متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
أولا - رياح الفرعونية
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

أولا - رياح الفرعونية

لكل شئ في الوجود مقدمة، ولم يعد من المقبول أن نقف عند النتيجة ونقول: ما الذي جاء بهؤلاء؟ لأن الفطرة لا تسمح بهذا الشطط، ومعركة التاريخ تصرخ من حولنا وتقول: إن ثغرة صغيرة عند المقدمة، قد تؤدي إلى فيضان كبير عند النتيجة. ولم يعد مقبولا أن نمر على الأحداث التاريخية بفكر يقدم أسوا الحلول، لأن الحقيقة لا تقبل إلا أن تكون كلمة الله هي العليا.

فعند مقدمة ما، قتل الحسين بن علي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " والذي نفسي بيده، لا تقتلوه بين ظهراني قوم لا يمنعونه، إلا خالف الله بين صدروهم وقلوبهم. وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا " (1). ولقد جاؤا وجلسوا فوق الرقاب عذابا واختبارا، وفي دولتهم يقول الإمام علي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... تطول دولتهم حتى لا يدعون لله محرما إلا استحلوه، ولا يبقى بيت ولا مدد ولا وبر، إلا دخله ظلمهم. وحتى يكون أحدكم تابعا لهم، وحتى تكون نصرة أحدكم منهم كنصرة العبد من سيده. إذا شهد أطاعه، وإذا غاب سبه، وحتى يكون أعظمكم فيها - أي في دولتهم - غنا أحسنكم بالله ظنا، فإن آتاكم الله بالعافية فاقبلوا (2)، فإن ابتليتم فاصبروا، فإن

____________

(1) رواه الطبراني (الزوائد 190 / 9).

(2) فاقبلوا / أي تقدموا

الصفحة 354
العاقبة للمتقين (1). وتحت أعلامهم أتى الله بالعافية، فلم يقبل عليها إلا القليل، وتحت السيوف حبسوا وقتلوا وتأبى السماء أن تترك قتلهم بغير عقاب.

وجاء الوليد بن عبد الملك كنتيجة لمقدمة، كما جاء فرعون موسى في الدولة الحديثة (1575 - 945 قبل الميلاد) هاضما للتجربة الفرعونية كلها، منذ بدأت في العصور التاريخية (2780 قبل الميلاد). فكان تجسيدا حيا للشذوذ الذي دونه آباءه في عالم الانحراف. وعلى امتداد تاريخ الفرعون، غرست بذور لم تمت شجرتها بموت الفرعون، وإنما امتدت ظلال الشجرة لتشمل عصور الدولة الفرعونية المتأخرة (945 - 343 ق. م). ثم تمتد بعد ذلك إلى دولة الإغريق، ودولة الرومان، بعد اندحار دولة الفراعنة أمام الغزاة الإغريق.

فالفراعنة كانوا في عالم الأموات، وشذوذهم له أعلام في عالم الأحياء. وفيهم يقول تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) (2). قال المفسرون: الدعوة إلى النار، هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر والمعاصي. ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، تعييرهم سابقين في النار، يقتدي بهم اللاحقون. وقوله تعالى: (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة....)، أي لكونهم أئمة يقتدى بهم من خلفهم في الكفر والمعاصي، لا يزال يتبعهم ضلال الكفر والمعاصي، من مقتديهم ومتبعيهم، وعليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر، باستمرار الكفر والمعاصي بعدهم. فالآية في معنى قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) (3).

ففرعون امتص التجربة والوليد بن عبد الملك امتصها أيضا. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد، لهو أشر

____________

(1) رواه الطبراني ورجاله ثقات (الزوائد 191 / 9).

(2) سورة القصص: الآية 41 و 42.

(3) سورة العنكبوت: الآية 13.

الصفحة 355
على هذه الأمة من فرعون لقومه " (1) وقال ابن حزم: الوليد بن عبد الملك، كان يركب حمارا ويمشي في الأسواق، ويحتسب على البقالين وهو أحد الفراعنة (2).

والوليد ملأ الأمة رعبا، واعتمد لها بذرة فكرية ما زالت تعمل حتى زماننا هذا، أما كونه الأمة رعبا، فلقد عده ابن حزم في المسرفين في الدماء (3).

وذكر غير واحد أن الوليد كان جبارا عنيدا (4). وكان شديد السطوة لا يتوقف عند الغضب. ولا ينظر في عاقبة، وتهون عليه الدماء (5). وروي أن عمر بن عبد العزيز قبل أن يتقلد الخلافة وكان الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وعثمان بن حبارة بالحجاز، وقرة بن شريك بمصر. قال: امتلأت الأرض والله جورا (6).

وعندما تقلد الوليد الخلافة قال: الحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا (7) وقال: أيها الناس، عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد. أيها الناس،، من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه " (8) وعاصفة الدماء التي أقرها الوليد، أشرف على تنفيذها الحجاج بن يوسف. وروي أن الحجاج وفد على الوليد بن عبد الملك، فلما رأى الوليد ترجل له وقبل يده، وجعل يمشي وعليه درع، وكنانة، وقوس عربية. فقال له الوليد: إركب يا أبا محمد. فقال له الحجاج:

دعني يا أمير المؤمنين استكثر من الجهاد، فإن ابن الزبير وابن الأشعث شغلاني

____________

(1) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 240 / 5، 313 / 7) ورواه البيهقي، (الخصائص الكبرى 227 / 2) (2) رسائل ابن حزم 71 / 2.

(3) رسائل ابن حزم 75 / 2.

(4) مروج الذهب 192 / 3، البداية والنهاية 164 / 9.

(5) التنبيه والإشراف 290 / 1.

(6) تاريخ الخلفاء 208 / 1.

(7) البداية 70 / 9.

(8) البداية 70 / 9.

الصفحة 356
عنك (1).

وسار الجلاد وراء رفيق لا يطمع في أحسن منه، وفي هذا الوقت كان علي بن الحسين يقيم الحجة على أرضية ثقافة السب، ويتحرك تحركا لا تمليه إلا الدعوة. وكان علي بن الحسين كما ذكرنا من قبل، راية هدى يعرفها الخاص والعام. وروي أن هشام بن إسماعيل، كان أحد ولاة الوليد بن عبد الملك على المدينة، وعندما عزله الوليد. مر به علي بن الحسين. فناداه هشام قائلا: " الله يعلم حيث يجعل رسالته " (2). فالحجة ظاهره. وفي نفس الوقت بيوت المال مفتوحة، والسيوف مرفوعة، والله ينظر إلى عباده كيف يعملون.

وفي الوقت الذي كانت فيه حجة الله ظاهرة، كان خدام الوليد، يرفعونه فوق مرتبة النبوة كما رفعوا والده من قبل. وروي عن نافع مولى بني مخزوم قال: سمعت خالد بن عبد الله القسري يقول: على منبر مكة، وهو يخاطب الناس: أيها الناس. أيهما أعظم، خليفة الرجل على أهله أم رسوله إليهم؟ والله لم تعلموا فضل الخليفة. إن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاه ملحا أجاجا.

واستسقى الخليفة فسقاه عذبا فراتا. قال ابن كثير: وهذا الكلام يتضمن كفرا إن صح عن قائله. قد قيل أن الحجاج بن يوسف نحو هذا الكلام، من أنه جعل الخليفة أفضل من رسول الله الذي أرسله الله. وكل هذه الأقوال تتضمن كفر قائلها (3). ويبدو أن الوليد قد انتفخ بهذه الأقوال، كما انتفخ فرعون بأقوال الكهنة والرعاع من قبل. فروي أن الوليد قال لإبراهيم بن أبي زرعة: أيحاسب الخليفة؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أم داوود. إن الله جمع له النبوة والخلافة، ثم توعده في كتابه فقال: يا داوود " (4).

لقد كان الفرعون يدعي أنه ابن آمون، وأبناء آمون فوق المسألة، لما قال

____________

(1) مروج الذهب 194 / 3.

(2) البداية 71 / 9.

(3) البداية 76 / 9.

(4) تاريخ الخلفاء 208 / 1.

الصفحة 357
هامان، وكهنة الترقيع والتلجيم والاحتناك، على امتداد التاريخ الفرعوني الذين دونوا شذوذ الانحراف تحت أعلام، حور، ورع، وآمون رع، وغير هؤلاء من أعلام الشيطان والدجل (1). وها نحن قد رأينا الوليد يجلس على أفخم كرسي، وهو لا يعلم هل يحاسب الخليفة أم لا. وقد وصفه الذهبي في دول الإسلام، بأنه: كان دميما، سائل الأنف، يختال في مشيته، قليل العلم (2)، وقال ابن كثير: كان لا يحسن العربية، فجمع جماعة من أهل النحو فأقاموا عنده سنة.

وقيل: ستة أشهر. فخرج يوم خرج أجهل مما كان (3). وفرعون موسى كان أشد جهلا، فهو الذي طلب من هامان أن يوقد له على الطين، وأن يجعل له صرحا كي يطلع إلى إله موسى. ولقد شهد الله بجهل فرعون فقال: (وأضل فرعون قومه وما هدى) (4). ومن دائرة الجهل قاد فرعون المسيرة، ولكن بأعلام الدين، فقال لقومه وهو يصد عن السبيل طمعا في أن يبعدهم عن دعوة موسى عليه السلام: (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) (5).

وقام بتنفير قومه من خط موسى، وهارون عليهما السلام فقال: (إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) (6). وعلى طريق فرعون سار الرعاع، (فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد) (7). ورفعت أعلام وصيحات الفرعونية (قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم) (8). وذهب فرعون وقومه. ثم جاءت الأيام على امتداد التاريخ لتحمل معالمهم، لأن الاستخلاف من سنة الوجود لينظر الله كيف تعملون، وكما أن الأيام تتشابه، فكذلك تكون القلوب (كذلك قال الذين من

____________

(1) الخوف والجوع / للمؤلف - تحت الطبع.

(2) دول الإسلام / الذهبي 55 / 1.

(3) البداية والنهاية 161 / 9.

(4) سورة طه: الآية 79.

(5) سورة غافر: الآية 26.

(6) سورة طه: الآية 63.

(7) سورة هود: الآية 97.

(8) سورة غافر: الآية 25.

الصفحة 358
قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون) (1). وتحت مظلة الأيام تختبر القلوب على امتداد التاريخ الإنساني... (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء) (2)، وكما كان في عالم الفرعون ابتلاء، كذلك كان في عهد الوليد بن عبد الملك امتحان، فالوليد جلس على كرسي الحكم أحد عشر سنة تقريبا، وقبل وفاته بستة أشهر، مات ذراعه الأيمن الحجاج بن يوسف الثقفي. وكان عد من قتله الحجاج صبرا، سوى من قتل في زحوفه، وحروبه مائة ألف وعشرين ألفا (3). وروي أن الحجاج مات وفي حبسه خمسين ألف رجل وثلاثين ألف امرأة (4). منهن ستة عشر ألفا مجردة (5). وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد (6).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net