متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
5 - القتال
الكتاب : معالم الفتن ج2    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

5 - القتال:

قبل أن يتوجه معاوية إلى صفين، كان قد صالح ملك الروم على مال

____________

(1) لامرئ القيس، علياء / قاتل والد امرئ القيس، الجريص / الذي يؤخذ بريقه، صفر الوطاب / كناية عن القتل.

(2) ابن أبي الحديد 478 / 2.

الصفحة 77
يحمله إليه لشغله بعلي (1). والذي أشار عليه بالتقريب إلى الروم لتفرغ لعلي هو عمرو بن العاص (2)، وعندما توجه إلى صفين حاول السيطرة على مصادر المياه، ولكن خطته باءت بالفشل أمام قوات أمير المؤمنين عليه السلام. وعندما اصطف الفريقان قبل القتال يقول ابن عباس: عقم النساء أن يأتين بمثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والله ما رأيت ولا سمعت رئيسا يوزن به. رأيت في هذا اليوم عليا وعليه عمامة بيضاء وكأن عينيه سراجا سليطا (3)، وهو يقف على طوائف الناس في مراتبهم يحثهم ويحرضهم، حتى انتهى إلي وأنا في كثيف (4) من الناس. فقال: يا معشر المسلمين، عموا الأصوات، وأكملوا اللامة (5)، واستشعروا الخشية، وافلقوا السيوف في الأجفان قبل السل، والحظوا الشزر (6)، واطعنوا الهبر (7)، ونافحوا (8) بالظبأ (9)، وصلوا السيوف بالخطا (10)، والنبال بالرماح، وطيبوا عن أنفسكم، فإنكم بعين الله، ومع ابن عمر رسول الله، عاودوا الكر، واستقبحوا الفر، فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب، ودونكم هذا السواد الأعظم، والرواق (11) المطنب (12)، فاضربوا نهجه، فإن الشيطان راكب صعيده، مفترض ذراعيه، قد قدم للوثبة يدا وأخر

____________

(1) مروج الذهب 418 / 2.

(2) الطبري 186 / 6.

(3) السراج السليط / المتقد بالزيت الجيد.

(4) كثيف / أي حشد وجماعة.

(5) اللامة / الدرع.

(6) الشزر / النر بمؤخرة العين.

(7) الهبر / اللحم الكثير.

(8) نافخوا / دافعوا.

(9) الظبأ / حد السيف.

(10) الخطا / الرمي بالسهام.

(11) الرواق / ما بين يدي البيت.

(12) المطنب / المشدود.

الصفحة 78
للنكوص (1) رجلا، فصبر جميل حتى تنجلي عن وجه الحق، وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم، وتقدم أمير المؤمنين على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء " (2).

ومن آراء أمير المؤمنين قبل القتال روي أنه قال: لا تقتلوا القوم حتى يبدؤكم. فأنتم بحمد الله عز وجل على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤكم حجة أخرى لكم. فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم، فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريج، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل. فإذا وصلتم إلى رحال القوم، فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا إلا بإذن، ولا تأخذوا من أموالهم إلى ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهجوا امرأة بأذى - وإن شتمن أعراضكم وسبين أمراءكم وصلحاءكم فإنهم ضعاف القوى والأنفس (3).

وبعد هذه التعليمات الرفيعة المستوي، نادي أمير المؤمنين: يا كهيعص (4) اللهم إليك رفعت الأبصار وبسطت الأيدي، ونقلت الأقدام، ودعت الألسن، وأفضت القلوب، وتحوكم إليك في الأعمال، فاحكم بيننا وبينهم بالحق، وأنت خير الفاتحين. اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا، وقلة عددنا، وكثرة عدونا، وتشتت أهوائنا، وشدة الزمان، وظهور الفتن، فأعنا على ذلك بفتح منك تعجله، ونصر به سلطان الحق وتظهره (5).

وبعد أن فرغ أمير المؤمنين، روي عن الحارث أنه قال: رأيت بعيرا من أهل الشاء جاء وعليه راكبه وثقله (6) فألقى ما عليه، وجعل يتخلل الصفوف إلى علي بن أبي طالب. فجعل شفره فيما بين رأس علي ومنكبه، وجعل يحركها

____________

(1) النكوص / الفرار والهرب.

(2) مروج الذهب 420 / 2، ابن عساكر (كنز العمال 347 / 11).

(3) الطبري 6 / 6، ابن أبي الحديد 757 / 1.

(4) ابن أبي الحديد 209 / 2.

(5) ابن أبي الحديد 209 / 2.

(6) ثقله / حملة.

الصفحة 79
بجرانه، فقال أمير المؤمنين: والله إنها للعلامة بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم (1). وروي كان درع علي بن أبي طالب لا ظهر لها. فقيل له في ذلك، فقال: إذا استمكن عدوي من ظهري فلا يبقى (2). وروي إنه كان بعد المعركة وفي نهاية كل يوم كان يظهر في إزار ورداء. فقيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشي في إزار ورداء؟! فقال: أبا لموت تخوفوني؟! فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط علي (3).

ولم يكن هدف الإمام القتل، وإنما إقامة الحجة، وفتح طريق الهداية أمام الذين وقعوا تحت تأثير الإعلام الأموي، وكان هذا الإعلام قد بث في الناس أن عليا لا يصلى وأنه قتل عثمان، وإذا وقع في يده أسير فإن عليا يقتله صبرا. ومن معالم إقامة الحجة أثناء المعركة على الذين سقطوا ضحية للإعلام الأموي. روي أن عليا أتي بأسير يوم صفين، فقال له الأسير: لا تقتلني صبرا، فقال الإمام: لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العاملين، وخلى سبيله، ثم قال له: أفيك خير يتابع (4).

وروي أن شابا من معسكر معاوية أنشد:

أنا ابن أرباب الملوك غسان * والدائن اليوم بدين عثمان
نبأنا قراؤنا بما كان * أن عليا قتل ابن عفان

وظل الشاب يشتم ويلعن، فلقيه هاشم بن عتبة وكان من أصحاب علي فقال له: يا هذا إن الموقف وما أردت به. قال: فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي، وأنتم لا تصلون أيضا. وأقاتلكم لأن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم ساعدتموه على قتله، فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان، إنما قتله أصحاب محمد وأبناء الصحابة وقراء الناس، حين أحدث الأحداث وخالف حكم

____________

(1) رواه أبو نعيم وابن عساكر (كنز العمال 350 / 11)، (الخصائص الكبرى 234 / 2).

(2) العقد الفريد 209 / 1.

(3) العقد الفريد 119 / 1. وابن كثير بلفظ آخر (البداية 265 / 7.

(4) رواه الشافعي والبيهقي (كنز العمال 348 / 10).

الصفحة 80
الكتاب!! وهم أهل الدين وأولى بالنظر في أمور الناس منك ومن أصحابك...

وأما قولك إن صاحبنا لا يصلي، فهو أول من صلى، وأفقه خلق الله في دين الله، وأولى بالرسول، وأما كل من ترى معي فكلهم قارئ لكتاب الله، لا ينام الليل تهجدا، فلا يغوينك عن دينك هؤلاء الأشقياء المغرورون. فقال له الفتى: يا عبد الله إني أظنك أمرأ صالحا فتخبرني، هل تجد لي من توبة؟ قال هاشم: نعم يا عبد الله تب إلى الله يتب عليك فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحب المتطهرين. فرجع الفتى. فقال له أهل الشام: خدعك العراقي، خدعك العراقي. قال: لا ولكن نصح لي (1).

وروي أن معاوية بعث وفدا ليستلم القتلى، فقابل الإمام علي هذا الوفد وقال لهم: معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من الأحزاب، لم يزل حربا لله ورسوله هو وأبوه، حتى دخلا في الإسلام كارهين، ولا عجب إلا من انقيادكم له وتتركون آل بيت نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم. ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإماتة الباطل وإحياء الحق ومعالم الدين. فقالوا: تشهد أن عثمان قتل مظلوما. قال: لا أقول أنه قتل مظلوما ولا ظالما. فقالوا: الذي لا يتبرأ من قتل عثمان نحن نتبرأ منه (2). فتلى الإمام (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين. وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم أن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) (3).

ولم يكتف الإعلام الأموي بهذه النتيجة، وهذا الحشد من الذين صلوا الجمعة يوم الأربعاء. وإنما جلسوا على أرض صفين يشتمون الإمام، ليثبتوا الباطل داخل الجماجم الآدمية، ليشق الباطل طريقه في عالم الاحتناك، روي أن الإمام مر على جماعة من أهل الشام فيها الوليد بن عقبة وهم يشتمونه فخبر

____________

(1) الطبري 23 / 6، الكامل 159 / 3.

(2) الكامل 148 / 3.

(3) سورة الروم: الآية 52،، 53.

الصفحة 81
بذلك، فوقف فيمن يليهم من أصحابه. فقال: انهضوا إليهم عليكم السكينة والوقار، وقار الإسلام وسيما الصالحين، فوالله لأقرب قوم من الجهل قائدهم ومؤذنهم معاوية، وابن النابغة، وأبو الأعور السلمي، وابن أبي معيط شارب الخمر المجلود جلدا في الإسلام. وهم أولى من يقومون فينتقصونني ويجذبونني. وقبل اليوم ما قاتلوني وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام، وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام، الحمد الله قديما عاداني الفاسقون فعبدهم الله، ألم يفتحوا؟ إن هذا لهو الخطب الجليل، إن فساقا كانوا غير مرضيين وعلى الإسلام وأهله متخوفين. خدعوا شطر هذه الأمة. وأشربوا قلوبهم حب الفتنة ما استمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان. قد نصبوا لنا الحرب في إطفاء نور الله عز وجل، اللهم فافضض خدمتهم، وشتت كلمتهم، وأبسلهم بخطاياهم، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت (1).

لقد جلسوا على الطرقات يشتمون، فإذا أمير المؤمنين يصدر أوامره لاتباعه: انهدوا إليهم عليكم السكينة والوقار، وقار الإسلام وسيما الصالحين!!

فأي فرق بين هذا وذاك!؟ لقد كان عليه السلام في قتاله يقود الناس إلى صراط الله العزيز الحميد، رغم ضراوته في القتال. كان يقيم الحجة أولا ثم يضرب بكل قوة أصحاب الرقاب الغليظة الذين يشيدون الطرق نحو سنن اليهود والنصارى، حتى لا يقذفون بالأمة في دروبها المظلمة، وبقدر صمود الناس من حوله تكون قوة الضربات. روي أنه كان في صفين لا يرجع حتى يخصب سيفه، وأنه حمل ذات يوم على أعدائه فلم يرجع حتى انثنى سيفه، فألقاه إليهم وقال:

لولا أنه انثنى ما رجعت (2). وذكر علماء التاريخ وغيرهم أنه بارز في أيام صفين، وقتل خلقا حتى ذكر بعضهم أنه قتل خمسمائة (3). وكانت أقوى ضرباته بعد أن قتل عمار بن ياسر. وروي أنه في يوم من أيام صفين، قال الناس: إن

____________

(1) الطبري 25 / 6.

(2) البداية والنهاية 294 / 7.

(3) البداية والنهاية 264 / 7.

الصفحة 82
معاوية قد مات. فقال أمير المؤمنين: قد أكثرتم من نعي معاوية، والله ما مات، ولا يموت حتى يملك ما تحت قدمي. وإنما أراد ابن آكلة الأكباد أن يعلم ذلك مني، فبعث من يشيع ذلك فيكم، ليعلم ويتيقن ما عندي فيه، وما يكون من أمره في المستقبل من الزمان. ثم ذكر أمير المؤمنين ما يكون من أمر معاوية وذكر الحجاج وما يسومهم من العذاب. فارتفع الضجيج. فقال رجل: إن ذلك كائن؟

قال الإمام: والله إن ذلك لكائن. فقال آخر: متى يكون؟ قال: إذا خضبت هذه من هذه - ووضع إحدى يديه على لحيته والأخرى على رأسه - وأكثر الناس من البكاء فقال: لا تبلوا في وقتكم هذا. فستبكون بعدي طويلا. وبعد أن حدثهم الإمام، كاتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية سرا في أمورهم. واتخذوا عنده الأيادي (1).

هنا تكمن حقيقة الابتلاء، وهنا ترى حركة التاريخ، فالإمام يقاتل بضراوة وهو يعلم أنه مقتول وأن معاوية سيملك ما تحت قدمه، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يجاهد ويحذر وهو يعلم أن غلمان قريش سينزون على منبره نزو القردة، وكان ينادي بوحدة الأمة وهو يعلم أنها ستفترق إلى أكثر من سبعين شعبة، وكان يحذر من اتباع اليهود والنصارى وهو يعلم أن مساحة كبيرة من الأمة ستتبعهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، والإمام علي من بايعه الناس وهو يخوض حروبا فتحوها عليه من كل جانب. ومع ذلك لم يهمل الاصلاح وإقامة الحجة وحشد الحشود، وهو يعلم أن الحشود من حوله ستنفض، ثم تأتيه ضربة من أشقى الناس فتخضب لحيته من رأسه، فما معنى هذا؟ لقد ذكرنا في هذا الكتاب أن كليات الدين موجودة في فطرة الإنسان نفسه، وهذه الفطرة تهدي الإنسان إلى صراط الله العزيز. ومعنى أنها تهديه إلى طريق وإن هناك طريقا آخر يحمل معالم أخرى لا تهدي إلى صراط الله العزيز. ودائرة الفطرة يسهر عليها أنبياء الله ورسله - فالله يبعثهم بالدين، والدين طريق خاصة في الحياة تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي. أما دائرة اللاهدى، فيسهر عليها

____________

(1) مروج الذهب 465 / 2.

الصفحة 83
الشيطان. وبرنامج الشيطان يعتمد على التزيين والإغواء، ليصل بالإنسان إلى مرحلة الاحتناك، وهي مرحلة خدمة الأهواء والسياسة الشيطانية، والإنسان بين برنامج الفطرة وبين برنامج الشيطان حر مختار، بمعنى أن الله تعالى حاصر الإنسان بجميع الحجج في نفسه وفي الوجود حتى لا تكون له على الله حجة. ثم أمر سبحانه الجوارح أن تطيع صاحبها فيما يريد، ويختار، وكلما اختار الإنسان شيئا من دائرة الشيطان، انطفأ نور من أنوار الفطرة بداخله - فإذا اختار الكفر خرج الإيمان من قلبه، وفي كل إنسان قلب واحد وهذا القلب لا يحمل إلا شيئا واحدا.

قال تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (1)، ولأن الله تعالى يعلم أن وسائل الشيطان لها بريقها، وأن هذا البريق سيكون عاملا مهما في الصد عن سبيل الله، بعث سبحانه الرسل على فترات، ليبينوا للناس أسباب الهدى كي تطرد القلوب الكفر وتعمر بالإيمان.

والرسالة الخاتمة جاءت لتدعو الناس إلى صراط الله العزيز، وحذرت من دوائر الشيطان أشد التحذير، وما تركت الرسالة سبيلا إلى الهدى إلا بينته. ومن فضل الله تعالى على الأمة الخاتمة أنه سبحانه أوحي إلى رسوله بما سيحدث في أمته حتى قيام الساعة، وأخبره بخطوات الشيطان في بعض القبائل وداخل بعض النفوس ليحذر أمته من هذا ومن ذاك، وأخبره سبحانه بعلمه المطلق أنه رغم تحذيره إياهم إلا أن الغالب الأعم من الأمة لن ينصت إلى هذا التحذير وأن الأمة ستختلف ثم ستفترق ثم ستتبع سنن الأولين شبرا بشبر وذراعا بذراع، وعلى امتداد هذا الطريق فإن الحجة فوق الرؤوس، وفي الكون وفي أعماق أعماق النفس حيث الفطرة والموعد الله. ومعنى أن الحجة فوق الرؤوس أن الحجة مستمرة وتسوق الناس إلى صراط الله العزيز. ولا يضرها من خالفها أو خذلها أو ناوأها. ولا يضرها قتل أو قطع رؤوس أو سجن أو طرد أو نفي. فالملك لله، والموعد الله.

وفي عهد الإمام علي كان الإمام يعلم نهايته. فلم يتألم لأنه سيضرب على

____________

(1) سورة الأحزاب: الآية 4.

الصفحة 84
رأسه، وإنما كان يقول: فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط علي " (1).

ولم يكن الإمام يتألم من هذا، وإنما كان يتألم أن يرى باطلا ولا يستطيع كسره.

وذلك لأنه يعيش في دائرة الإيمان الكامل. وأصحاب هذه الدائرة لا تشعر جوارحهم إلا بما في مخزون الفطرة ودائرة العبادة الحق. لقد كان الإمام يعلم بأنه مقتول، ولكنه كان يأخذ بأسباب إقامة المجتمع الصالح. وليس معنى أن الله تعالى كتب على كل إنسان الموت وأن يجلس الإنسان على سريره لينتظر الموت، وإنما عليه أن يكد ويحصل العلوم ويأخذ بأسباب الحياة الكريمة التي تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي.

والإمام أعلن أمام الجميع إخبار الرسول له بأنه مقتول. وهناك فرق بين مقتول وميت. فإذا كانت الأمة ستقتل الإمام، فهل هذا أخذا بأسباب الحياة الكريمة؟ قد يقال إن الذي قتله إنسان واحد، فنقول إن الذي قتل الناقة كان إنسان واحد، ولكن الله عندما أخبرنا بقتلها قال: " فكذبوه فعقروها " ثم أخبرهم الإمام أن بعد القتل سيأتيهم العذاب. والعجيب أن الإمام عندما أخبرهم بأنه سيقتل وأن معاوية سيملك ما تحت قدمه. سارع البعض بإرسال الرسائل إلى معاوية واتخذوا عنده الأيادي. فهل هذا أخذا بالأسباب الكريمة؟. فإذا جاء العذاب فهل يكون العذاب إلا نتيجة طبيعية لأعمالهم. لأن الله لا يظلم مثقال ذرة.

إن الإنسان الذي يفسد دينه الفطري لا تتعادل قواه الحسية الداخلية، وتصبح معظم ملكات نفسه في حالة جوع دائم. واليهود عندما فسد دينهم الفطري جاعت نفوسهم، وعندما جاء إليهم أنبياء الله ورسله لإطعامهم الحلال، لم يجدوا في الحلال كفاية، فقتلوا الأنبياء، ولما كان لا بد أن يسير اليهود وراء إمام لهم، بشرط أن يكون هذا الإمام موافق لما يريدون، بدأوا ينقبون في أحاديث الغيب وأخبار المستقبل التي تركتها رسلهم. فوجدوا أحاديث عليها علامات تحذيرية وأخرى عليها علامات تبشيرية، واختلط الأمر عليهم فهناك

____________

(1) العقد الفريد 119 / 1.

الصفحة 85
أشياء يريدونها وعليها تحذير وأخرى لا يريدونها وعليها تبشير. ووجدوا أن الغيب فيه مسيحان الأول يولد من عذراء والآخر دجال. ووجدوا أن ابن العذراء لن يعطيهم إلا بميزان بينما الآخر سيصب عليهم الدنيا صبا، واختلط عليهم الأمر، وهنا تدخل أحبار السوء في كل زمان وكل مكان، الأحبار الذين يسعون في الأرض فسادا، فقالوا أنهم أحباء الله والله لا يعطي أحباءه بميزان. وقد يكون الأولون قد أخطأوا في تحديد التحذير والتبشير. ثم استقروا على المسيح الثاني.

وحاولوا قتل المسيح الأول عندما بعثه الله إليهم، ولما كان المسيح الذي وقعوا عليه هو الدجال الذي وصفته الأحاديث بأنه يهودي أي أنه على هوى اليهود (1).

وعالم ابتغاء الفتنة عالم طويل عريض، ويبحث أصحابه دائما في أصولهم التي في صدورهم، ثم يعملوا من أجل إيجاد رداء لهم يسيرون به في الحياة، وكلما كان الرداء له قداسة كانت العقبات في طريقهم أقل. ولقد استغل تيار النفاق الجلباب الإسلامي. بل استغلوا فيما بعد القرآن، قال تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) (2)، ثم استغلوه عندما رفعوه طلبا للتحكيم بينهم وبين أمير المؤمنين الذي يقاتلهم أصلا على التأويل. وكانوا يريدون من وراء ذلك أولا: الخروج من المعركة أحياء، وثانيا: إخراج الإمام من دائرة أنه الأعلم بالتأويل. كما حاولوا من قبل إخراجه من دائرة التطهير.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net