4 - الاصطفاف للقتال:
على أرض صفين رفعت رايتان لا ثالث لهما. راية النبي صلى الله عليه وسلم بمودة أهلها وأعلن أن حربهم حربه وسلمهم سلمة.. وبين أنهم يؤدون عنه وأنهم يدورون مع الكتاب ولن يفترقا حتى يردا على الحوض. وأخبر أن الأمة ممتحنة بأصحاب هذه الراية ولذلك أوصي بهم في كل موضع من المواضع وقال: " أوصيكم الله في أهل بيتي ".
وراية حذر النبي صلى الله عليه وسلم من فتح الطريق لها. وحدد أسماء وبين معالم للفتن. كيف يقف الصحابة عند الأبواب ويمنعوا الناس من الدخول فيها. لأن الدخول يعني فتح طريق آخر على امتداده ترفع رايات أكثر من سبعين فرقة ويرى على امتداده الأئمة المضلون وأمراء الجور الذين يقتتلون على الملك ويحرصون على الإمارة. وفي نهاية المطاف عندما تنهدم الدنيا يتمنوا أن يخروا من الثريا ولم يلوا من أمر الناس شيئا. وأخبر النبي أن التكالب على الدنيا يعني عدم الورود على الحوض لأن الكتاب لا يأمر الناس بالحرص على الإمارة واكتناز الذهب والفضة.
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ويل لبني أمية " ثلاث مرات (1)، ولقد وردت أحاديث صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أسماء قادة الفتن وحذر منهم. وكان حذيفة يقول: أنسي أصحابي أم تناسوا. والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا... ألا وقد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته " (2)، وروي عن الإمام علي وعمار
____________
(1) رواه ابن منده وأبو نعيم عن حمران بن جابر ورواه ابن قانع عن سالم الحضرمي (كنز العمال 165 / 11).
(2) رواه أبو داود، وسبق تخريجه.
بمثل ذلك. وإذا كان النبي قد أخبر بأسماء رؤوس الفتن. فإنه أخبر أيضا بأسماء.
أعلام الهدى. ولقد ذكرنا ما ورد في أهل البيت. وأخبر عنهم أيضا آخر الزمان ولكن يبدو أن الصحابة نسوا هذه الأسماء كما ذكر حذيفة. وهذا الإخبار جاء في صحيح مسلم في مواضع. منها عندما تحدث عن القيادة الإسلامية التي ستفتح المدينة العظمى قبل خروج الدجال. يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفتح "... ويقبلون فيبعثون عشر فوارس إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم هم خير فوارس على وجه الأرض " (1)، فهنا توجد أسماء وعند مسلم أيضا " لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة " ولكن الراوي لم يسمع كلمة قالها النبي بعد ذلك: فقال: " فقال كلمة أصمنيها الناس فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش " (2).
هذه أحاديث ذكرت فيها أسماء. ولا يمكن لعاقل أن يقول إن النبي احتفظ بهذه الأسماء لنفسه ولم يبلغها لأمته. لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله ليقيم حجة. وليس معنى أن في الصحابة من نسي أن جميعهم تناسوا. فبنوا أمية راية رويت فيهم أحاديث تحذر الناس من طريقهم. فعند الباب أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أشد قومه بغضا له قبائل منهم بنو أمية (3)، وأخبر أن بني أمية إذا تقلدوا المناصب وبلغوا أربعين - وفي رواية - ثلاثين رجلا. فإنهم سيتخذون مال الله دولا أي يكون لقوم دون قوم. ودين الله دخلا أي يدخلوا فيه أمورا لم ترد في كتاب أو سنة. وعباد الله خولا أي عبيدا يستخدمونهم ويستعبدونهم " (4).
____________
(1) رواه مسلم كتاب الفتن (الصحيح 178 / 8).
(2) رواه مسلم كتاب الإمارة (4 / 6).
(3) رواه البيهقي عن عمران وقال ابن كثير رجاله ثقات (البداية 268 / 6) ورواه نعيم ابن حماد عن أبي سعيد (كنز العمال 169 / 11).
(4) الحديث رواه الإمام أحمد والطبراني والبزار والحاكم وأبو يعلى والبيهقي عن أبي سعيد وأبي ذر وابن عباس وفي الحديث تحذير من بني أمية أو بني الحكم، ولقد تحدثنا عنه فيما سبق.
وأكثر الأحاديث التي ذكر فيها أسماء بعض الناس أو القبائل كي تحذرهم الأمة. استغلها كعب الأحبار. وكان من المتخصصين في القص مستغلا أحاديث آخر الزمان والجنة والنار. فكعب على مساحة اللارواية. جاء بأحاديث من دائرة التخدير ووضع عليها رداء التبشير، ولقد استفاد من هذا خط بني أمية من بدايته إلى نهايته. ومن الثابت بل ومن المشهور أن كعبا كان من المنحرفين عن علي بن أبي طالب (1)، وكان أبو ذر يهاجمه في وجود عثمان إذا رآه يتدخل في توزيع الخراج. وبلغت المأساة ذروتها. عندما ألقى كعب في نفس معاوية بأحاديثه المختلفة وقصصه الإسرائيلية. وأخبره بأنه الخليفة بعد عثمان.
وبعد هذا البيان لا يستغرب أن نسمع أمير المؤمنين علي يقول لأصحابه يوم صفين: انفروا إلى بقية الأحزاب، امضوا بنا إلى ما قاله الله ورسوله. إنا نقول صدق الله ورسوله. ويقولون: كذب الله ورسوله " (2)، وليس معنى أنهم يقولون هذا. أنهم يسيرون بين الناس ويرددونها. وإنما المعنى: أن لهم تأويلا خاصا في مال الله. ودين الله وعباد الله. ولهم موقفهم الخاص من رسول الله والذي يعلمه الله. وبينه رسوله عندما وضعهم ضمن الذين يبغضونه. ولا يستغرب أيضا أن نسمع الإمام يقول بعد أن رفع معسكر معاوية المصاحف ليعبر عن أهدافه من تحتها " إن معاوية وابن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن سلمة وابن أبي السرح والضحاك، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم " (3)، وقوله أيضا في معاوية وأبيه " طليق بن طليق، حزب من الأحزاب.
لم يزل حربا لله ورسوله هو وأبوه. حتى دخلا في الإسلام كارهين " (4)، وقوله:
" والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا. ولكن استسلموا، وأسروا الكفر. فلما وجدوا عليه أعوانا. رجعوا إلى عداوتهم لنا. إلا أنهم لم يتركوا
____________
(1) قال ابن أبي الحديد: روى جماعة من أهل السير أن عليا كان يقول عن كعب الأحبار:
إنه لكذاب. وقال: وكان كعب منحرفا عن علي (ابن أبي الحديد 792 / 1).
(2) رواه البزار بإسناده (الزوائد 239 / 7).
(3) الطبري 27 / 6، الكامل 161 / 3، مروج الذهب 433 / 2، البداية والنهاية 298 / 7.
(4) الكامل 148 / 3.
الصلاة " (1)، ولا يستغرب أن نرى عمار بن ياسر الذي ورد فيه أنه يدعو إلى الجنة وخصومه يدعون إلى النار - إلى غير ذلك من الأحاديث التي ذكرناها - يقول يوم صفين وهو يشير إلى راية معاوية: قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الرابعة " (2)، وروي أن رجلا سأل عمارا: يا أبا اليقظان، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاتلوا الناس حتى يسلموا. فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم وأموالهم؟ قال: بلى، ولكن والله ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا " (3)، ولا يستغرب أن نسمع ابن مسعود وهو يحدث بحديث فيه اسم من الأسماء التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها، قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم معاوية بن أبي سفيان يخطب على منبري فاضربوا عنقه "، وكان الحسن يقول: فوالله ما فعلوا ولا أفلحوا " (4)، وليس معنى قتله لأنه دخل المسجد، وإنما لأنه يخطب. لأن الخطبة لا بد أن تحمل فكره وثقافته في معنى مال الله ودين الله وعباد الله، وخطورة هذه الثقافة تبلغ مداها إذا كان معاوية ورجاله هم حراس الأمة، لهذا وجدنا الحسن بن علي بعد وفاة أمير المؤمنين. يقيم الحجة على الناس في كل ميدان. فلقد تجهز لقتال معاوية ولكنه خذل، ثم حث الناس على الصمود ولكنهم قالوا: البقية البقية!!
وطلبوا الصلح. ثم اشترط الحسن شروطا. ولكن معاوية لم يف بها لسبب بسيط هو أن الأمة كانت تغط في نوم عميق. والحجة لا يأتي إلى الناس وإنما الناس هم الذين يأتون إليه لأن قانون الاختيار يدور على قوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " (5).
____________
(1) ابن أبي الحديد 760 / 1.
(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 243 / 7) وابن سعد (الطبقات 257 / 3) والطبري 21 / 6.
(3) ابن أبي الحديد 760 / 1.
(4) المصدر السابق 760 / 1.
(5) سورة يونس: الآية 14.
فالرايات يوم صفين، كان فيها من الله برهان. فالذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا معروف. وقتال بني أمية من أجل الملك مشهور. وهذا القتال له بذور غرست في الفتن. وروى أنه قد قيل لسفينة: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. فقال: كذبوا بنو الزرقاء (1)، بل هم ملوك من شر الملوك " (2)، وبنو أمية ما زعموا هذا إلا على أساس. فلقد سمعوا الأحاديث التي تخبر بأنهم سيصلون إلى الملك (3). ولأن هذه الأحاديث أحاديث تحذيرية. رفعوها من دائرة التحذير إلى دائرة التبشير. وقاتلوا على ذلك. ساروا وسط الأمة يتعوذون من الفتنة وهم في الفتنة سقطوا لأنهم الذين حفروا حفرتها. وسنرى فيما بعد ماذا صنعوا كي بخبرهم أمير المؤمنين بخبرهم في المستقبل. وسنرى أن حركتهم خلال أحداث صفين ما تركت بابا يساعد على تأصيل هذا الشذوذ إلا فتحوه ليخلطوا الأمور على الناس فيما بعد. فالذي يبحث في الخلافة يجدهم. والذي يبحث في الملك يجدهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا كنا قد تحدثنا عن الرايات على أرض الاصطفاف. فلنتحدث عن بعض الرجال الذين تحت هذه الرايات. أما معسكر أمير المؤمنين. روى أنه كان في جيش علي ثمانون بدريا ومائة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة (4)، وكان جميع من شهد معه من الصحابة ألفين وثمانمائة (5) على رأس هؤلاء: عمار بن ياسر. الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الفئة الباغية تقتله وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عادي عمارا عاداه الله ومن أبغض
____________
(1) الزرقاء امرأة من أمهات بني أمية، رواه ابن حبان (تحفة الأحواذي 479 / 6).
(2) رواه الترمذي وصححه وقال رواه غير واحد (الجامع 503 / 4) وأبو داوود حديث 4646.
(3) الحديث تحدث به أبو ذر في وجود عثمان وكعب الأحبار، ومعاوية كانت يقرب مروان منه لمعرفته أن في صلبه ملوكا. والإمام علي أخبر مروان بالأحاديث التحذيرية بعد الجمل.
(4) الحاكم (المستدرك 104 / 3) البداية 255 / 7.
(5) مروج الذهب 361 / 2.
عمارا أبغضه الله " (1)، وقال: " ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار " (2)، وتحت راية علي نجد أيضا أويس بن عامر القرني. الذي لم ير النبي صلى الله عليه وسلم. وأخبر النبي أن أويسا خير التابعين - وظهر أويس في عهد عمر بن الخطاب واستغفر لعمر. وعندما طلب عمر أن يكون أويس بجانبه. فضل أويس أن يذهب إلى الكوفة. وعندما ود عمر أن يكتب للأمراء بشأنه. قال أويس إنه يفضل أن يعيش في غبراء من الناس. وعاش أويس زاهدا حتى جاء عهد علي فخرج مقاتلا يضرب بالسيف ويصيح: يا خيل الله اركبي! وهناك الكثير تحت راية الأمير كرم الله وجهه.
أما راية بني أمية، فتحتها التجار بجميع عناوينهم، روي أن معاوية بعث رجلا إلى أمير المؤمنين وقال له: أبلغ عليا أني أقاتله بمائة ألف. ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل. وقد بلغ من أمرهم في طاعته لهم. أنه صلى بهم عند سيرهم إلى صفين الجمعة يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها (3). إنهم العامة والغوغاء، الذين يمهدون الطريق لكل فتنة. أما قادة الألوية الذين قاتلوا بجلد وقوة. فعلى رأسهم: أبو الأعور السلمي، وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه. وبسر بن أرطاة الذي فعل الأفاعيل في مكة والمدينة واليمن. وأخباره مشهورة، ومنهم أيضا عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد. وحبيب بن مسلمة الفهري، وعندما قطعوا الماء كان على الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص. وحابس بن سعيد.
والضحاك بن قيس. وغير هؤلاء كثير (4). وروي عن ابن إسحاق أنه قال:
اجتمع عند معاوية في ليلة من ليالي صفين عمرو بن العاص. وعتبة بن أبي سفيان. والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر وابن طلحة الطلحات الخزاعي، فقال عتبة: إن أمرنا وأمر علي بن أبي طالب لعجيب. ما
____________
(1) رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح (الفتح 329 / 22) (الزوائد 293 / 9).
(2) رواه أحمد (الفتح 142 / 23) والبخاري (كنز العمال 722 / 11).
(3) مروج الذهب 41 / 3.
(4) ابن أبي الحديد 649 / 1. والطبري أحداث سنة 36.
فينا إلا موتور محتاج. أما أنا فقتل جدي عتبة بن ربيعة. وأخي حنظلة، وشرك في دم عمي شيبة يوم بدر، وأما أنت يا وليد، فقتل أباك صبرا، وأما أنت يا ابن عامر. فصرع أباك وسلب عمك، وأما أنت يا ابن طلحة، فقتل أباك يوم الجمل وأيتم إخوتك، وأما أنت يا مروان فكما قال الشاعر:
وأفلتهن عليا جريصا * ولو أدركنه صفر الوطاب (1)
فقال معاوية: هذا الاقرار فأين الغير؟ قال مروان: وأي غير تريد؟ قال:
أريد أن تشجروه بالرماح، قال: والله يا معاوية ما أراك إلا هاذيا أو هازئا. وما أرانا إلا ثقلنا عليك، فقال ابن عقبة:
يقول لنا معاوية بن حرب * أما فيكم لواتركم طلوب يشد على أبي حسن علي * بأسمر لا تهجنه الكعوب
إلى أن قال:
فقلت له: ألكعب يا بن هند * كأنك بيننا رجل غريب أتغرينا بحية بطن واد * إذا نهشت فليس لها طبيب (2)
فهم يخافون لأنهم لا يستندون إلى حقيقة. وإنما إلى فتنة شقوا فيها طريقهم. ولأنهم خائفون كان لا بد لهم من جدر تحميهم وتحمي تاريخهم.
ومن أجل إقامة هذه الجدر بعثروا المال على العقول والنفوس. وما تركوا خدعة إلا فعلوها ولا مصحفا إلا رفعوه. وهذا الأسلوب لا يقدم عليه أمير المؤمنين.
أولا: لأنه حجة ويعلم أنه مقتول. وثانيا: لأن الغادر يرفع له لواء يوم القيامة.
ويظهر غدره على رؤوس الأشهاد.
|