متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ثانيا - الوحل
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

ثانيا - الوحل:

لقد بدأ يزيد شق الطريق إلى مكة التي كان ابن الزبير فيها وفي هذا الحصار، احترقت الكعبة، واحترق فيها قرنا الكبش، الذي فدي به إسماعيل بن إبراهيم. ودام الحصار إلى أن مات يزيد (1). وقال المسعودي في حرق البيت:

نصب أهل الشام المجانيق، والعرادات (2)، على مكة والمسجد من الجبال والفجاج... فتواردت أحجار المجانيق، والعرادات، على البيت ورمي مع الأحجار، بالنار، والنفط، ومشاقات الكتان، وغير ذلك من المحرقات وانهدمت الكعبة واحترقت البنية (3).

وبعد وفاة يزيد بن معاوية، جلس على العرش معاوية بن يزيد بن معاوية.

فكانت أيامه أربعين يوما، إلى أن مات. ولما حضرته الوفاة، اجتمعت إليه بنو أمية فقالوا له: أعهد إلى من رأيت من أهل بيتك. فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلد وزرها، وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها، اللهم إن برئ منها، متخل عنها. اللهم إني لا أجد نفرا كأهل الشورى، فأجعلها إليهم، ينصبون لها من يرونه أهلا لها (4).

وقد اختلفوا في سبب وفاته، فمنهم من رأى أنه سقي شربة، ومنهم من رأى أنه مات حتف أنفه، ومنهم من رأى أنه طعن. وقبض وهو ابن

____________

(1) أسد الغابة 243 / 3.

(2) العرادات / آلة حربية لدك الحصون.

(3) مروج الذهب 86 / 3.

(4) مروج الذهب 88 / 3.

الصفحة 324
اثنين وعشرين سنة (1). وبعد معاوية بن يزيد، بدأ نجم مروان بن الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور. ومروان سبب من الأسباب الرئيسية في قتل عثمان، وهو أيضا قاتل طلحة يوم الجمل، وكان يعلم أن الخلافة، ستكون له في يوم من الأيام، وعلى هذا الأساس كان يتصرف، ويفسح الطريق لنفسه. كما كان معاوية يصلح الطريق لنفسه بعد أن ألقى إليه كعب الأحبار، بما كان يتمناه.

ومروان هو إنتاج الفرع الثاني من بني أمية، أما معاوية فكان إنتاج الفرع الأول. والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من الفرعين. فقال: " إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا... وفي رواية، ثلاثين رجلا - اتخذوا مال الله دولا ودين الله دخلا، وعباد الله خولا " (2). فهذا تحذير من الفرع الأول. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا، اتخذوا مال الله دولا ودين الله دخلا، وعباد الله خولا " (3). وهذا تحذير من الفرع الثاني. ولقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب، فوضع أبا سفيان، عميد الفرع الأول، في دائرة المؤلفة قلوبهم، ووضع الحكم بن العاص، عميد الفرع الثاني، على طريق النفي فنفاه، ليكون في إبعاده علامة وإرشاده ولكن الذي حدث، أن سهم المؤلفة بعد النبي لم يكن لوجود. فظهر أبو سفيان ولمع ولده. ثم جاء الحكم بن العاص من منفاه، فظهر الحكم " ولمع ولده، ومروان أخبر النبي بأنه أبو الجبابرة الأربعة (4). وروي أن علي بن أبي طالب قال لمروان: " ويل لأمتك منك، ومن بنيك، إذا شابت ذراعاك " (5)، ومروان الذي كان يمهد الطريق

____________

(1) مروج الذهب 89 / 3.

(2) ذكره ابن كثير في البداية (274 / 6، 279 / 8) ورواه ابن عساكر (كنز العمال 165 / 11).

(3) ذكره ابن كثير في البداية (279 / 8، 258 / 8) ورواه الطبراني والبيهقي (كنز 162 / 11).

(4) رواه البيهقي في الدلائل وابن عساكر (كنز 361 / 11).

(5) ابن عساكر (كنز العمال 361 / 11).

الصفحة 325
لنفسه، عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة. فلقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما ولد (1). وروي أن الحسن بن علي قال لمروان: لقد لعنك الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنت في صلب أبيك (2).

وكانت ولاية مروان، تسعة أشهر وأياما، دق فيها أوتادا لا يستهان بها.

وروي أنه أول من أخذ البيعة بالسيف، كرها بغير رضا من الناس... وقد كان غيره ممن سلف، يأخذها بعدد وأعوان. إلا مروان (3). وذكر ابن عبد البر والذهبي وغيرهما مخازي مروان بأنه أول من شق عصا المسلمين بلا شبهة (4).

وفي عهد مروان، خرج سليمان بن صرد، وهو صحابي على رأس جماعة عرفت في التاريخ باسم " التوابين " (5). ولقد رأى بن صرد وأتباعه أنهم كانوا سببا في قدوم الحسين، وأنهم خذلوه حتى قتل هو، وأهل بيته، لذلك أقدموا على التوبة من هذا الذنب، بأخذ خطوة في اتجاه السلطة، لأنهم رأوا أنهم لا يغسل عنهم ذلك الجرم إلا قتل من قتله أو القتل فيه (6). وتوجه إليهم من الشام لحربهم، عبيد الله بن زياد على رأس جيش من ثلاثين ألفا. ودارت بين الطرفين المعارك في موقعة عين الوردة، فحمل سليمان وأتباعه على جيش الشام.

واستشهد سليمان بن صرد. وروي أنه عندما وقع على الأرض قال: فزت ورب الكعبة. وكان عمره يوم قتل، ثلاث وتسعين سنة. وعندما قتل سليمان استقتل أتباعه وكسروا أجفان السيوف، وخاضوا معارك عظيمة، وقتل منهم خلق كثير. ولما علم من بقي من التوابين أن لا طاقة لهم بمن بإزائهم من أهل الشام،

____________

(1) رواه البزار وأحمد بلفظ: لعن رسول الله فلانا وما ولد من صلبه. وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 241 / 5).

(2) رواه أبو يعلى (الزوائد 240 / 5).

(3) مروج الذهب 103 / 3.

(4) شذرات الذهب / ابن العمال الحنبلي 69 / 1.

(5) وعند المسعودي (الترابين) أي أصحاب أبي تراب علي بن أبي طالب.

(6) مروج الذهب 111 / 3.

الصفحة 326
انحازوا عنهم. وطلب منهم أهل الشام المكافة، والمتاركة، لما رأوا من بأسهم وصبرهم مع قلتهم. فلحق أهل الكوفة بمصرهم، وأهل المدائن والبصرة ببلادهم (1).

وحمل أهل الشام رأس ابن صرد إلى مروان بن الحكم، فجمع الناس وقال: أهلك الله رؤوس الضلال، ابن صرد وأتباعه. ثم أمر فعلقت الرؤوس بدمشق (2). وكانت حركة ابن صرد في عام 65 ه‍، وهو نفس العام الذي مات فيه مروان بن الحكم، واختلفوا في سبب وفاته، فمنهم من رأى أنه مات مطعونا، ومنهم من رأى أنه مات حتف أنفه، ومنهم من رأى أن أم خالد بن يزيد بن معاوية هي التي قتلته (3).

لقد كانت حركة سليمان بن صرد، مقدمة صحيحة، لو تكاتف الناس فيها لأعطت نتائج أفضل. وأقوى. إنه الرأي العام داخل مربع سليمان بن صرد، كان قد احتقن احتقانا شديدا، ما لبث أن عبر عن نفسه وأشهد الله على ذلك بينما كان الرأي العام في مكان آخر، تقع عليه الضربات من كل جانب، ورغم هذا، لم يقم من نومه، وينشط ذاكرته، ويتحرك التحرك الذي يستقيم مع سنة الابتلاء، لينظر الله كيف يعمل عباده. فيصيبهم إما الثواب وإما العقاب.

ولما كان الغالب الأعم من الرأي العام في سبات عميق، مكبلين بنصوص ليس فيها من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برهان، تدعوهم للاستسلام، وترك الدنيا، وهذه النصوص لا يستفيد منها إلا الذين يتخذون مال الله دولا، ودين الله دخلا، وعباد الله خولا. ولما كان الغالب الأعم يتصرف على اعتبار أنه كحصى على الأرض تلهو بها كل ريح، ولا يملك لنفسه سببا من الأسباب ليدفع المخاطر عن نفسه، تاركا الساحة للذين يأخذون بالأسباب للوصول إلى أهداف أهوائهم، في الوقت الذي يرى من حوله نجوم

____________

(1) مروج الذهب 114 / 3.

(2) البداية والنهاية 254، 255 / 8.

(3) مروج الذهب 107 / 3.

الصفحة 327
الهدى يأخذون بالأسباب، وهم يعلمون نتائج حركتهم مسبقا، ولم يدعوهم هذا إلى الاستسلام والترهب. لما كان الغالب الأعم على هذا النحو في القرن الأول الهجري، توالت الابتلاءات من الله سبحانه لتكون حركة التاريخ، حركة صحيحة أمام كل باحث.... وفي هذه الامتحانات يضرب العذاب أقواما، ويقتل أقوام في سبيل الله، وتسير طائفة الحق شامخة، لا يضرها من خذلها، أو من عاداه، أو من ناوأها. وبعد مروان، جاء ابنه عبد الملك، الذي وصف قبل أن يولد بأنه أحد الجبابرة الأربعة وعبد الملك اختار من بين الناس الحجاج ابن يوسف الثقفي الذي وصف قبل أن يولد بأنه فتى ثقيف الذيال الميال.

وقبل أن يتقلد عبد الملك بن مروان السلطة، كان الناس يعلمون أنه سيصير خليفة (1). وذلك بعد أن وضعوا أحاديث التحذير، في دائرة التبشير. وروي أن يزيد بن معاوية قال: إن الناس يزعمون أن هذا يصير خليفة، فإن صدقوا، فقد صانعناه. وإن كذبوا، فقد وصلناه، وكان يزيد قد أعطى لعبد الملك قطعة أرض (2).

وذكر ابن كثير، أنه لما سلم على عبد الملك بالخلافة، كان في حجره مصحف فأطبقه، هذا فراق بيني وبينك (3). وقال السيوطي: عبد الملك هو أول خليفة بخل، وهو أول من غدر في الإسلام، وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وأول من نهى عن الأمر بالمعروف (4). وذكر ابن كثير: أن عبد الملك كان له إقدام على سفك الدماء، وكان حازما، فطنا لأمور الدنيا لا يكل أمر دنياه إلى غيره (5). وقال المسعودي: وكان له إقدام على الدماء وكان عماله على مثل مذهبه (6). وروى صاحب الفتح الرباني: أن عبد الملك منع

____________

(1) مروج الذهب 82 / 3.

(2) مروج الذهب 82 / 3.

(3) البداية والنهاية 63 / 9، تاريخ الخلفاء / السيوطي 202 / 1.

(4) تاريخ الخلفاء / 203 / 1.

(5) البداية والنهاية 63 / 9.

(6) مروج الذهب 109 / 3.

الصفحة 328
الناس من الحج، خوفا أن يبايعوا ابن الزبير (1).

وروي أن عبد الملك بن مروان، هادن ملك الروم، وبعث إليه بأموال وهدايا ليتفرغ للأمة. وكان عبيد الله بن زياد، أمير بني أمية المطيع قد قتل، بعد موقعة عين الوردة وقتل معه أشراف أهل الشام، عندما التقى هو وإبراهيم بن الأشتر النخعي (2)، وبينما كان عبد الملك يعيد ترتيب أوراقه، وأوتاده، كانت الأحداث في الحجاز والعراق تشتعل. فعبد الله بن الزبير كان قد بسط يده على رقعة كبيرة من الأرض، وكان يريد أن يضم الشام إلى سلطانه. وروي أن المختار بن أبي عبيد الثقفي، قال لابن الزبير: إني لأعرف قوما، لو أن لهم رجل له رفق، وعلم مما يأتي، لاستخرج لك منهم جندا تغلب بهم أهل الشام. قال:

من هم. فقال: شيعة بني هاشم بالكوفة. فقال له: كن أنت ذلك الرجل. وبعثه إلى الكوفة.

فنزل ناحية منها، وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم، ويظهر الحنين والجزع لهم، ويحث على أخذ الثأر لهم، المطالبة بدمائهم (3). وبهذه المقدمة سار إلى قصر الإمارة، وغلب على الكوفة، وابتنى لنفسه دارا، وفرق الأموال على الناس، وخلع طاعته لابن الزبير، وجحد بيعته، وكان من قبل قد بايعه.

وتتبع المختار قتلة الحسين فقتلهم. قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص، وهو الذي تولى حرب الحسين يوم كربلاء. فزاد ميل أهل الكوفة إليه ومحبتهم له. ولقد حاول المختار أن يضع على حركته رداء أهل البيت، فكتب إلى علي بن الحسين يريد أن يبايعه، ولكن علي بن الحسين أبى أن يقبل ذلك منه، وأظهر كذبه وفجوره، ودخوله على الناس بإظهار الميل إلى آل أبي طالب. فلما يئس المختار من علي بن الحسين، كتب إلى عمه محمد بن الحنفية، يريده على

____________

(1) الفتح الرباني 171 / 11.

(2) مروج الذهب 116 / 3.

(3) مروج الذهب 89 / 3.

الصفحة 329
مثل ذلك، فأشار عليه علي بن الحسين ألا يجيبه إلى شئ من ذلك، فإن الذي يحمله على ذلك، اجتذابه لقلوب الناس بهم، وتقربه إليهم بمحبتهم، وباطنة مخالف لظاهره، في الميل إليهم والتولي لهم والبراءة من أعدائهم. بل هو من أعدائهم لا من أوليائهم، والواجب عليه، أن يشهر أمره، ويظهر كذبه على حسب ما فعل هو، عندما أظهر للناس كذب المختار (1).

وأتى محمد بن الحنفية ابن عباس، يستشيره في هذا الأمر. فأوصاه بالسكوت لأن تأييد حركة المختار التي لا تقوم على أرضية إيمانية لا قيمة لها، ثم إن إظهار حقيقة المختار، لن تأتي بفائدة من عند ابن الزبير، خصم المختار الأول. لأن ابن الزبير بايعه كل الناس إلا محمد بن الحنفية (2). وابن الزبير من المبغضين لأهل البيت. فكان ينال من علي بن أبي طالب في خطبه (3). وكان ينتقص بن عباس (4). وبالجملة: كانت حركة المختار، وابن الزبير، حركة هدفها الدنيا وليس لأهل البيت فيها أي نصيب اللهم إلا قتل أعدائهم، تحت راية المختار. ولقد جعل ابن حزم هذا القتل من مناقب المختار فقال: تتبع المختار بعض الذين شاركوا في قتل ابن الزهراء الحسين، فقتل منهم ما أقدره الله عليهم، وفعل أفاعيل يعفى فيها على هذه الحسنة (5).

وحركة المختار، دليل عظيم على أن أهل البيت لا يركبون باطلا ليصلوا به إلى حق. فلو كانوا طلاب دنيا، لهرولوا إلى المختار، في وقت كان البيت الأموي يعيد ترتيب أوراقه وأوتاده، بعد الخسائر التي مني بها في موقعة مرج راهط بين مروان والضحاك بن قيس، ثم الخسائر التي أصابته في موقعة عين الوردة، وما بعدها لكنهم لم يفعلوا ذلك، لأن الدين لا يخضع للتجارة، وحركة

____________

(1) مروج الذهب 90 / 3.

(2) مروج الذهب 93 / 3.

(3) مروج الذهب 97 / 3.

(4) مروج الذهب 97 / 3.

(5) رسائل ابن حزم 141 / 2.

الصفحة 330
أهل البيت حركة واحدة على امتداد التاريخ، فهم في انتظار الناس، فإذا جاء الناس، على الإمام أن يتحرك بهذه الحركة التي تستقيم مع الواقع لإقامة الحجة بهم على من خالفهم. وفي عالم القتال على الدنيا، يكون التحرك خاضعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت رجلين من أمتي يقتتلان على المال، فأعدد عند ذلك سيفا من خشب " (1)، وقوله: " إذا رأيت الأخوين المسلمين يختصمان في شبر من أرض، فاخرج من تلك الأرض " (2). فكل حركة في هذه الأمور لا بد لها من فقه، وفقيه على بصيرة.

والدليل على أن الدولة الأموية، وابن الزبير وغيرهما كانوا يقاتلون على الدنيا، ما رواه البخاري عن أبي المنهال قال: لما كان ابن زياد ومروان بالشام، ووثب ابن الزبير بمكة، ووثب القراء بالبصرة. انطلقت مع أبي، إلى أبي برزة الأسلمي حتى دخلنا عليه في داره. فقال أبي: يا أبا برزة، ألا ترى ما وقع فيه الناس. فقال: إني احتسبت عند الله كأني أصبحت ساخطا على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة، والقلة، والضلالة، وأن الله أنقذكم بالإسلام، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم. إن ذاك الذي بالشام والله إن يقاتل إلا على الدنيا. وإن هؤلاء الذين بين أظهركم والله إن يقاتلون إلا على الدنيا، وإن ذاك الذي بمكة، والله أن يقاتل إلا على الدنيا (3). ورواه الحاكم بزيادة: فقيل له: فما تأمرنا؟ قال: لا أرى خير الناس إلا عصابة ملبدة، خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دمائهم " (4). وفي هذه الدائرة ترى أعلام أهل البيت، الذين لا يأخذون من أموال الناس إلا ما كتب الله لهم.

ومن أجل المصالح دارت المعارك بين المختار، وبين ابن الزبير، سنة

____________

(1) رواه الطبراني (كنز العمال 148 / 11).

(2) رواه الطبراني (كنز 149 / 11).

(3) البخاري (الصحيح 230 / 4) ك الأحكام.

(4) رواه الحاكم وصححه (المستدرك 471 / 4).

الصفحة 331
سبع وستين هجرية. وانتهت المعارك بقتل المختار، وقتل معه سبعة آلاف رجل.

وتتبعت قوات ابن الزبير الشيعة، بالكوفة وغيرها، وقتلت منهم خلقا كثيرا (1)، ولم يبق بالساحة سوى بني أمية وابن الزبير. ودخلت سنة سبعين هجرية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عن فترة الستينيات " تعوذوا بالله من رأس الستين ومن إمارة الصبيان " (2). وكما علمنا أن الحسين قتل على رأس الستين، ثم اجتاح صبيان قريش الحرة، وحاصروا مكة، ثم وقعت معارك عديدة من أجل الدنيا، حتى دخل عام 70 ه‍. وفي الاستفتاح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " تعوذوا بالله من رأس السبعين ومن إمارة الصبيان " (3).

وعلى رأس السبعين، قويت شوكة الروم يقول الطبري: في هذه السنة ثارت الروم واستجاشوا على من بالشام من المسلمين، فصالح عبد الملك بن مروان ملك الروم، على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار، خوفا منه على المسلمين " (4). وفي هذا الصلح، تسلل العديد من أهل الديانة النصرانية إلى بلاد الشام، وتقربوا إلى أمراء الأمصار، وفي هذا العام أيضا قتل عبد الملك، عمرو بن سعيد الأشدق، وكان عبد الملك يظن بأن ابن الأشدق يزاحمه على الخلافة. وبدأ عبد الملك يعد العدة لبسط نفوذه على الأراضي التي يسيطر عليها ابن الزبير، فخرج متوجها إلى العراق وعلى مقدمته، الحجاج بن يوسف الثقفي، وقيل كان على ساقته (5). واجتاحت خيل عبد الملك الكوفة، وقتل مصعب بن الزبير، وبايعه الناس. وغرس عبد الملك ولاته على أرض العراق، وكان على رأسهم الحجاج بن يوسف. وكانت وصية عبد الملك للحجاج: إن أردت أن يستقيم لك من قبلك، فخذهم بالجماعة، وأعطهم عطاء الفرقة وألصق بهم

____________

(1) مروج الذهب 119 / 3.

(2) رواه الإمام أحمد وأبو يعلى (كنز العمال 119 / 11).

(3) رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات (الزوائد 220 / 7) (الفتح الرباني 34 / 23)، (البداية والنهاية 234 / 6)، (كنز العمال 119 / 11).

(4) الطبري 184 / 7.

(5) مروج الذهب 125 / 3.

الصفحة 332
الحاجة (1).

والحجاج أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمجيئه، كعقاب لأمة، رفعت سيوفها وألسنتها على الحق. لينظر الله إلى أين يفر الناس من العذاب، إلى الله، أم إلى بيوت المال؟ حيث الانحناء إلى السلطان؟ إن العذاب ليس من أجل العذاب، ولكن العذاب امتحان تظهر فيه المعادن، وهو في خطوطه العريضة رحمة، لأنه يدعو الناس إلى الشكر لأن الشكر نجاة من عذاب يوم عظيم، فمن فر إلى الله من عذاب الدنيا، لم يجمع الله عليه عذاب الآخرة. أما المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، فإنهم بعذاب الدنيا يعبرون إلى عذاب القبر، إلى عذاب يوم أليم، لأنهم يتعاملون مع العذاب، وفقا لأهوائهم، فتحت العذاب تراهم يصالحون ويحاربون، وليس لله في أعمالهم نصيب. وفي سنة العذاب يقول تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (2). وقال:

(ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) (3)، وقال: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (4)، والحجاج عذاب، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه، لأن هوى الحجاج لن يكون على خط الهدى، وإنما سيختار خط الكذب، وسفك الدماء. وهذا إخبار بالغيب، ولقد شهدت حركة التاريخ بذلك.

قال النبي صلى الله عليه وسلم " سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول. وهو مبير " (5). قيل إن الأول هو المختار الثقفي، الذي تتبع قتلة الحسين. أما الثاني فهو الحجاج. وكان الإمام علي، قد دعى على أهل العراق، بأن يبعث الله عليهم فتى ثقيف. وأخرج البيهقي. أن عليا قال لرجل: لا مت حتى تدرك فتى ثقيف. قال: وما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة، أكفنا

____________

(1) مروج الذهب 143 / 3.

(2) سورة الأنفال: الآية 33.

(3) سورة النساء: الآية 147.

(4) سورة الإسراء: الآية 15.

(5) رواه ابن سعد ونعيم ابن حماد والحاكم والطبراني (كنز العمال 201، 202 / 214).

الصفحة 333
زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين أو بضعا وعشرين، لا يدع لله معصية إلا ارتكبها. حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة، وكان بينه وبينها باب مغلق، لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه (1). وروي أن الإمام علي قال لأهل الكوفة، فيما أخرجه الإمام أحمد عن الحسن: " اللهم كما ائتمنتهم فخانوني، ونصحت لهم فغشوني، فسلط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال، يأكل خضرتها ويلبس فروتها، ويحكم فيهم بحكم الجاهلية. قال الحسن: ما خلق الحجاج يومئذ (2). وكان الإمام الحسين قد دعا عليهم يوم كربلاء فقال: اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنين يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقهم كأسا مصبرة، فإنهم كذبونا وخذلونا (3). فالحجاج عذاب دق أوتاده نظام. وحكمة الوجود عمودها الفقري، لينظر الله كيف تعملون. إن الحجاج بقعة حمراء جاهلية في ثوب به جميع الألوان، كلها تحمل زخارف الدنيا، فإلى أين يكون الفرار؟ وكيف سيدون القرن الأول الهجري تاريخه في هذه الحقبة الزمنية، التي عليها تنبت عقائد، وعلى مساحتها تشق أكثر من سبعين فرقة طريقها.

والحجاج وضع شذوذا، وارتكب جرائم من شأنها أن تحرك الناس، طلبا للتغيير على طريق العودة إلى الله. ويكفي أن يقول عمر بن عبد العزيز في أعمال الحجاج: " لو جاءت كل أمة بخبثها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم " (4). وقال أبي النجود: " ما بقيت لله حرمة إلا وقد ارتكبها الحجاج " (5). وسألوا مجاهد عن الحجاج فقال: تسألون عن الشيخ الكافر (6). وقال الشعبي: الحجاج يؤمن بالجبت والطاغوت كافر بالله

____________

(1) الخصائص الكبرى 226 / 2، البداية 132 / 9.

(2) الخصائص الكبرى 225 / 2، البداية 132 / 9.

(3) الطبري 359 / 6.

(4) رواه البيهقي (البداية والنهاية 270 / 6).

(5) البداية والنهاية 270 / 6.

(6) البداية والنهاية 136 / 9.

الصفحة 334
العظيم (1). وقال الأوزاعي سمعت القاسم بن ضميرة يقول: كان الحجاج ينقض عرى الإسلام (2).

فهذا هو الحجاج في نظر علماء الإسلام. أما القيادة التي دقت وتد الحجاج في جسد الأمة روي أنه قيل للوليد بن عبد الملك: ما تقول في عبد الملك بن مروان؟ فقال: ما أقول في رجل الحجاج خطيئة من بعض خطاياه (3). ونحن هنا سنسلط الضوء على أهم الأقوال والأفعال التي أتى بها الحجاج، والتي تعتبر دعوة صريحة للخروج عليه، والالتفاف حول راية الهدى التي لم تكن خافية على أحد في هذا الزمان.

روى أبو داود عن جعفر بن عوف قال: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول: إن مثل عثمان عبد الله كمثل عيسى بن مريم، ثم قرأ هذه الآية ويفسرها (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا)، يشير إلينا بيده، وإلى أهل الشام (4). ثم قام الحجاج بتوسيع الدائرة، فروي عن سليمان الأعمش، أن الحجاج قال: " اسمعوا وأطيعوا لخليفة الله، وصفيه عبد الملك بن مروان " (5). وقال: " اسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر، لحلت لي دماؤهم وأموالهم " (6).

وذكر الجاحظ أن الحجاج قال: والله لطاعتي أوجب من طاعة الله، لأن الله يقول: (اتقوا الله ما استطعتم)، فجعل منها مثنوية (7). وقال الله: " واسمعوا وأطيعوا)، ولم يجعل منها مثنوية ولو قلت لرجل: ادخل من هذا الباب فلم

____________

(1) البداية والنهاية 136 / 9.

(2) البداية والنهاية 136 / 9.

(3) البداية والنهاية 135 / 9.

(4) أبو داوود حديث رقم 4641 ص 209 / 4.

(5) أبو داوود حديث 4645 ص 210 / 4.

(6) أبو داوود حديث 4643، ص 210 / 4.

(7) المثنوية / الاستثناء.

الصفحة 335
يدخل لحل لي دمه (1). قال الجاحظ: لقد فهم الحجاج أن المراد طاعة أولي الأمر. وليس كما ظن. بل المراد: اسمعوا المواعظ وأطيعوا الأوامر الإلهية. أو اسمعوا لله ولرسوله وأطيعوا الله فيما يأمركم (2).

وروي أن سجون الحجاج كان يوجد فيها شئ يلجأ الناس إليه، من حر، أو برد، وأن المسجونين كانوا يسقون الماء مشوبا بالرماد (3). وذكر أن الحجاج مر في يوم جمعة، فسمع استغاثة فقال: ما هذا؟ فقيل له: أهل السجون يقولون، قتلنا الحر، قال: قولوا لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون (4).

ولم تقف أعمال الحجاج عند هذا الحد. ففي عصره كان الصحابة يعايرون بالصحبة. وروي أنه كان يختم الصحابة بخاتم، حتى يعرفهم الناس، ويعايرونهم بصحبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول السيوطي: في سنة أربع وسبعين. سار الحجاج إلى المدينة، وصار ينعت على أهلها ويستخف ببقايا من فيها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وختم أعناقهم وأيديهم يذلهم بذلك، كأنس، وجابر، وسهل بن سعد (5). وقد قتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصى (6). وهذه الأمور كانت دعوة في حقيقة الأمر ليتحرك الناس الحركة التي يحبون أن ينظر الله إليهم، وهم يقومون بها. كان هذا دعوة مفتوحة، للفراو إلى الله، موجه إلى جيل حديث عهد برائحة النبوة الزكية. ونحن هنا سنلقي الضوء على صور محددة لحركة الناس في هذا الجيل.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net