3 - الإعلام العلوي:
كان من نتائج التشكيك الأموي بروز أسئلة لا بد أن يجيب عليها الإمام وحده وليس أحدا غيره. سأله بعض أصحابه: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال: أما الاستبداد (8) علينا بهذا المقام. ونحن الأعلون نسبا والأشدون بالرسول صلى الله عليه وسلم نوطا (9). فإنها كانت
____________
(1) أرديتهم / أهلكتهم.
(2) جيلا من الناس / أي صنفا من الناس.
(3) الغي / الضلال.
(4) وجاروا / أي عدلوا عن القصد.
(5) ووجهتهم / يقال: هذا وجهه الرأي، أي هو الرأي بنفسه.
(6) أي لم يعتمدوا على الدين وإنما أردتهم الحمية ونخوة الجاهلية فأخلدوا إليها وتركوا الدين.
(7) ابن أبي الحديد 767 / 4.
(8) الاستبداد بالشئ / التفرد به.
(9) النوط / الالتصاق.
أثرة (1) شحت (2) عليها نفوس قوم. وسخت (3) عنها نفوس آخرين. والحكم الله والمعود إليه يوم القيامة.
ودع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديثا ما حديث الرواحل
وهلم الخطب في ابن أبي سفيان. فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه (4).
ولا غرر والله. فيا له خطبا يستفرغ العجب. ويكثر الأود (5). حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه. وسد فواره من ينبوعه. وجد جوا بيني وبينهم شربا وبيئا.
فإن ترتفع عنا وعنهم محن البلوي، أحملهم من الحق. وإن تكن الأخرى " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليهم بما يصنعون " (6).
وقال الإمام ردا على ما يشاع في الساحة، وقد قال قائل: إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص. فقلت: بل أنتم والله لأحرص وأبعد. وأنا أخص وأقرب. وإنما طلبت حقا لي وأنتم تحولون بيني وبينه. وتضربون وجهي دونه. فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين. هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به. اللهم إني أستعديك (7) على قريش ومن أعانهم. فإنهم قطعوا رحمي (8). وصغروا عظيم منزلتي (9)، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي. ثم قالوا: إلا إن في الحق أن تأخذه. وفي الحق أن تتركه " (10).
كان الإمام يجيب على أسئلة الحاضر بوقائع حدثت في الماضي فبين أنهم
____________
(1) أي استئثار بالأمر واستبدادا به.
(2) شحت / نحلت.
(3) سخت / جادت.
(4) يشير إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدم من سلف عليه، ثم جاء معاوية نظيرا له.
(5) الأود / العوج.
(6) ابن بي الحديد 303 / 3.
(7) أي أطلب أن تساعدني عليهم.
(8) لم يرعوا قربه من النبي.
(9) أي لم يقفوا مع النصوص الواردة فيه.
(10) ابن أبي الحديد 350 / 3.
لم يقتصروا على أخذ حقه ساكتين عن الدعوى. ولكنهم أخذوه وادعوا أن الحق لهم وأنه يجب عليه أن يترك المنازعة فيه. فيا ليتهم أخذوه معترفين بأنه حقه.
فكانت المصيبة به أخف وأهون (1).
ولقد ذكرنا في هذا الكتاب أن الساحة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان بها العديد من التيارات التي تصد عن سبيل الله. وذكرنا أن الصحابة الكبار أرادوا أن يحيدوا هذه التيارات حتى لا تبطش بالدعوة فكان ما جرى في السقيفة. والإمام هنا لا يخص إنسانا بعينه نازعه الأمر. وإنما يذكر قريشا إذ تحدث عن الذين قطعوا رحمه وصغروا منزلته وأجمعوا على منازعته. وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه في أن قريشا دبرت أمرا. وبعضي قريش هموا بعمل كان في رأيهم إنقاذا للدعوة. وبعد السقيفة اعتزل الإمام علي وكانت له مكانته بين القوم حتى كان يوم الشورى وفيه رفعت أعلام " إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص ".
وبعد أن وضع الإعلام العلوي النقاط فوق الحروف في قضية طرحها الإعلام الأموي الذي يبتغي التشكيك والمتاجرة بكل شئ.
طالب الإمام أتباعه إذا سألوا أن يسألوا تفقها فقال: سل تفقها. ولا تسأل تعنتا، فإن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم. وإن العالم المتعنت شبيه بالجاهل " (2).
وقال: " لا تجعلوا علمكم جهلا ويقينكم شكا. إذا علمتم فاعملوا. وإذا تيقنتم فأقدموا " (3)، وقال: " اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية.
لا عقل رواية. فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل " (4)، ثم طالب الإمام بكتابة العلم ليكون حجة على امتداد الزمان فقال: " الق دواتك. وأطل جلفة قلمك. وفرج بين السطور. وقرمط بين الحروف فأن ذلك أجدر بصباحة
____________
(1) ابن أبي الحديد 351 / 3.
(2) ابن أبي الحديد 620 / 5.
(3) ابن أبي الحديد 579 / 5.
(4) ابن أبي الحديد 374 / 5.
الخط " (1)، وقال، " العلم علمان. مطبوع ومسموع. ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع " (2) وجبت الناس في العلم فقال: " كل وعاء يضيق بما جعل فيه:
إلا وعاء العلم فإنه يتسع " (3)، وساق الناس إلى طريق الفكر فقيل له: صف لنا العاقل، فقال: هو الذي يضع الشئ في مواضعه فقيل: فصف لنا الجاهل، قال: قد فعلت (4). وقيل له: ما هو الخير؟ فقال: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك. ولكن الخير أن يكثر علمك. وأن يعظم حلمك " (5).
لقد كان الإعلام العلوي يدق أوتاد العلم في كل مكان ويعمل على دوام العلم ليكون حجه على كل زمان. قال الإمام حين سأله رجل أن يعرفه ما الإيمان قال له: إذا كان غدا فأتني حتى أخبرك على أسماع الناس، فإن نسيت مقالتي حفظها عليك غيرك فإن الكلام كالشاردة يثقفها هذا ويخطئها هذا " (6).
وبينما كان الإعلام الأموي يدق أوتاد البدعة والفرقة كان الإعلام العلوي يدق أوتاد السنة والجماعة. عن يحيى بن عبد الله بن الحسن عن أبيه، قال: كان علي يخطب فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين. أخبرني من أهل الجماعة ومن أهل الفرقة. ومن أهل السنة ومن أهل البدعة؟ فقال: ويحك أما إذا سألتني فافهم عني، ولا عليك أن تسأل عنها أحدا بعدي. فأما أهل الجماعة فأنا ومن تبعني وإن قلوا. ذلك الحق من أمر الله وأمر رسوله. فأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ومن اتبعني وإن كثروا. وأما أهل السنة المتمسكون بما سنه الله لهم ورسوله وإن قلوا، وأما أهل البدعة. فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا. وقد مضى الفوج الأول وبقيت أفواج. وعلى الله
____________
(1) ابن أبي الحديد 614 / 5.
(2) المصدر السابق 631 / 5.
(3) المصدر السابق 490 / 5.
(4) المصدر السابق 517 / 5.
(5) المصدر السابق 372 / 5.
(6) المصدر السابق 572 / 5.
قصهما واستئصالها عن حدبة الأرض " (1).
وقال له رجل: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة؟ فقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا. وأهوي بيده إلى لحيتي ورأسي؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله ليس ذلك من مواطن الصبر ولكن من مواطن البشري والكشر. فقال لي: أجل. ثم قال لي: يا علي إنك باق بعدي ومبتلي بأمتي. ومخاصهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى. فأعدد جوابا فقلت: بأبي أنت وأمي. بين لي ما هذه الفتنة التي يبتلون بها، وعلى ما أجاهدهم بعدك؟ فقال: إنك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة. وجلاهم وسماهم رجلا رجلا!!. ثم قال لي: وتجاهد أمتي على كل من خالف القرآن ممن يعمل في الدين بالرأي. ولا رأي في الدين. إنما هو أمر من الرب ونهيه فقلت: يا رسول الله فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة يوم القيامة، فقال:
نعم. إذا كان ذلك فاعتصر على الهدى. إذا قومك عطفوا الهدى على العمى.
وعطفوا القرآن على الرأي فتأولوه برأيهم. تتبع الحجج من القرآن بمشتبهات الأشياء الكاذبة عند الطمأنينة إلى الدنيا والتهالك والتكاثر. فأعطف أنت الرأي على القرآن إذا قومك حرفوا الكلم عن مواضعه عند الأهواء الساهية والهرج الآثم والقادة الناكثة والفرقة القاسطة والأخرى المارقة. أهل الإفك المردى والهوى المطغى والشبهة الحالقة. فلا تتكلن عن فضل العاقبة فإن العاقبة للمتقين... " (2)، والحديث طويل ويشهد بصحته فضلا عن أنه حديث صحيح ما رواه حذيفة وعمار وأبو أيوب الأنصاري حين تحدث عن قتال علي للبغاة وسيأتي في موضعه.
ثم قال إمام المتقين. وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإياك يا علي أن يكون خصمك أولى بالعدل والإحسان والتواضع لله والاقتداء بسنتي والعمل بالقرآن منك. فإن من فلج الرب على العبد يوم القيامة، أن يخالف
____________
(1) رواه وكيع (كنز العمال 183 / 16).
(2) رواه وكيع في الغرر (كنز العمال 183 / 16.
فرض الله أو سنة سنها نبي أو يعدل عن الحق ويعمل بالباطل. فعند ذلك يملي لهم فيزدادوا إثما قال تعالى: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما)، يا علي إن القوم سيفتنون ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم ويزكون أنفسهم، ويمنون دينهم على ربهم. ويتمنون رحمته ويأمنون عقابه. ويستحلون حرامه بالمشتبهات الكاذبة.
فيستحلون الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية والربا بالبيع ويمنعون الزكاة ويطلب البر. ويتخذون فيما بين ذلك أشياء من الفسق لا توصف صفتها. ويلي أمرهم السفهاء ويكثر تتبعهم على الجور والخطأ، فيصير الحق عندهم باطلا والباطل حقا. ويتعاونون عليه ويرمونه بألسنتهم، ويعيبون العلماء ويتخذونهم سخريا.
قلت: يا رسول الله فبأية المنازل هم إذا فعلوا ذلك. بمنزلة فتنة أو بمنزلة ردة؟
قال: بمنزلة فتنة. ينقذهم الله بنا أهل البيت عند ظهورنا (1)... (يوجد بياض في المتن) ثم تحدث عن الفتن فبين أن الله فتح بأهل البيت وبهم يختم وبهم يقصم كل جبار وكل منافق. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي:
يا علي إنما مثل هذه الأمة كمثل الغيث لا يدري أوله خير أم أخره. وبين ذلك نهج أعوج لست منه وليس مني " (2)، وهذا حديث رواه أيضا الإمام أحمد والرامهرمزي.
وفي الفترة بين موقعة الجمل وبين صفين. كان الإعلام العلوي يسوق الناس إلى صراط الله العزير الحميد ولم يترك الإمام موقفا إلا وأقام عليه حجة.
ولم يترك باطلا إلا وضربه ليخرج الحق من جنبه. لقد كان الإمام يعرف المنافقين. نظرا لأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع عنده أصول الأحداث في المستقبل. فوفقا لهذه الأصول ترى النفاق يشع بدون تدخل من أحد. لذا كان الإمام يسوق الناس إليه في عالم ترك بنو أمية بصماتهم على امتداد طريقه فكان يقول: " أنا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الفجار "، وقال: معنى ذلك أن المؤمنين يتبعوني. والفجار يتبعون المال. كما تتبع النحل يعسوبها. وهو
____________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
رئيسها (1)، وقال الإمام: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني. ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا علي. لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق (2)، وفي وصف المنافقين يقول الإمام:
" أوصيكم عباد الله بتقوى الله. وأحذركم أهل النفاق. فإنهم الضالون المضلون. والزالون المزلون. يتلونون ألوانا. ويفتنون افتنانا (3). ويعمدونكم بكل عماد (4). ويرصدونكم بكل مرصاد (5). قلوبهم دوية (6). وصفاحهم نقية (7). يمشون الخفاء. ويدبون الضراء. وصفهم دواء. وقولهم شفاء وفعلهم الداء العياء (8)، حسدة الرخاء (9). وموكدو البلاء (10)، ومقنطوا الرجاء (11). لهم بكل طريق صريع. وإلى كل قلب شفيع (12). ولكل شجو دموع (13). يتقارضون الثناء (14). ويتراقبون الجزاء (15). إن سألوا الحفوا (16). وإن عذلوا
____________
(1) ابن أبي الحديد 614 / 5.
(2) ابن أبي الحديد 324 / 5 والحديث روى شطره الأخير مسلم والترمذي وغيرهم.
(3) أي يتشعبون فنونا أي ضروبا.
(4) يعمدونكم / يهدونكم ويفدحونكم. عماد / بأمر فادح.
(5) أي يعدون المكايد لكم.
(6) قلب دو / أي فاسد.
(7) جمع صفحة الوجه.
(8) أي أقوالهم أقوال الزاهدين وأفعالهم أفعال الفاسقين الفاجرين.
(9) أي يحسدون كل النعم.
(10) أي إذا وقع واحد من الناس في البلاء أكدوه عليه بالسعايات وإغراء السلطان عليه.
(11) أي يبدلون بشرورهم رجاء الراجي قنوطا.
(12) أي يستحوذوا على قلوب الناس بالرياء والتصنع.
(13) أي يبكون عند أهل كل حزن ومصاب.
(14) أي يثني زيد على عمرو، ليثني عمرو عليه في ذلك المجلس.
(15) أي يرتقب كل واحد منهم على ثنائه ومدحه لصاحبه جزاء منه إما بالمال أو بأمر آخر.
(16) الالحاف في السؤال: الاستقصاء فيه. وهو مذموم.
كشفوا (1)، وإن حكموا أسرفوا (2). قد أعدوا لكل حق باطلا (3)، ولكل قائم مائلا. ولكن حي قاتلا، ولكل باب مفتاحا (4)، ولكل ليل مصباحا (5).
يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم (6). وينفقوا به أعلاقهم (7).
يقولون فيشبهون. ويصفون فيموهون. قد هونوا الطريق، وأضلعوا المضيق (8).
فهم لمة الشيطان. وحمة النيران (9)، (أولئك حزب الشيطان ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون) (10).
وبعد أن وصف أمير المؤمنين مربع النفاق وصفا جامعا شاملا سئل عن الإيمان فقال: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين. والعدل والجهاد.
والصبر منها على أربع شعب: على الشوق، والشفق، والزهد، والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات. ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين، فمن تبصر في الفطنة، تبينت له الحكمة، ومن تبينت له الحكمة، عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين.
والعدل منها على أربع شعب: على غائض الفهم. وغور العلم. وزهرة الحكم، ورساخة الحلم، فمن فهم علم غور العلم. ومن علم غور العلم صدر.
____________
(1) أي إذا عزلك أحدهم كشف عيوبك في ذلك اللوم والعذل. وربما كشفها لك بمختصر ممن لا تحب ذكرها بحضرته.
(2) إذا سأل أحدهم ففوضته في مالك أسرف ولم يقنع بشئ.
(3) يقيمون الباطل في معارضة الحق.
(4) أي ألسنتهم ذلقة قادرة على فتح المغلقات.
(5) أي كل أمر مظلم فقد أعدوا له كلاما ينيره ويضيئه.
(6) أي لتنفق سلعتهم.
(7) الإعلاق / السلعة الثمينة.
(8) أضلعوا الطريق / أي أمالوه.
(9) ابن أبي الحديد 482 / 3.
(10) سورة المجادلة: الآية 19.
عن شرائح الحلم. ومن حلم لم يفرط في أمره. وعاش في الناس حميدا، والجهاد منها على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه. ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة.
والكفر على أربع دعائم: على التعمق، والتنازع، والزيغ، والشقاق، فمن تعمق لم ينب إلى الحق، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق.. ومن زاغ ساءت عنده الحسنة، وحسنت عنده السيئة. وسكر سكر الضلالة، ومن شاق وعرت عليه طرقه. وأعضل عليه أمره. وضاق عليه مخرجه.
والشك على أربع شعب: على التمادي، والهول، والتردد والاستسلام، فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح ليلة، ومن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه.
ومن تردد في الريب. وطئته سنابك الشيطان. ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلك فيهما " (1).
وبعد أن تحدث الإمام عن النفاق والإيمان. تحدث عن الإسلام فقال:
" لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي. الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين. واليقين هو التصديق، والتصديق هو الاقرار، والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل " (2)، وقال إمام المتقين: " غدا ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري.
وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي " (3)، وقال الإمام: إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة، وأحلام رزينة، أيها الناس: سلوني قبل أن تفقدوني! (4)، الله أكبر
____________
(1) ابن أبي الحديد 302 / 5، ووكيع وابن عساكر وابن أبي الدنيا (كنز العمال 183 / 16، 206 / 96).
(2) ابن أبي الحديد 413 / 5.
(3) المصدر السابق 212 / 30.
(4) ابن أبي الحديد 135 / 4، وروى ابن سعد " سلوني عن كتاب الله... "، الطبقات. 338 / 2.
يا أمير المؤمنين!! إنه قول باب مدينة العلم الذي يجلس على ذروتها أحمد صلى الله عليه وسلم:. أيها الناس: سلوني قبل أن تفقدوني. فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها.
وتذهب بأحلام قومها " (1).
يقول ابن أبي الحديد: أجمع الناس كلهم على أنه لم يقل أحد من الصحابة، ولا أحد من العلماء " سلوني " غير علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ذكر ذلك ابن عبد البر المحدث في كتاب " الإستيعاب " والمراد بقوله: " فلأنا أعلم بطرق السماء مني بطرق الأرض "، ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور.
ولا سيما في الملاحم والدول. وقد صدق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الأخبار بالغيوب المتكررة. لا مرة ولا مائة مرة. حتى زال الشك والريب في أنه إخبار عن علم. وأنه ليس عن طريق الاتفاق. وقد تأول قوم على وجه آخر قالوا: أراد أنا بالأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية أعلم مني بالأمور الدنيوية، فعبر عن تلك بطرق السماء، لأنها أحكام إلهية، وعبر عن هذه بطرق الأرض لأنها من الأمور الأرضية (2).
وقال ابن أبي الحديد فيقول الإمام: " إن أمرنا هذا صعب مستصعب، ولا يحمله إلا عبد مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان "، قال: هذه الكلمة قد قالها كرم الله وجهه مرارا. ووقفت في بعض الكتب على خطب من جملتها: إن قريشا طلبت السعادة فشقيت، وطلب النجاة فهلكت. وطلبت الهدى فضلت، ألم يسمعوا ويحهم قوله تعالى: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) (3)، فأين المعدل المنزع عن ذرية الرسول، الذين شيد الله بنيانهم فوق بنيانهم. وأعلى رؤوسهم فوق رؤوسهم، واختارهم عليهم، ألا إن الذرية أفنان
____________
(1) ابن أبي الحديد 135 / 4.
(2) ابن أبي الحديد 138 / 4.
(3) سورة الطور: الآية 21.
أنا شجرتها. ودوحة أنا ساقها. وإني من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء... إن أمرنا صعب مستصعب. لا يعرف كنهه إلا ثلاثة: ملك مقرب. أو نبي مرسل.
أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان. فإذا انكشف لكم سر. أو وضح لكم أمر فاقبلوه. وإلا فاسكتوا تسلموا وردوا علمنا إلى الله. فإنكم في أوسع مما بين السماء والأرض " (1).
ودائرة الملك المقرب أو النبي المرسل. هي دائرة الوحي حيث يوجد النبي صلى الله عليه وسلم ودائرة العبد الذي امتحن الله قلبه للإيمان هي دائرة أهل البيت. والدائرة الأولى تعطي الثانية، حيث طهر على طهر ويقول ابن أبي الحديد: إعلم أن أمير المؤمنين كرم الله وجهه لو فخر بنفسه. وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله بفصاحته التي آتاه الله تعالى إياها. واختصه بها، وساعده على ذلك فصحاء العرب كافة لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الرسول الصادق صلوات الله عليه في أمره. ولست أعني بذلك الأخبار العامة الشائعة التي يحتج بها الإمامية على إمامته كخبر الغدير والمنزلة وقصة براءة، وخبر المناجاة وقصة خيبر وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة ونحو ذلك. بل الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة الحديث التي لم يحصل أقل القليل منها لغيره " (2).
ومما سبق علمنا أن أهل الشام رفضوا كل نصيحة وشككوا في كل حقيقة، واستغلوا كل حادثة وكل حركة فشقوا طورا فيها. على أمل أن يصلوا إلى غايتهم حيث كرسي الحكم. وعلمنا كيف واجه الإمام هذا الإعلام وهذه المخططات.
وكيف أمر بالعلم وتدوينه نظرا لما سيترتب فيما بعد على هذه الأحداث. وما ترك الإمام دربا من الدروب إلا وأقام عليه الحجة وحدد الحركة فيه تحديدا دقيقا. ومما سبق يمكن بوضوح معرفة أي دائرة من الدوائر هي التي تقاتل لتكون كلمة الله هي العليا. وأبن يوجد لواء الضلالة والأمراء الذين سيتمنون يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا. يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا.
____________
(1) ابن أبي الحديد 138 / 4.
(2) ابن أبي الحديد 249 / 3.
على شئ أو أنهم لم يولوا شيئا. كما ورد في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخبر بالغيب عن ربه جل وعلا.
|