3 - هل رأيت آية النار؟
كان عمر بن الحمق من أتباع حجر بن عدي، وكان يعترض على ما يعترض عليه حجر، وكما كان حجر حجة على جموع أحاط بها العذاب من كل مكان، ودعوة لهم كي يأخذوا بالأسباب لدفع هذا العذاب، كذلك كان عمرو بن الحمق أيضا. روي عن عمرو أنه قال: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبينما أنا عنده ذات يوم قال لي: يا عمرو هل لك أن أريك آية الجنة تأكل وتشرب الشراب، وتمشي في الأسواق؟ قلت: بلى بأبي أنت. قال: هذا وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب. ثم قال لي: يا عمرو هل لك أن أريك آية النار، تأكل الطعام وتشرب الشراب وتمشي في الأسواق؟ قلت: بلى بأبي أنت.
قال: هذا وقومه آية النار، وأشار إلى رجل! فلما وقعت الفتنة ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم ففرت من آية النار إلى آية الجنة. ثم قال عمرو: ويرى بنو أمية قتلي بعد هذا. والله إن كنت في حجر في جوف حجر، لاستخرجني بنو أمية حتى يقتلوني، حدثني به حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لي: إن رأسي أول رأس تحتز في الإسلام وينقل من بلد إلى بلد (2).
وروي أن عمرو بن الحمق كان من جملة من أعان حجر بن عدي، فطلبه زياد فهرب وكان مريضا، وخرجت الخيل في طلبه. وفي الطريق سأله رجل: من
____________
(1) أبو سعيد الأعرابي في الزهد (كنز العمال 731 / 3).
(2) رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي فيه عبد الله بن عبد الملك وهو ضعيف (الزوائد 406 / 9) وله شاهد قوي عند الطبراني في الكبير. (كنز العمال 627 / 11) ورواه ابن عساكر بلفظ آخر بسند صحيح (كنز العمال 496 / 13).
أنت؟ فقال: من إن تركتموه كان أسلم لكم، وإن قتلتموه كان أضر بكم. وهرب عمرو إلى الموصل (1)، وروي أن عامل الموصول لما رأى عمرا عرفه، فكتب إلى معاوية فأمر معاوية بقتله، فهرب نحو الجزيرة ومعه رجل يقال له زاهر، وبينما هما مختبآن إذ رأيا نواصي الخيل في طلبه، فأمر زاهر أن يتغيب، وقال له: فإذا قتلت فإنهم يأخذون رأسي، فارجع إلى جسدي فادفنه، فقال له زاهر:
بل انثر نبلي ثم أرميهم حتى إذا فنيت معك. قال عمرو: لا ولكني سأزودك مني ما ينفعك الله به. فاسمع مني: آية الجنة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلامتهم علي بن أبي طالب! وتوارى زاهر، فأقبل القوم، وقتل عمرو، ونزل إليه رجل منهم فقطع رأسه. فكان أول رأس في الإسلام نصب في الناس.
وخرج زاهر إليه فدفنه (2). وفي رواية: أن حية نهشته فمات فقطعوا رأسه (3).
وبعد أن رفعت رأس عمرو بن الحمق ليراها أهل العراق، كان لا بد أن يراها أهل الشام. يقول البخاري: أول رأس بعث في الإسلام رأس عمرو بن الحمق. بعثه زياد إلى معاوية (4) لكي تشاهد الأمة الرأس المقطوع. يقول ابن كثير: وبعث برأسه إلى معاوية فطيف به في الشام وغيرها، فكان أول رأس طيف به (5).
وكان معاوية قد ألقى القبض على زوجه عمرو بعد أن فشل في القبض على عمرو، وألقى بها في سجونه. ورأى معاوية بعد أن أطمئن إلى أن الأمة قد شاهدت الرأس، أن يبعث برأس عمرو إلى زوجته في السجن. يقول ابن كثير:
ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته آمنة بنت الشريد، وكانت في سجنه فألقي في حجرها، فوضعت كفها على جبينه، ولثمت فمه وقالت: عيبتموه عني طويلا،
____________
(1) الطبري 148 / 6، البداية 48 / 8.
(2) رواه ابن عساكر وقال ابن حجر في الإصابة سنده جيد (الإصابة 533 / 2) (كنز العمال 498 / 13).
(3) البداية 48 / 8، ابن عساكر (كنز العمال 498 / 13).
(4) التاريخ الصغير للبخاري 105 / 1.
(5) البداية والنهاية 48 / 8.
ثم أهديتموه إلى قتيلا، فأهلا بها من هدية، غير قالية ولا مقلية (1).
إن بني أمية سجلوا السطور الأولى في قانون الاضطهاد الذي يحمل غلاف الدين، فمن هنا كانت خطورتهم. ولأجل ذلك حذرت الدعوة منهم، ولقد ميزهم الله بعلامات على امتداد تاريخهم في الجاهلية حتى لا تجهلهم قريش.
فبينما كان لبني عبد شمس أنهار كان لبني هاشم أنهار أخرى، وجاءت الدعوة الخاتمة على هذا الأساس من المعرفة، جاءت الدعوة لتنهي الأحقاد وتعلن: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وتحذر من أصحاب مستنقعات الحقد لأنهم لو بلغوا أربعون رجلا على آرائك السلطة فسيكون قانونهم: السواد بستان لقريش، وأن أبا سفيان لو ولد الناس فلن يلد إلا حازما.
إن الدعوة أرشدت الجيل الأول إلى الطريق الذي إذا أخذوا به فلن يضلوا أبدا. وقتل حجر، وقطع رأس عمرو بن الحمق، ومن قبلهما عمار بن ياسر، وزيد بن صوحان، وغيرهم ما وقع إلا على طريق ينتهي بتمزيق الأمة.
ومن فضل الله تعالى ورحمته، أنه غرس على امتداد طريق الأمة الخاتمة مبشرات وعلامات، تنير الطريق قبل وقوع الحدث كي يحذر الناس. فعمار كان علامة لأحداث محددة، وأبو ذر كان علامة لوقت محدد، وحجر بن عدي وأصحابه علامات إرشادية لها مهمة ما، وعند ثقافة ما، في زمن ما. ومعنى أن جبريل عليه السلام يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عمارا تقتله الفئة الباغية، وأن الله يغضب لقتل أهل عذراء، معنى هذا أن من أراد طريق العصمة من الفتن فلا يقف ضد المبشرات والعلامات، بل يجب عليه أن يدور معهم ويسلك طريقهم. وهذه العلامات باختصار شديد. دعوة للدخول في رحاب الرحمة، والخروج من باب الضنك والعذاب الذي نشأ من اختلافهم وارتفاع أصواتهم وخذلانهم للحق، فالله سبحانه يبين للناس ما يتقون ويكشف لهم طريق المحن. فإذا آمن أهل القرى فتح عليهم سبحانه أبواب البركات، وإذا اختلفوا
____________
(1) البداية والنهاية 48 / 8.
أنار الطريق بالمبشرات والعلامات ليرفع عنهم ما جلبوه لأنفسهم، وهذا من رحمته الواسعة. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " ذهبت النبوات وبقيت المبشرات " (1). فإغلاق الطريق أمام المبشرات وعلاماتها يعني أن الذي أغلق الطريق يسير في عالم الفتن، وعالم الفتن لا يدري القاتل فيه في أي شئ قتل، ولا يدري المقتول في أي شئ قتل. وفي عالم الفتن الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم. وعلى كل داخل في الباطل إثمان: إثم العمل به وإثم الرضا به.
وليس معنى أن الفتن في الخارج أن يغلق رجال الجيل الأول على أنفسهم الأبواب، لأن الفتن على أيامهم كان عليها علامات وعلامات، وكان إمام الهدى لا يجهله أحد. إن إغلاق الباب عند المقدمة سيكون إغلاقا للحقيقة عند النتيجة. والله تعالى يجري الأحداث لينظر كيف يعمل عباده. كما أن لكل فتنة فقه. فهناك فتنة يدور فقهها على رحى " لو أن الناس اعتزلوهم " فالاعتزال هنا المقصود منه تجريد جهات الاستعلاء على عباد الله من المال، والجنود والفقهاء، فالاعتزال سيجعلهم بلا سيف وبلا سجن. وهناك فتن يجب أن يبحث المسلم فيها عن سيف من خشب، وذلك عندما يجد أن الذين من حوله يقتتلون على المال، أو على شبر من الأرض. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت رجلين من أمتي يقتتلان على المال، فاعدد عند ذلك سيفا من خشب " (2).
وقال: " إذا رأيت الأخوين المسلمين يختصمان في شبر من الأرض فاخرج من تلك الأرض " (3).
وفي الجيل الأول لم يكن الإمام علي، ومن بعده الإمام الحسن، يقاتلان من أجل المال. ولم يخرج أبو ذر، أو عمار، وأويس، أو حجر من أجل المال. فاعتزال هذا الخط يكون اعتزال في غير محله. ولقد رأينا في حركة التاريخ أن الغالب الأعم لم يعتزل الذين أمروا باعتزالهم واعتزلوا الذين نهوا عن
____________
(1) رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه (الإصابة 272 / 8).
(2) رواه الطبراني (كنز العمال 148 / 11).
(3) رواه الطبراني (كنز العمال 149 / 11).
اعتزالهم. ونتيجة لذلك، ركبوا الطريق الذي يؤدي إلى عذراء فقتل حجر.
وغضب الله وأهل السماء. وفي الفتن يقول الإمام علي: " لا يقولن أحدكم:
اللهم إني أعوذ بك من الفتن، لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة. ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن، فإن الله سبحانه يقول: " واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة "، ومعنى ذلك أنه سبحانه يختبر عباده بالأموال والأولاد، ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه. وإن كان الله سبحانه أعلم بهم من أنفسهم. ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب، لأن بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث. وبعضهم يحب تثمير المال. ويكره انثلام الحال " (1).
فمن هذا نعلم أن الأحداث عندما تجري لا بد للأفعال أن تظهر. فإذا أغلقت الأبواب في موضع، فليس معنى هذا أنها تغلق في كل موضع بالنسبة للجيل الأول. وإلا لو كان الاغلاق قاعدة، ما كنا قد علمنا حركة الأحداث.
ولكننا علمنا عندما شاهدنا حركة أبو ذر وعمار وحجر وغيرهم. ومن الدليل أيضا على عدم جدية إغلاق الأبواب في وجه الإمام علي والإمام الحسن، أن من الصحابة من واجه حركة الاستكبار الأموي وهي في عنفوانها، آخذا بالأسباب في اتجاه رحمة الله الواسعة. ولتكون بصماته شاهدة على الأحداث. روي أن قيس بن خرشه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أبايعك على ما جاءك من الله، وعلى أن أقول بالحق. فقال له النبي: عسى أن يكون عليك من لا تقدر على أن تقوم معه بالحق - (وفي رواية: يا قيس عسى إن مد بك الدهر أن يليك بعدي ولاة لا تستطيع أن تقول بحق معهم) (2)، فقال قيس: والله لا أبايعك على شئ إلا وفيت لك به. فقال له النبي: إذا لا يضرك شئ. فكان قيس يعيب زياد بن أبيه، وابنه عبيد الله، وكان يقول قال لي النبي:
لا يضرك شئ. فأرسل إليه عبيد الله بن زياد وقال له: أأنت الذي تزعم أنه لن
____________
(1) ابن أبي الحديد 370 / 5.
(2) رواه الطبراني (كنز العمال 190 / 11).
يضرك شئ. فقال: نعم، قال: كذبت أنت تفتري على الله ورسوله. فقال: لا والله. ولكن إن شئت أخبرتك بمن يفتري. قال ابن زياد: وما هو؟ فقال: من ترك العمل بكتاب الله وسنة رسوله. قال: ومن ذاك، فقال: أنت وأبوك ومن أمركما. قال ابن زياد: لتعلمن اليوم أنك قد كذبت. وصاح قائلا: ائتوني بصاحب العذاب. فمال قيس عند ذلك فمات (1).
لقد خذل كثير من الناس علامات البشرى. إن نزول جبريل عليه السلام، وإخباره بأن الله يغضب لمن يقتل في عذراء، كان دعوة ليقف الجيل الأول بعد قتل حجر وقفة رجل واحد حول الإمام الحسن. بعد أن خذلوه وكشفوا خنادقه أمام خيل معاوية. كان دعوة ليأخذوا بالأسباب التي ترضي الله بعد غضبه، والله واسع المغفرة. ولكن حركة التاريخ سارت على خلاف ذلك. وإذا كان الستار قد نزل هنا على قطع رأس عمرو بن الحمق، والطواف بها في الأمصار، ثم إرسالها إلى زوجته في السجن، فإن الستار سيفتح هناك على رأس أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام ليطوف بها جند الباطل. في عالم دق فيه الخذلان أوتاده، ونصب خيامه، وفتح فيه بنو أمية أبواب الفتن التي ليس فيها على يرى على مصارعها.
|