فإذا كان في تقديم الفاضل اختباطها وفسادها، وفي تقدم المفضول ارتباطها وسدادها تعين إيثار ما فيه من صلاح الخليفة، باتفاق أهل الحقيقة، ولا خلاف أنه لو قدم فاضل، واتسقت له الطاعة، ونشأ في الزمن من هو أفضل منه، فلا يتبع عقد الإمامة للأول بالقطع والرفع.

ثم يعود الجويني - في نهاية الفصل - فيكرر قوله: بأن الأفضل هو الأصلح، فلو فرضنا مستجمعاً للشراط، بالغاً في الورع الغاية القصوى، وقدمنا آخر أكفأ منه، وأهدى إلى طرق السياسة والرياسة، وإن لم يكن في الورع مثله، فالأكفأ أولى بالتقدم.

ولو كان أحدهما أفقه، والثاني أعرف بتجنيد الجنود، وعقد الألوية

الصفحة 167
والبنود، وجر العساكر والمقانب (جمع مقنب، هي الجماعة من الخيل دون المائة تجتمع للغارة)، وترتيب المراتب والمناصب، فلينظر ذو الرأي إلى حكم الوقت، فإذا كانت أكناف خطة الإسلام إلى الاستقامة، والممالك منتفضة عن ذوي العرامة، ولكن إذا ثارت بدع وأهواء، واضطربت مذاهب ومطالب وآراء، والحاجة إلى من يسوس الأمور الدينية أمس، فالأعلم أولى.

وإن تصورت على الضد، مما ذكرنا، ومست الحاجة إلى شهامة وصرامة، وبطاش، يحمل الناس على الطاعة ولا يحاش، فالأشهم أولى بأن يقدم (9).

ويذهب ابن أبي الحديد (586 - 656 هـ‍) إلى أن أحق الناس بالإمامة أقواهم عليها، وأعملهم بحكم الله فيها، وهذا لا ينافي في مذهب أصحابنا البغداديين من المعتزلة في صحة إمامة المفضول، لأنه ما قال: إن إمامة غير الأقوى فاسدة، ولكنه قال: إن الأقوى أحق، وأصحابنا لا ينكرون أنه - أي الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أحق ممن تقدمه بالإمامة، مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين، لأنه لا منافاة بين كونه أحق، وبين صحة إمامة غيره (2).

ثم إن رأي ابن أبي الحديد هذا، إنما هو ترديد لقول سيدنا الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - أيها الناس: إن أحق الناس بهذا الأمر، أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل (3).

____________

(1) أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني: الغياثي - غياث الأمم في الثبات الظلم - تحقيق عبد العظيم الديب - الدوحة 1400 هـ‍ص 164 - 1271.

(2) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 9 / 328 (بيروت 386 م / 1967 م).

(3) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 9 / 328، الإمام محمد عبده: نهج البلاغة - تحقيق محمد أحمد عاشور، ومحمد إبراهيم البنا - كتاب الشعب ص 199.

الصفحة 168


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net