2 - الطور الثاني: - طور الملك العضوض:
فقد انتقل أهل الإسلام من الشورى التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ولزمها الخلفاء الراشدون، إلى صورة أخرى
____________
(1) محمد العربي التباني: تحذير العبقري من محاضرات الخضري - بيروت 1984 ص 230 - 232.
(2) أنظر عن نهاية الخلافة العثمانية (عمر عبد العزيز عمر: تاريخ المشرق العربي - دار النهضة العربية - بيروت 1984 ص 293 - 296).
(3) أحمد حسن الباقوري: مع القرآن - القاهرة 1970 ص 14 - 46.
من نظام الحكم، كان العرب يعرفونها بالقيصرية أو الكسروية، وسماها الرسول صلى الله عليه وسلم الملك العضوض - كما رأينا آنفاً في أحاديث نبوية شريفة -.
والعضوض: بناء لغوي يعطي معنى المبالغة في العض، ويوصف به المذكر والمؤنث، وهو مستعار من عض الناب، فكان هذا النوع من الحكم يعض الرعية عضاً، ومن ذلك يقول العرب: زمن عضوض، يعنون أنه كلب مسعور.
والخصيصة البارزة للملك العضوض، أنه مغري بطمس كل حقيقة مأثورة، تخالف هواه، لكي لا ينبعث عنها ما ينبه غافلاً، أو يرشد حائراً، أو يذكر ناسياً، أو يشد عزمة واهية، إلى وصل حاضر واهن بماض قوي مجيد.
ومن أعجب شئ في طمس الحقائق أن يستمر ملوك بني أمية على عداوتهم لأمير المؤمنين علي - رضي الله عنه، وكرم الله وجهه في الجنة - حتى بعد أن لحق بالرفيق الأعلى - راضياً مرضياً عنه - فيتجاهلون في هذا الموطن، كرائم الأخلاق العربية، وفضائل الآداب الإسلامية، ليأمروا عمالهم وعفاتهم - غير محتشمين الموت - أن يلعنوا الإمام علي (والعياذ بالله) على المنابر في بيوت الله، بين أسماع المسلمين وأبصارهم.
ولم تزل هذه الخسيسة - خسيسة لعن الإمام علي على المنابر في بيوت الله - تطارد كل يوم جمعة، شرف العروبة، وأدب الإسلام، حتى قضى عليها الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فأمر، رضي الله عنه، أن تستبدل بهذه البدعة الخسيسة المنكرة، الآية الشريفة من كتاب الله، * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) * (1).
____________
(1) سورة النحل: آية 90.
ومن أعدل الشهود على خساسة هذا الطور من الخلافة، مراسيل الحسن البصري (21 - 110 هـ/ 642 - 728 م)، وهو التابعي الورع، رضيع أم سلمة، أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان من شيعة الإمام علي وأهل مودته، وكان يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث المرسل: هو ما سقط من سلسلته الصحابي، كقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا أو فعل كذا، أو فعل بحضرته كذا، وقد كانت تلك طريقة الحسن البصري، فيما يرويه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يذكر الصحابي الذي يروي عنه، ويقول: إنهم ليعلمون عمن أروي الحديث.
وقد سأل أحد طلاب الحديث الحسن ذات يوم فقال: يا أبا سعيد، إنك تحدثنا وتقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبذا لو أسندت الحديث إلى من حدثك من أصحاب النبي، فقال الحسن: إنا والله ما كذبنا، وما كذبنا، ولقد غزونا غزوة إلى خراسان، ومعنا فيها ثلاثمائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا وقد سأل يونس بن عبيد - من أهل العلم - الحسن البصري، فقال: يا أبا سعيد، إنك تقول: قال رسول الله، وإنك لم تدركه، فقال: يا ابن أخي، لقد سألتني في شئ، ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، إني في زمان كما ترى - يعني زمن الحجاج - كل شئ سمعتني أقوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عن علي بن أبي طالب، غير أني في هذا الزمان لا أستطيع أن أذكر علياً (1).
هذا وقد وثق أهل العلم بالحسن البصري، فقال ابن المديني: مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منه، وقال يحيى بن سعيد القطان: ما قاله الحسن في حديثه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وجدنا له أصلاً، إلا حديثاً أو حديثين، وقال محمد بن سعيد: كل ما أسند من
____________
(1) أنظر: شرح نهج البلاغة 4 / 95 - 96.
حديث الحسن، أو روي عمن سمع منه، فهو حسن وحجة (1).
وقال الأعمش: ما زال الحسن البصري (2) يعي الحكمة، حتى نطق بها، وكان إذا ذكر عند الإمام أبي جعفر محمد الباقر بن علي بن الحسين، قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء (3).
|