متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
3 - التخاذل
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

3 - التخاذل:

بعد فراغ أمير المؤمنين من أهل النهروان كانت قواته متماسكة، حيث إنه لم يقتل من أصحابه إلا سبعة، وكان النبي صلى الله عليه وآله قد أخبره بعدد القتلى من قواته وقوات أهل النهروان. وقد أخبر أمير المؤمنين قواته بهذا قبل

____________

(1) ابن النجار (كنز العمال 206 / 16).

الصفحة 129
المعركة. وبعد المعركة، ونظرا لأن القوات متماسكة، تحدث أمير المؤمنين في معسكره وقال: إن الله قد أحسن بكم وأعز نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم. فقالوا: يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا، وعاد أكثرها قصدا. فأرجع إلى مصرنا فلنستعد بأحسن عدتنا. ولعلك تزيد في عدتنا عدة من هلك منا، فإنه أوفى لنا علي عدونا (1).

فسمع أمير المؤمنين منهم وأقبل حتى نزل النخيلة، ثم أمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يقلوا زيارة نسائهم وأبنائهم حتى يسيروا إلى عدوهم. فأقام الناس في معسكرهم أياما، وكان أمير المؤمنين يجهز للمعركة في هذه الأيام، ولكن الحال لم يدم على هذا طويلا، فالناس بدؤوا يتسللون من معسكرهم حتى خلا المعسكر. وعندما رأى أمير المؤمنين ذلك، دخل الكوفة وانكسر عليه رأيه في المسير (2). وخطب في الناس تلك الخطبة التي بكر فيها وهو يحثهم على العمل ليلتقي الشعار بالشعور، ثم خطب فيهم مرة أخرى فقال: أيها الناس استعدوا للمسير إلى عدو في جهاده القربة إلى الله ودرك الوسيلة عنده، حيارى في الحق جفاة عن الكتاب، نكب عن الدين يعمهون في الطغيان، ويعكسون في غمرة الضلال، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلا، وكفى بالله نصيرا (3).

ولكن القوم لم ينفروا فتركهم أمير المؤمنين أياما، حتى إذا آيس من أن يفعلوا دعا رؤساءهم ليسألهم عن رأيهم. فقام فيهم خطيبا فقال: عباد الله ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، وبالذل والهوان من العز، أو كلما ندبتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنكم من

____________

(1) الطبري 51 / 6.

(2) الطبري 51 / 6.

(3) الطبري 52 / 6.

الصفحة 130
الموت في سكرة، وكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون، وكأن أبصاركم كمة فأنتم لا تبصرون. لله أنتم، ما أنتم إلا أسود الشرى في الدعة، وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس. ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، ما أنتم بركب يصال بكم ولأذى عز يعتصم إليه. لعمر الله بئس حشاش الحرب أنتم. أنكم تكادون ولا تكيدون، وينتقص أطرافكم ولا تتحاشون، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون. إن أخا الحرب اليقظان ذو عقل وبات لذل من وادع وغلب المتجادلون، والمغلوب مقهور ومسلوب. ثم قال أمير المؤمنين: أما بعد، فإن لي عليكم حقا، وإن لكم علي حقا، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم ما صحبتكم، وتوقير فيئكم عليكم وتعليمكم فيما لا تجهلون وتأديبكم كي تعلموا، وأما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصح لي في الغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، الطاعة حين آمركم. فإن يرد الله بكم خيرا انتزعوا عما أكره، وتراجعوا إلى ما أحب، تنالوا ما تطلبون وتدركوا ما تأملون (1).

إن الخذلان شذوذ قديم ضرب بجذوره في أعماق الأرض، والشيطان في حركته لا يحب شيئا متماسكا. فإذا كان لا بد من التماسك فيجب أن يكون وفقا لبرنامجه. والشيطان عندما يقوم بتفكيك جسد ما فإن أدواته لا بد وأن تكون من صنع البيئة التي يريد أن يفكك جسدها. وأمير المؤمنين وجه إليهم الدعوة، كي يواجهوا حركات التفتيت والتفكيك التي يذيع دعاتها أنهم على قلب رجل واحد ويتوجهون نحو هدف واحد، ولكن القوم تلقوا دعوة الإمام، وهم بين المعتل أو المكره، وقيل منهم من نشط، وفيما بعد جاء التثاقل إلى الأرض بجميع أمراضه، لأن التثاقل فراش ممهد تتحرك فيه أجهزة ومؤسسات الصد بكل سهولة ويسر، فالمتثاقل لا يرد إلا الحياة الدنيا، والشيطان له أساليبه في مخاطبته في هذا الباب. وشاء الله تعالى أن من يتثاقل عن نصرة الحق، خوفا من الموت أو غيره أو طمعا في مال أو غيره، أن يجعله ينفر ويهب عند سماعه بوقا للشيطان، فينتظم في جيشه، ويصطف في خيله ورجله، ويزين له الشيطان هناك أن قتاله

____________

(1) الطبري 52 / 6.

الصفحة 131
قتال حق، وأن المال الذي اكتسبه بمخالبه حلال، وأن حركته في الحياة هي الحركة الصحيحة. فجيش الشيطان لا ينتظم فيه مخلوقات من الكواكب الأخرى، وإنما ينتظم فيه الذين يحملون بين ضلوعهم قلوبا ليست قلوب إنس، ويسيرون نحو أهداف ترفضها الفطرة. ويرفعون أعلام يعتمد مضمونها على الزينة من أجل إغواء الناس ثم السير بهم في طريق التلجيم والاحتناك.

لقد كان الإمام يحذر من التثاقل إلى الأرض، ويدعو الناس كي يأخذوا بالأسباب نحو الحياة الكريمة، وهو خير دليل على ذلك. فهو قد أخبركم بأنه مقتول، والمقتول هو الذي يدعو للقتال. ولكن ذهب نداء الإمام في عالم.

وكأنه عالم السكون، حيث لا ومض ولا نبض ولا صوت إلا من رحم الله، ويقابل هذا العالم عالم آخر يتحرك بالذهب والفضة والتمر، إنه عالم معاوية.

ومعاوية لم يكن بعيدا عن الساحة بعد التحكيم، فلقد أصبح له حضور بعد أن سلم عليه ابن العاص بالخلافة. كانت له عيون في كل مكان، وكان يتابع حركة جيش العراق قبل النهروان وبعدها، لأنه كان على يقين أن عليا لن يتركه وسيأخذ بجميع الأسباب لكي يدمر قشرته. وتدمير القشرة يعني أن الأيام به لن تطول، وهو يريد المزيد والمزيد، لهذا تحرك معاوية في جميع الجبهات، وكانت مقدمته في كل جبهة الذهب والفضة.

وروي أن قوما من المدينة لحقوا بمعاوية. فكتب سهل بن حنيف الأنصاري (1) إلى أمير المؤمنين بذلك، فرد عليه أمير المؤمنين بخطاب جاء فيه: أما بعد. فقد بلغني أن رجالا ممن قبلك يتسللون إلى معاوية، فلا تأسف (2) على ما يفوتك من عددهم، ويذهب عنك من مددهم. فكفى لهم غيا (3) ولك منهم شافيا (4) فرارهم من الهدى والحق،

____________

(1) كان عاملا لعلي على المدينة.

(2) أي لا تحزن.

(3) الغي / الضلال.

(4) أي يكفيك في الانتقام منهم وشفاء النفس من عقوبتهم أنهم يتسللون إلى معاوية.

الصفحة 132
وإيضاعهم (1) إلى العمى والجهل. فإنما هم أهل دنيا مقبلون عليها، ومهطعون (2) إليها. قد عرفوا العدل ورأوه، وسمعوه ووعوه. وعلموا أن الناس عندنا في الحق أسوة، فهربوا إلى الآثرة (3). فبعدا وسحقا (4). إنهم والله لم يفروا من جور، ولم يلحقوا بعدل. وإنا لنطمع في هذا الأمر أن يذلل الله لنا صعبه، ويسهل لنا حزنه، إن شاء الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (5).

وروي أنه لما رأت طائفة من أصحابه ما يفعله معاوية من بذل الأموال لأصحابه والمنقطعين إليه، وتفضيل بعضهم على بعض في العطاء قالوا: يا أمير المؤمنين. إن عامة الناس أصحاب دنيا لها يسعون وفيها يكدحون، فلو أعطيت من هذا المال، وفضلت الأشراف من العرب وقريشا على الموالي، ومن تخاف خلافه وفراقه، حتى إذا استتب لك ما تريد عدت إلى أحسن ما كنت عليه من العدل في الرعية والقسم بالسوية. فقال الإمام: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله لا اطور به (6) ما سمر سمير (7)، وما أم نجم في السماء نجما (8). ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما لمال مال الله؟ ثم. قال:

ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف. وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس، ويهينه عند الله... " (9).

إن المقتول لا يجامل أحدا، المقتول حجة ومهمته هي مهمة الحجة، قال فيه النبي صلى الله عليه وآله: " من أحب عليا فقد أحبني. ومن أحبني فقد

____________

(1) الايضاع / الاسراع.

(2) مهطعون / مسرعون أيضا.

(3) الآثرة / الاستئثار.

(4) فبعدا وسحقا / دعاء عليهم بالبعد والهلاك.

(5) ابن أبي الحديد 234 / 5.

(6) ولا أطور به / لا أقربه.

(7) ما سمر سمير / أي ما أقام الدهر وما بقي.

(8) ما أم نجم في السما نجم / أي قصد وتقدم لأن النجوم تتبع بعضها بعضا.

(9) ابن أبي الحديد 3 / 3.

الصفحة 133
أحب الله. ومن أبغض عليا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله " (1)، وقال صلى الله عليه وآله: " يا علي من فارقني فارق الله ومن فارقك يا علي فارقني " (2). وقال النبي صلى الله عليه وآله: " إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك " (3). وقال صلى الله عليه وآله: " من آذى عليا فقد آذاني " (4).

فهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها، تبين أن الإمام له مهمة واحدة، هي سوق الناس إلى صراط الله وفقا لمنهج الفطرة الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه المهمة لا يشوبها تخاذل الناس عنه، فمن أراد أن يصطف وراء يعسوب المؤمنين فليصطف ومن أراد أن يبحث عن مكان له وراء يعسوب المال فليذهب. وكل طريق له أسبابه. والموعد الذي سيلتقي فيه الجميع (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا * ذلك اليوم الحق، فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) (5).

ولم يترك الإمام بابا يحث الناس فيه على القتال إلا طرقه وحدثهم منه، لقد خوفهم من فتنة بني أمية. فقال: ألا وإن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، فإنها عمياء مظلمة، عمت خطتها، وخصت بليتها. وأصاب البلاء من أبصر فيها، وأخطأ البلاء من عمي عنها. وأيم الله لتجدن بني أمية لكم أرباب سوء بعدي كالناب الضروس، تعدم بغيها. وتخبط بيدها، وتزين برجلها، وتمنع درها، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعا لهم، أو غير ضار بهم، ولا يزال بلاؤهم عنكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربه،

____________

(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي إسناده حسن (الزوائد 132 / 9) وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وقال حديث صحيح (الصحيحة 298 / 5).

(2) رواه البزار (كشف الأستار 201 / 3) وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 135 / 9) ورواه الحاكم وصححه (المستدرك 121 / 3).

(3) رواه الطبراني وقال الهيثمي إسناده حسن (الزوائد 203 / 9).

(4) رواه أحمد وقال الهيثمي رجال أحمد ثقات (الزوائد 129 / 9) ورواه الحاكم وصححه (المستدرك 122 / 3) ورواه البزار بسند صحيح (كشف الأستار 200 / 3).

(5) سورة النبأ: الآية 38 / 39.

الصفحة 134
والصاحب من مستصحبه. ترد عليكم فتنتهم شوهاء فحشية، وقطعا جاهلية.

ليس فيها منار هدى، ولا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة، ولسنا فيها بدعاة. ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الأديم، بمن يسومهم خسفا، ويسوقهم عنفا. ويسقيهم بكأس مصبرة لا يعطيهم إلا السيف. ولا يحلسهم إلا الخوف (1).

لقد خوفهم من مساحة مظلمة وبين لهم أن على رأس هذه المساحة رجل واسع البلعوم. فقال: أما إنه سيظهر عليكم بعدي (2) رجل رحب البلعوم (3)، مندحق البطن (4)، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه. ولن تقتلوه (5)، إلا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني، فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة.

لقد أخبرتكم بصاحب البطن التي لا تشبع، وأنه سيظهر عليكم لأن أتباعه يسيرون نحو غاية واحدة هي المال وهم لا يختلفون عليها. وأمرهم أن يقتلوه ولن يقتلوه. قال ابن أبي الحديد: إنه لا ينافي بين الأمر بالشئ والإخبار عن أنه لا يقع. كما أخبر الحكيم سبحانه عن أن أبا لهب لا يؤمن وأمره بالإيمان. وكما قال تعالى: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) (6)، ثم قال: (ولا يتمنونه أبدا) (7). وأكثر التكليفات على هذا المنهج (8). ولقد تحدثنا على امتداد هذا البحث أن الله سبحانه يهدي إلى صراط مستقيم. ويبين العقبات التي عليها

____________

(1) ابن أبي الحديد 605 / 2.

(2) سيظهر / سيغلب.

(3) رحب البلعوم / واسعه.

(4) مندحق البطن / بارزها.

(5) ابن أبي الحديد 776 / 1.

(6) سورة البقرة: الآية 94.

(7) سورة الجمعة: الآية 7.

(8) ابن أبي الحديد 777 / 1.

الصفحة 135
بصمات شيطانية كي يحذر الناس منها، وفي علمه تعالى أن من عباده من سيقف أمام هذه العقبات باختياره، وقد بهرته زينتها.

وأخبرهم أنه واسع البلعوم سيدعو إلى سبه والبراءة منه، فأباح أمير المؤمنين لهم سبه، لأن الله تعالى قد أباح عند الاكراه التلفظ بكلمة الكفر. أما البراءة فأخبرهم بأنه لا يجوز التبري منه، لأنه منذ ولد لم يواقع قبيحا، ولا كان كافرا طرفة عين قط. ولا مخطئا ولا غالطا في شئ من الأشياء المتعلقة بالدين.

ولقد ثبت أن الذي وجد الدعوة لسب أمير المؤمنين والبراءة منه هو معاوية ابن أبي سفيان، وثبت أيضا أنه المقصود بواسع البلعوم. وذلك لما رواه الإمام مسلم عن ابن عباس. قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فادع معاوية. فلما ذهبت فدعوته له فقيل: إنه يأكل، فأخبرته، فقال في الثالثة: " لا أشبع الله بطنه " قال: فما شبع بعدها (1). وروى ابن أبي الحديد عن جلام قال:

كنت أحب أن أرى أبا ذر، لأنه رجل من قومي. فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب (2) من الرجال، خفيف العارضين في ظهره خبأ (3). فأقبل على معاوية وقال: ما أنا بعدو الله ولا لرسوله (4)، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله، ودعا عليك مرات ألا تشبع. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " إذا ولي الأمة الواسع البلعوم، الذي يأكل ولا يشبع فلتأخذ الأمة حذرها منه "، فقال معاوية: ما أنا ذاك الرجل. قال أبو ذر: بل أنت ذلك الرجل. بل أنت ذلك الرجل، أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله، وسمعته يقول وقد مررت به:

" اللهم العنه ولا تشبعه إلا بالتراب " فكتب معاوية إلى عثمان فيه (5).

____________

(1) رواه مسلم وذكره ابن كثير في البداية 119 / 8.

(2) الضرب / الخفيف اللحم.

(3) خبأ / أي أشرف كاهله على ظهره حدبا.

(4) في سياق الأحداث كان معاوية قد اتهمه بذلك (5) ابن أبي الحديد 94 / 3.

الصفحة 136
وروى البخاري " إن المؤمن يأكل في معي واحد، وإن الكافر أو المنافق يأكل في سبعة أمعاء " (1)، وروى الإمام قال النبي صلى الله عليه وآله: " إن للمنافقين علامات يعرفون بها، تحيتهم لعنة، وطعامهم نهبة (2)، وغنيمتهم غلول... (3) (4).

ومن أطرف ما قرأت في تفسير، " لا أشبع الله بطنه " ما قاله ابن كثير. قال:

وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه، أما في دنياه فإنه لما صار إلى الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات، يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل فيها، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا. ويقول: الله ما أشبع. وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك!! أما في الآخرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة (5)، ولست أدري إذا كان ابن كثير قد اعتبر أن هذا الدعاء: " لا أشبع الله له بطنا "، اعتبره من النعم في الدنيا. فلماذا جعله في الآخرة من السب الذي طلب النبي من ربه أن يجعله كفارة وقربة؟!.

ثم نعود إلى ما كنا نحدث فيه، لقد أخبرهم أمير المؤمنين بمساحة فيها فتن مظلمة، وعلى رأس هذه المساحة رجل واسع البلعوم. وهم كانوا يعرفون وقتئذ من هو، نظرا لأن أبي ذر كان قد كشف غطاءه. فضلا على أن أمير المؤمنين قد أخبرهم في أكثر من موطن بأن معاوية وأهل الشام سيظهرون عليهم، وأن عليهم أن يأخذوا بالأسباب لينظر الله كيف يعملون، ولا يشغلوا أنفسهم بالنتائج لأن لله في خلقه شئون. وعندما لم يجد الإمام منهم الاستجابة

____________

(1) البخاري (الصحيح 293 / 3).

(2) أي اغتصاب.

(3) أي سرقه.

(4) رواه أحمد (الفتح الرباني 232 / 19).

(5) البداية والنهاية 120 / 8.

الصفحة 137
المناسبة قال لهم: أحمد الله على ما قضى من أمر، وقدر من فعل. وعلى ابتلائي بكم أيتها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع، وإذا دعوت لم تجب. إن أهملتم (1) خضتم، وإن حوربتم خرتم (2)، وإن اجتمع أناس على إمام طعنتم، وإن اجئتم إلى شاقة نكصتم (3). لا أبا لغيركم، ما تنتظرون بنصركم، والجهاد على حقكم، الموت أو الذل لكم (4). فوالله لئن جاء يومي - وليأتيني - ليفرقن بيني وبينكم، وأنا لصحبتكم قال: وبكم غير كثير.

لله أنتم، أما دين يجمعكم، ولا حمية (5) تشحذكم، أوليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء (6). وأنا أدعوكم - وأنتم تريكة الإسلام وبقية الناس - إلى المعونة أو طائفة من العطاء (7)، فتتفرقون عني، وتختلفون علي. إنه لا يخرج إليكم من أمري رضا فترضون، ولا سخط فتجتمعون عليه (8). وإن أحب ما أنا لاق إلى الموت. قد دارستكم الكتاب (9)، وفاتحتكم الحجاج (10)، وعرفتكم ما أنكرتم (11)، وسوغتكم ما حججتم (12)، لو كان الأعمى يلحظ، أو النائم

____________

(1) أهملتم / خليتم وتركم.

(2) خرتم / ضعفتم.

(3) نكصتم / أحجمتم.

(4) الموت أو الذل لكم / دعاء عليهم بأن يصيبهم أحد الأمرين.

(5) الحمية / الآنفة.

(6) معاوية لم يكن يعطي جنده على وجه المعونة والعطاء وإنما كان يعطي روؤساء الناس ليستعبدهم بها، ويدعو أولئك السادة أتباعهم فيطيعونهم. فمنهم من يطيعونهم حمية.

ولم يكن يصل إلى هؤلاء الأتباع من أموال معاوية قليل أو كثير.

(7) أمير المؤمنين كان يقسم بين الرؤساء والأتباع على وجه العطاء والرزق.

(8) والمعنى: أنكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئا. سواء كان مما يرضيكم أو مما يسخطكم. بل لا بد لكم من المخالفة والافتراق عنه.

(9) دراستكم الكتاب / أي درسته عليكم.

(10) وفاتحتكم الحجاج / أي حاكمتكم بالمحاجة والمجادلة.

(11) وعرفتكم ما أنكرتم / بصرنكم ما عمى عنكم.

(12) وسوغتكم ما حججتم / أوضحت لكم الأمور الدينية.


الصفحة 138
يستيقظ (1)، وأقرب بقوم من الجهل بالله قائدهم معاوية ومؤدبهم ابن النابغة (2).

لقد أخبرهم بأنهم يتثاقلون إلى الأرض وهم تريكة الإسلام وبقية الناس.

وبين لهم ما هم فيه حيث العدل في العطاء، وتلقي العلم النافع من مصادره النقية، وكان من نتيجة ذلك ظهور ما كانت عقولهم وأذهانهم تنفر عنه من الأمور الدينية، وبعد معرفتهم هذا اعتقدوه، وأخبرهم أنه فعل معهم ما يقتضي حصول الاعتقادات الحقيقية. ولكن أفعالهم تدل على أن الهوى والعصبية والإصرار على اللجاج صفحات عليا في ساحتهم.

ومما لا شك فيه أن بذرة التخاذل وضعت عند رفع المصاحف. فبعد قتل عمار بن ياسر تلقى أهل الشام ضربات قوية ليلة الهرير. وكان الأشتر وقواته على أعتاب خيمة معاوية وفي هذا الوقت رفعت المصاحف ودخل التخاذل عن هذا الباب، وبعد ذلك رأينا الذين أضروا على التحكيم هم أنفسهم الذين قاتلوا عليا لسيره في طريق التحكيم، والعجيب إنهم خرجوا بمقولة طالما روج لها معاوية، لقد أجازوا الخلافة لكل العرب ولكل مسلم ولو كان عبدا حبشيا، ما دامت شروط الإمامة متوفرة فيه. باختصار: بعد رفع المصاحف وضع البيض كله في سلة معاوية. فالخوارج وإن كانت جرائمهم الظاهرة هي القتل والتخريب، إلا أن عقيدتهم قبل رفع المصاحف لم تكن بحال هي نفس العقيدة بعد ذلك. وأغلب الظن أنهم عندما خالفوا الإمام وهددوه بالقتل إذا لم يقبل التحكيم وأن ذي الثدية بدأ يعمل في هذا الوقت بالذات. ثم وضع لمساته على اعتقاداتهم بعد ذلك.

لتلتقي هذه اللمسات مع لمسات الذين سيتخذون دين الله دغلا تحت إذاعة واحدة وإعلام واحد، مما ساعد إلى حد كبير في التخاذل عن أمير المؤمنين.

إن علماء الأمة أقروا أحاديث تقول بأن ذي الثدية كان شيطان الردهة، وأقروا أحاديث تذم بني أمية وأنهم ملوك من شر الملوك. وعقيدة الخوارج في

____________

(1) أي أني قد فعلت معكم ما يقتضي حصول الاعتقادات الحقيقية في أذهانكم.

(2) ابن أبي الحديد 417 / 3.

الصفحة 139
الخلافة معروفة، وهي تنسجم إلى حد كبير مع الذين فرقوا دينهم شيعا. لهذا قلنا إن التخاذل وضعت بذرته عند رفع المصاحف، وإن الإمام علم هذا منذ البداية ولهذا أمرهم بالقتال. فلما أبوا عليه بدأ يضع حجته على كل رأس وفي كل خيمة، وعندما تبين الجميع نتيجة الخدعة، دعاهم الإمام إلى أمرة الله، ولكن دعوته واجهت ساحة أوسع من التخاذل، نتيجة لإعلام لم يعد يتحدث عن رفع المصاحف، وإنما يتحدث عن تحكيم أعطى الخلافة لمعاوية، يقابله إعلام الخوارج الذي دق وتدا فيه أن الخلافة لكل العرب.

وبذرة التخاذل عندما وضعت وجدت من يرعاها. وهناك دائرتان خرج منهما الماء لهذه البذرة:

الأولى: أن الله تعالى جعل للشهادة في سبيله مقاييس ومعايير، وجعل الجنة للمؤمنين من عباده، والطريق إلى الجنة يمر بابتلاءات وامتحانات عديدة.

وكلما كانت الأجيال قريبة من عهد النبوة كانت الابتلاءات أقوى وأشد. وفي عهد الإمام علي كان الإمام يحدث أتباعه بأن معاوية سيظهر عليهم وأن هذا أمرا لا مرد له. ثم يأمرهم الإمام بعد ذلك بأن يأخذوا بالأسباب لوقف هذه الفتنة التي هي نتيجة لمقدمة أوجدتها. فموقف كهذا لا يحتاج إلا إلى قلب مؤمن يعلم أن الغيب لله وأن الأخذ بالأسباب تكليف إلهي للإنسان. لهذا فلا بد أن يأخذ به، وأن معركته لن تكون بحال معركة خاسرة رغم ظهور عدوه في نهايتها، وأنه قد لا يشهد انتصاره، ولكن بالتأكيد ستأتي أجيال تذكر أعلامه وخطاه. وعلى ذلك قاتل العديد حول الإمام، كانوا يقاتلون بأمر الله عدوا ما زال في علم الله بهدف حماية الفطرة، للوصول إلى غاياتهم العليا بعد الموت، فهنا يكمن الإيمان الحق، إيمان الأحرار لا إيمان التجار.

وفي عهد الإمام علي، كان الاختيار عظيما. فعلى مدى سنتين تقريبا خاض الإمام ثلاث معارك، كان لكل معركة منهم حصيلتها من أحاديث الإخبار بالغيب. وعندما قتل أكثر الصحابة في هذه المعارك أخذ أماكنهم رؤساء القبائل.

ومنهم من أبلى وقاتل ابتغاء مرضاة الله، ومنهم من كتب إلى معاوية بعد أن علم أنه سيظهر والتمس عنده الأيادي. وأغلب الظن أن الخوارج خرجوا من بطن

الصفحة 140
واحد من هؤلاء. وباختصار: اتباع هذه الدائرة هم ضعاف الإيمان، الإيمان عندهم صورة وليس عمل. وجدوا أن المعركة لها تكاليف وهم ليسوا على استعداد لدفع هذه التكاليف. ثم أعد لهم منهجا للحكم يزاحموا به معاوية عندما يظهر، فهم بإيمانهم يكونوا في دائرة الحكم أفضل من وجودهم خارجها.

أما الدائرة الثانية التي ساعدت على التخاذل، فهي دائرة الذهب والفضة والزبيب. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " علي يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين " (1)، وكان علي يقول: " أنا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الفجرة "، وفي رواية: " والمال يعسوب الظلمة " (2)، ولقد ذكرنا فيما سبق كيف فر أقوام من المدينة في اتجاه معاوية، وهناك العديد من الأمثلة في تفضيل أكثر الناس للمال في فترة التخاذل. وروي أن عليا قال لرجل: أآثرتم معاوية. فقال: ما آثرناه، ولكنا آثرنا القسب (3) الأصفر والبر الأحمر والزيت الأخضر.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net