سادسا - العزيمة والإصرار:
كان الحسين يقف كحجر عثرة في طريق آمال عبد الله بن الزبير، الذي وضع مكة في اعتباره، لينطلق منها ويدعو إلى نفسه. روي أن ابن الزبير قال للحسين: ما تريد أن تصنع؟ فقال الحسين: والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلي شيعتي بها وأشراف أهلها، واستخير الله. فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها. وبعد أن قال ذلك، خشي أن يتهمه، فقال للحسين: أما إنك لو أقمت بالحجاز، ثم أردت هذا الأمر ههنا.
ما خولف عليك إن شاء الله. وعندما خرج الحسين من عنده قال الحسين: ها إن هذا ليس شئ يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق.
وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شئ، وأن الناس لم يعدلوه بي فود أني خرجت منها لتخلو له (1). ولقد كان الحسين يعلم أن ابن الزبير سيقتل في مكة على طريق الفتن وذلك وفقا لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب عن ربه. وروي أن ابن الزبير الذي لزم الكعبة وقد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبدا ما دام حسين بالبلد، لأنه حسينا أعظم في أعينهم وأنفسهم منه قال للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر... فقال الحسين: إن أبي حدثني أن بها كبشا يستحل حرمتها. فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش (2).
فالحسين يتعامل مع الأحداث وفقا لمعايير دقيقة، فابن الزبير يريد الحكم
____________
(1) الطبري 216 / 6.
(2) الطبري 217 / 6، البداية 166 / 8.
ويعمل من أجله. وهذا قد حدث. وبما أنه ليس وحده الذي يقاتل في عالم القتن من أجل الحكم، فإن من يريد أن ينتزع منه هذا الحكم فسيقاتله. وفي جميع الأحوال ستكون مكة أرض الصراع، ومكة حرمها الله، لذا فالحسين تعامل مع الحدث من هذا الباب. فهو لا يريد أن يدخل في صراع مع ابن الزبير أو غيره داخل الحرم، لأن للحرم عنده مكانة وقداسة، ولأنه يعرف طريقة جيدا. اختار الذهاب إلى الكوفة فهناك أو على طريقها يواجه أصول البغي والإرهاب والفتن التي اجتمعت كلها في سلة واحدة. فهناك تكون الحركة لها معنى. أما في مكة ما أدرانا ماذا كان سيحدث لو واجه الحسين خصومه فيها. ولذا قال الحسين لابن الزبير: والله لأن أقتل خارجا منها - أي مكة - بشبر أحب إلي من أن أقتل داخلا منها بشبر (1).
وبعد أن عزم الحسين على الخروج إلى الكوفة، أشفق عليه الكثير من الناس، لأنهم كانوا يعلمون نتيجة هذا الخروج، وعندما كلموه في ذلك قال:
إني رأيت رؤيا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرت فيها بأمر. وأنا ماض له عله كان أولى. فقيل له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدثت أحدا بها وما أنا محدث بها حتى ألقى ربي (2). وروي أنه قال لابن الزبير، وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام، لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم، ووالله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت (3). وإني ماض في أمر رسول الله حيث أمرني. وإنا لله وإنا إليه راجعون (4). ثم قال عليه السلام: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا، سلط الله عليهم من يذلهم، حتى يكونوا أذل من فرم الأمة (5).
____________
(1) الطبري 217 / 6.
(2) الطبري 219 / 6، أسد الغابة 21 / 2، البداية 167 / 28.
(3) البداية والنهاية 169 / 8، الطبري 217 / 6.
(4) مقتل الحسين / الخوارزمي 158 / 1.
(5) الطبري 223 / 6، البداية والنهاية 169 / 8.
ويبدو، والله أعلم، أن أجهزة التيار الأموي كانت تعد العدة من أجل القيام بعمل تخريبي للإضرار بالحسين في موسم الحج. ولا قدر الله لو حدث هذا، لوضعت الدماء على وجه فريضة إسلامية يحتشد فيها الناس، ولترتب على ذلك أمور الأمة في غنى عنها. ويبدو أن ابن عباس فطن لهذا الأمر عندما وجد الحسين طاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقص شعره، وحل من عمرته بينما الناس يتوجهون إلى منى (1) ففي هذا الوقت يقول ابن عباس: كلمني حسين في الخروج فقلت: لولا أن يزري ذلك بي أو بك لشبكت بيدي في رأسك. فقال الحسين: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن يستحل بي حرم الله ورسوله. قال ابن عباس: فذلك الذي سلى بنفسي عنه (2).
وخرج الحسين ومعه أهل بيته، وروي أنه لما خرج من مكة، اعترضه رسل عمرو بن سعيد ابن العاص عامل يزيد بن معاوية على مكة، فقالوا له:
انصرف، أين تذهب؟ كانوا يريدون أن يعود إلى مكة، فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان، فاضطربوا بالسياط، ثم إن الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعا قويا. ومضى الحسين عليه السلام على وجهه. فنادوه: يا حسين ألا تتقي الله، تخرج من الجماعة وتفرق هذه الأمة. فتلى قوله تعالى: (لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل. وأنا برئ مما تعملون) (3).
وكان الحسين قد تلى قوله تعالى: " فخرج منها خائفا يترقب. قال: رب نجني من القوم الظالمين)، وذلك عندما سار نحو مكة بعد أن رفض بيعة يزيد، فلما دخل مكة تلى قوله تعالى: " فلما توجه تلقاء مدين، قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) (4)، وعندما خرج من مكة تلى قوله تعالى: (لي عملي ولكم عملكم...) الآية.
____________
(1) الطبري 217 / 6.
(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 192 / 9).
(3) الطبري 218 / 6، البداية والنهاية 166 / 8.
(4) الطبري 191 / 6.
وفي الطريق انتهى إلى ماء من مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع، فلما رأى الحسين قام إليه وقال: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله. ما أقدمك؟
فقال له الحسين: كان من موت معاوية ما قد بلغك. فكتب إلي أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم. فقال له ابن مطيع:... فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا. والله إنها لحرمة الإسلام تنتهك، وحرمة قريش، وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة، ولا تعرض لبني أمية. فأبى الحسين إلا أن يمضي (1). وقال له آخر: إني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلدا فيه عماله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال. وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار. ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك بالنصر ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك (2). فأبى الحسين إلا أن يمضي.
|