2 - قتال المارقين:
روي أنه لما بلغ عليا ما كان من أمر أبي موسى وعمرو قال: إني كنت تقدمت إليكم في هذا الحكومة ونهيتكم عنها، فأبيتم إلا عصياني، فكيف رأيتم عاقبة أمركم إذ أبيتم علي؟ والله إني لأعرف من حملكم على خلافي، والترك لأمري، ولو أشاء أخذه لفعلت، ولكن الله من ورائه (1)، وكنت فيما أمرت به كما قال أخو بني جشم (2).
أمرتهم أمري بمتعرج اللوى (3) * فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
من دعا إلى هذه الحكومة فاقتلوه قتله الله، ولو كان تحت عمامتي هذه.
إلا أن هذين الرجلين الخاطئين اللذين اخترتموهما حكمين قد تركا حكم الله، وحكما بهوى أنفسهما بغير حجة ولا حق معروف، فأماتا ما أحيا القرآن وأحيا ما أماته، واختلف في حكمهما كلامهما، ولم يرشدهما الله ولم يوفقهما، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. فتأهبوا للجهاد، واستعدوا للمسير، وأصبحوا في عساكركم إن شاء الله تعالى (4).
ثم كتب أمير المؤمنين إلى الخوارج الذين اعتزلوه: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس، أما بعد:
فإن هذين الرجلين اللذين ارتغبنا حكمهما قد خالفا كتاب الله واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله ورسوله منهما والمؤمنون، فإذا بلغكم كتابي هذا، فاقبلوا فإنا سائرون إلى عدونا
____________
(1) قال المسعودي: يريد بذلك الأشعث بن قيس والله أعلم.
(2) عند أبي الحديد، " أخو هوزان " 411 / 1.
(3) اللوى / ما النوى من الرمل.
(4) مروج الذهب 446 / 2، ورواه باختصار: الكامل 171 / 3، البداية والنهاية 287 / 7، ابن أبي الحديد 454 / 1، الطبري 43 / 6، الأغاني 9 / 5.
وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه والسلام (1).
فكتبوا إليه: أما بعد فإنك لم تغضب لربك، إنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين (2)، وهكذا خاطب أتباع الشيطان أمير المؤمنين. لقد رموا إمام المتقين (3) بالكفر. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أنهم لا يعلمون من الإسلام إلا اسمه، وتحت هذا الاسم ساروا وراء أمير المؤمنين، ليأكلوا باسم الشعار، وعندما رفع أهل الشام المصاحف وجدوا أنفسهم في الشعار وليس في الشعور، وطالبوا الإمام بوقف القتال. وعندما انتهى القتال بطلب التحكيم راح الذين يقرؤون القرآن ولا يجاوز تراقيهم يوزعون الأخطاء. وها هم يرمون أمير المؤمنين بالكفر، وعندما نقول بأنهم أتباع الشيطان فإن هذا القول حق، لأن أمير عسكرهم كان عبد الله بن وهب الراسبي، وهو المعروف لهم اسما ونسبا، أما الأستاذ الذي يغذيهم بالعلوم فهو شيطان الردهة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في حياته بقتله عندما شاهده أبو بكر، وقد ذهب كل من أبي بكر وعمر ليقتلاه ولكن خشوعه غرهما فلم يقتلاه، فأمر النبي صلى الله عليه وآله عليا أن يقتله وعندما ذهب علي لم يجد هذا الشيطان. وأخبر النبي صلى الله عليه وآله عليا بأنه سيقتله عند قتال المارقين. ولقد تحدثنا عن ذو الثدية وأمر النبي بقتله من قبل.
وأمير المؤمنين حاول بكل جهده أن يفصل الاتباع عن سيدهم، فكاتبهم وبعث إليهم بعبد الله بن عباس ثم ذهب إليهم بنفسه كي يعودوا إلى الحق، ولكنهم أبوا إلا الركون لما تلقيه الشياطين. وبعد أن يأس منهم تركهم، وكتب إلى أمراء الأنصار بالاستعداد لقتال أهل الشام. ومما جاء في كتابه إليهم: أما بعد، فإن من ترك الجهاد في الله وأدهن في أمره، كان على شفا هلكة إلا أن
____________
(1) الطبري 44 / 6، الكامل 171 / 3.
(2) الطبري 44 / 6، الكامل 171 / 3، البداية والنهاية 287 / 7.
(3) الطبري 48 / 6، الكامل 171 / 3.
يتداركه الله بنعمة، فاتقوا الله وقاتلوا من حاد الله وحاول أن يطفئ نور الله.
قاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين المجرمين، الذين ليسوا بقراء للقرآن، ولا فقهاء في الدين، ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام، والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، تيسروا وتهيئوا للمسير إلى عدوكم (1).
وما أن بدأ الحشد لمواجهة أهل الشام، حتى بدأت قوات الخوارج تتحرك في الداخل وتثير المتاعب في العديد من المناطق. وكأن بينهم وبين أهل الشام عقد غير منظور يقضي بتشتيت قوات أمير المؤمنين. وهناك أدلة على ذلك تستشف من سير الحوادث، ونتيجة للعمليات التخريبية للخوارج قال الناس في معسكر أمير المؤمنين: لو سار بنا أمير المؤمنين إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم ثم نسير بعد ذلك إلى الشام. وعندما علم أمير المؤمنين بما يقوله الناس خطب وحرضهم على الجهاد وقال: سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار قدما، فإنهم سعوا في إطفاء نور الله، وحرضوا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه. ألا إن رسول الله أمرني بقتال القاسطين، وهم هؤلاء الذين سرنا إليهم، والناكثين وهم هؤلاء الذين فرغنا منهم، والمارقين ولم نلقهم بعد.
فسيروا إلى القاسطين، فهم أهم علينا من الخوارج. سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين يتخذهم الناس أربابا، ويتخذون عباد الله خولا ومالهم دولا (2).
وفي الوقت الذي يحرض فيه أمير المؤمنين أتباعه على القتال، كان الخوارج قد اجتمعوا في أربعة آلاف وبايعوا عبد الله بن وهب الراسبي، وتحركوا حتى نزلوا المدائن، وجاؤوا بعبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وعامل علي عليها، وضربوا عنقه وبقروا بطن امرأته وكانت حاملا. وقتلوا
____________
(1) الطبري 44 / 6.
(2) مروج الذهب 449 / 2، الكامل 174 / 3.
غيرها من النساء (1)، وعندما علم أمير المؤمنين بأخبار هذه المجزرة، بعث إليهم بالحارث بن مرة العبدي ليتحقق من صحة هذه الأخبار. وما أن وصل الحارث إليهم حتى قتلوه، وأتى الخبر أمير المؤمنين والناس، فقام إليه الناس وقالوا: يا أمير المؤمنين. علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا.
سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام (2).
ونادى مناد أمير المؤمنين بالذهاب إلى قتال الخوارج.
ويبدو أن هناك إذاعة أخذت على عاتقها زعزعت النفوس من قتال الخوارج، على اعتبار أنهم قراء ويصلون ويصومون. وهذه الإذاعة وصلت حتى المدينة المنورة فعن أبي سعيد الرقاشي قال: دخلت على عائشة فقالت: ما بال أبي الحسن يقتل أصحابه القراء (3)، وعن أبي كثير قال: كنت مع سيدي علي بن أبي طالب حتى قتل أهل النهروان. فكأن الناس وجدوا في أنفسهم من قتلهم (4).
فهذا وغيره يدل على أن هناك إذاعة كانت تخذل الناس عن قتال الخوارج. وبعد القتال وعندما أعلنت إذاعة أمير المؤمنين أن عليا قتل ذو الثدية أو شيطان الردهة. بدأت أم المؤمنين عائشة تحدث بأحاديث النبي صلى الله عليه وآله فيما يختص بفضل العصابة التي تقتل شيطان الردهة. كما بدأ الذين وجدوا في أنفسهم من قتلهم يستبشروا ويذهب عنهم ما كانوا يجدون.
وروي أن أمير المؤمنين علي عندما تحرك بقواته في اتجاه الخوارج كان يسير بجانبه جندب الأزدي فقال أمير المؤمنين: يا جندب. أترى تلك الرابية؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أنهم يقتلون عندها (5)، وكان طليق بن علي اليمامي يقول: قال النبي
____________
(1) الطبري 46 / 6، مروج الذهب 449 / 2، الكامل 174 / 3.
(2) الطبري 47 / 2، الكامل 174 / 3.
(3) رواه ابن أبي عاصم (كتاب السنة 599 / 2).
(4) رواه الإمام أحمد والحميدي والعدني (كنز العمال 229 / 11).
(5) رواه ابن عساكر (كنز العمال 302 / 11).
صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يجئ قوم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، طوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه، أما إنهم سيخرجون بأرض قومك يا يمامي يقاتلون بين الأنهار، قال قلت: بأبي أنت وأمي ما بها أنهار قال: إنها ستكون (1).
وهكذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله بهذه الأنماط البشرية. أخبر بمجيئهم وقتالهم بين الأنهار في وقت لم يكن هناك وجود للأنهار، ثم دل علي بن أبي طالب على رابية في هذه الأرض وأخبره بأنهم عندها يقتلون. إنه الإخبار بالغيب عن الله، الإخبار بخطوات الشيطان قبل أن تظهر آثارها على الأرض. إن الإخبار بالغيب حصار للشيطان وانتصار للإنسان، ولكن أكثر الناس لا يعقلون. وروي أن أمير المؤمنين عندما أتى أهل النهروان وقف عليهم فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق والهوى، وطمح بها النزق، وأصبحت في اللبس والخطب العظيم. إني نذير لكم أن تصبحوا تلفيكم الأمة غدا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، بغير بنية من ربكم ولا برهان بين. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن ومكيدة لكم، ونبأتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منكم، عرفتهم أطفالا ورجالا، فهم أهل المكر والغدر، وإنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم فعصيتموني حتى إذا أقررت بأن حكمت، فلما فعلت شرطت واستوثقت فأخذت على الحكمين إن يحييا ما أحيا القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة. فنبذنا أمرهما ونحن على أمرنا الأول. فما الذي بكم ومن أين أتيتم؟ قالوا: إننا حكمنا فلما حكمنا أثمنا وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن معك. وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
فقال أمير المؤمنين: أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر. أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله. أشهد
____________
(1) رواه الطبراني (كنز العمال 208 / 11).
على نفسي بالكفر. لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. ثم انصرف عنهم (1).
واصطف الفريقان، ورفع أبو أيوب الأنصاري راية الأمان ونادى: من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن. ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن. وعندما سمعوا النداء انصرف بعضهم إلى الكوفة والبعض الآخر إلى الدسكرة وخرج منهم إلى علي نحو من مائة (2). وأمر علي بأن يكفوا عنهم حتى يبدؤهم (3)، ورمى الخوارج بالسهم الأول ونادوا الرواح الرواح إلى الجنة وشدوا على الناس والخيل (4).
وبدأ الخوارج يتساقطون حول الرابية التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله بأنهم يقتلون عندها، وقتل قادتهم وعلى رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي (5)، وفي نهاية المعركة خرج علي بن أبي طالب يطلب من أصحابه أن يبحثوا له عن ذي الثدية بين القتلى ووصفه لهم. فقال بعضهم: ما نجده. فقال أمير المؤمنين:
والله ما كذبت ولا كذبت اذهبوا فابحثوا عنه، فوجدوه على الوصف الذي وصفه علي (6)، في حفرة على شاطئ النهر في أربعين أو خمسين قتيلا، فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة. له حلمة عليها شعيرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي طول يده الأخرى، ثم تترك فتعود إلى منكبه كثدي المرأة. فلما استخرج قال علي: الله أكبر والله ما كذبت ولا كذبت، أما والله لولا أن تنكلوا عن العمل. لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله لمن قاتلهم مستبصرا في قتالهم. عارفا للحق الذي نحن
____________
(1) الطبري 48 / 6.
(2) الطبري 49 / 6.
(3) الطبري 49 / 6.
(4) الطبري 49 / 6.
(5) الطبري 49 / 6.
(6) روى مسلم عن أبي سعيد قال: أشهد أن عليا قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي نعت (صحيح مسلم 167 / 7).
عليه. ثم مر أمير المؤمنين على خوارج وهم صرعى وقال: بؤس لكم، لقد ضركم من غركم!! فقال الناس: يا أمير المؤمنين من غرهم؟ قال: الشيطان وأنفس بالسوء إمارة غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي. ونبأتهم أنهم ظاهرون (1) ثم وقف أمير المؤمنين على ذي الثدية وسأل الناس: من أبوه؟
فجعل الناس يقولون بعد أن اختاروا في اسم أبيه ولم يعرفه أحد منهم: هذا ملك! هذا ملك، فقال علي: ابن من هو؟ فلم يجيبوه، فقال: أما إن خليلي صلى الله عليه وآله أخبرني بثلاثة إخوة من الجن هذا أكبرهم، والثاني له جمع كثير، والثالث فيه ضعف (2). وفي رواية - قال علي: أيكم يعرف هذا، فقال رجل من القوم هذا حرقوص. أمه ههنا. فأرسل إلى أمه وقال لها: ممن هذا؟
قالت: ما أدري إني كنت في الجاهلية أرعى غنما لي بالربذة، فغشيني شئ كهيئة الظلمة فحملت سنة فولدت هذا (3).
وعندما طار الخبر إلى الآفاق، قال سعد بن أبي وقاص: قتل علي بن أبي طالب شيطان الرهة (4). وعن أبي سعيد الرقاشي قال: دخلت على عائشة فقالت: ما بال أبي الحسن يقتل أصحابه القراء. قال قلت: يا أم المؤمنين إنا وجدنا في القتلى ذا الثدية. فشهقت أو تنفست ثم قالت: كاتم الشهادة مع شاهد الزور. سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يقتل هذه العصابة خير أمتي (5) - وفي رواية - هم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي (6) - وفي رواية - هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة (7).
من هذا كله رأينا أن اتباع الشعار الذي لا شعور فيه، الذين يأكلون الدين
____________
(1) الطبري 50 / 6، مروج الذهب 452 / 2.
(2) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الفتح الرباني 156 / 23).
(3) أخرجه أبو يعلى (الخصائص الكبرى 250 / 2).
(4) البداية والنهاية 298 / 7.
(5) رواه ابن أبي عاصم (كتاب السنة 599 / 2.
(6) رواه البزار (فتح الباري 286 / 12).
(7) رواه الطبراني (فتح الباري 286 / 12).
بالدين، ويقرؤون القرآن وتقف تلاوتهم عند أنيابهم ولا تعلم قلوبهم عنها شيئا.
فهؤلاء اصطفوا وراء شيطان من شياطين الجن. وأنفس أمارة بالسوء تمنطق أصحابها بجلود آدمية. ولقد روى الإمام مسلم: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون، فيقول الرجل منهم:
سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث (1). وروى ابن عساكر:
سيكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس " (2).
إن أتباع اللاشعور واللادعوة عبدوا كل شئ حتى ذواتهم. فاهتموا بصورهم واشتغلوا بها ولم يفقهوا قول النبي صلى الله عليه وآله: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم " (3). ولقد استهدف الشيطان قلوبهم حتى أنهم لم يجدوا حرجا في تكفير أمير المؤمنين الذي هو من النبي بمنزلة هارون من موسى إلى النبوة، ولم يترك الشيطان لهم إلا ما على جلودهم وهي المساحة التي لا ينظر الله إليها.
وهذا الصنف من الناس لم يستأصل في موقعة النهروان، وإنما توجد لهم بصمات على امتداد التاريخ روي أنه لما قتل الخوارج قيل لأمير المؤمنين: هلك القوم بأجمعهم، فقال: كلا والله إنهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلما نجم منهم قرن قطع، حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله قال: " لا يزالوا يخرجون حتى يخرج آخرهم من الدجال " (4)، وهكذا استقر بهم المطاف. لقد التقطهم الدجال أعظم الفتن منذ ذرأ الله ذرية آدم، وهذا عدل الله. إنهم رفضوا أمير المؤمنين عند المقدمة. فرفضهم الطهر عند الخاتمة. لأنهم رجس لا ينبغي أن يناموا إلا عند دجال ليزيدهم الله رجسا
____________
(1) رواه مسلم (صحيح 9 / 1).
(2) رواه ابن عساكر (كنز العمال 223 / 11).
(3) رواه مسلم (كشف الخفاء 282 / 1).
(4) رواه أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 299 / 6).
على رجسهم.
وبعد أن فرغ أمير المؤمنين من قتال الخوارج، خطب في الناس وحثهم على العمل ليلتحم الشعار بالشعور. وروي أنه صعد المنبر بعد فراغه من النهروان، فحمد الله، وخنقته العبرة فبكى حتى اخضلت لحيته بدموعه وجرت، ثم نفض لحيته فوغ رشاشها على ناس من أناس، فكانوا يقولون: إن من أصابه من دموعه فقد حرمه الله النار، ثم قال: يا أيها الناس. لا تكونوا ممن يرجوا الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول أمل، يقول في الدنيا قول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، إن أعطي منها لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ويأمر ولا يأتي، وينهى ولا ينتهي، ويحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم، ويبغض الظالمين وهو منهم.
تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن، إن استغنى فتن، وإن مرض حزن، وإن افتقر قنط ودهن، فهو بين الذنب والنعمة يرتع، يعافى فلا يشكر، ويبتلي فلا يصبر. كأن المحذر من الموت سواه، وكأن من وعد وزجر غيره يا أغراض المنايا، يا رهائن الموت، يا وعاء الأسقام، يا نهبة الأيام، ويا ثقل الدهر، ويا فاكهة الزمان، ويا نور الحدثان، ويا خرس عند الحجج، ويا من غمرته الفتن وحيل بينه وبين معرفة العبر بحق، أقول: ما نجا من نجا إلا بمعرفة نفسه، وما هلك من هلك إلا من تحت يده. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) جعلنا الله وإياكم ممن سمع الوعظ فقبل، ودعى إلى العمل فعمل (1).
|