1 - الناكثون في البصرة:
دخلت أم المؤمنين فناء البصرة. فلقيها عمير بن عامر التميمي فأوصاها أن تراسل وجوه البصرة قبل اقتحامها (2). وكان على البصرة عثمان بن حنيف عاملا لأمير المؤمنين. فقالت أم المؤمنين لابن عامر: جئتني بالرأي وأنت امرؤ صالح.
وكتبت السيدة عائشة إلى رجال من أهل البصرة منهم الأحنف بن قيس. ثم تحركت بقواتها لتحسين أوضاعها حتى إذا كانت بالحفير انتظرت الجواب (3).
وروى البيهقي عن الحسن البصري أن الأحنف بن قيس قال لأم المؤمنين: يا أم المؤمنين. هل عهد إليك رسول الله هذا المسير؟ قالت: اللهم لا، قال: فهل
____________
(1) الطبري 170 / 5، الكامل 114 / 3.
(2) الطبري 173 / 5.
(3) الطبري 173 / 5.
وجدته في شئ من كتاب الله جل ذكره؟ قالت: ما نقرأ إلا ما تقرأون. فقال:
فهل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بشئ من نسائه إذا كان في قلة والمشركين في كثرة؟ قالت: اللهم لا. فقال الأحنف: فإذن ما هو ذنبنا " (1).
وروي أن عثمان بن حنيف عندما علم برسائل السيدة عائشة إلى وجوه أهل البصرة دعا عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي وقال: انطلقا إلى هذه المرأة، فاعلما علمها وعلم من معها، فخرجا، ودخلا على عائشة بعد أن استأذنا وأذنت وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك. فهل أنت مخبرتنا. فقالت:
أطالب بدم عثمان، فقال أبو الأسود: إنه ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد.
قالت: صدقت، ولكنهم مع علي بن أبي طالب في المدينة. وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله. أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم؟ فقال: ما أنت من السوط والسيف إنما أنت حبيس رسول الله صلى الله عيه وسلم. أمرك أن تقري في بيتك وتتلي كتاب ربك، وليس على النساء قتال ولا لهن الطلب بالدماء، وإن أمير المؤمنين لأولي بعثمان منك وأحسن رحما، فإنهما أبناء عبد مناف. قالت: لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت إليه. أفتظن يا أبا الأسود أن أحدا يقدم على قتالي. فقال: أما والله لنقاتلنك قتالا أهونه لشديد. ورجعا إلى عثمان بن حنيف وقال أبو الأسود إنها الحرب فتأهب لها " (2).
ومما سبق يضاف إلى أسباب خروج السيدة عائشة. أن القوم ظنوا أن أحدا لن يجرؤ على قتالها. ويترتب على ذلك أن يقف أمير المؤمنين علي وحده في العراء ومعه قلة لا تغني عنه أمام الكثرة شيئا. وبدأ عثمان بن حنيف يتجهز لصد العدوان. وكان يعلم أن للناكثين أعوانا بالبصرة (3). وأقبلت قوات أم المؤمنين،
____________
(1) المحاسن والمساوئ / البيهقي 1 / 35.
(2) العقد الفريد 2 / 278، الإمامة والسياسة / ابن قتيبة 1 / 57.
(3) الطبري 175 / 5.
حتى إذا انتهوا إلى المربد ودخلوا من أعلاه. أمسكوا ووقفوا حتى خرج ابن حنيف فيمن معه. وخرج إلى السيدة عائشة من أهل البصرة من أراد أن يخرج إليها ويكون معها (1). واصطف الفريقان. وتحدث طلحة فذكر عثمان بن عفان.
ودعا إلى الطلب بدمه. وقال: إن في ذلك إعزاز دين الله عز وجل. وتكلم الزبير بمثل ذلك. وبعد حديثهما انقسم الناس. فقال البعض: صدقا وبرا، وقال البعض الآخر: فجرا وغدرا، وقالا الباطل وأمرا به. قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان " (2)، وكان من نتيجة هذا الانقسام أن تحاتى الناس وتحاصبوا وأرهجوا (3). وعندئذ تكلمت أم المؤمنين. وكانت جهورية يعلو صوتها كثرة كأن صوت امرأة جليلة (4)، فقالت: كان الناس يتجنون على عثمان بن عفان ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيرونا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنا من كلامنا في صلاح بينهم. ثم قالت: ألا إن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيره. أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله عز وجل " (5)، وترتب على بيان السيدة عائشة. افتراق أصحاب عثمان بن حنيف أمير علي فرقتين. فرقة قالت: صدقت والله وجاءت والله بالمعروف. وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما تقولون، فتحاتوا وتحاصبوا وأرهجوا (6)... ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان.
وبينما يضرب الناس بعضهم بعضا بالحجارة. أقبل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين. والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح. إنه كان لك من الله ستر وحرمة.
فهتكت سترك وأبحت حرمتك. إنه من رأي قتالك فإنه يرى قتلك. إن كنت أتيتنا
____________
(1) الطبري 175 / 5.
(2) الطبري 175 / 5.
(3) الطبري 175 / 5.
(4) الطبري 175 / 5 البداية والنهاية 333 / 7.
(5) الطبري 175 / 5 البداية والنهاية 333 / 7.
(6) الطبري 175 / 5 البداية والنهاية 333 / 7.
طائعة فارجعي إلى منزلك. وإن كنت أتيتنا مستكرهة. فاستعيني بالناس " (1)، ولكن فوات أم المؤمنين قامت بتنفيذ أمر القتال الأول الذي سمعه أبو الأسود الدؤلي حين بعثه ابن حنيف إلى السيدة عائشة. وهذا الأمر " لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت إليه (2)، ودار قتال شديد وكثر عدد القتلى في أصحاب ابن حنيف (3)، وتدخلت أطراف لإنهاء هذا النزاع ولكن الأمور كانت تجري بسرعة نحو يوم الجمل. ففي نهاية المطاف تم الاستيلاء على البصرة. وأخرجوا عثمان بن حنيف، من قصره. وروى الطبري: أنهم أرسلوا إلى عائشة يستشيرونها في أمر ابن حنيف فقالت: إقتلوه. فقالت لها امرأة: نشدتك بالله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: احبسوه ولا تقتلوه " (4).
وأمر مجاشع بن مسعود وكان أحد جنود أم المؤمنين بضرب عثمان ونتف شعر لحيته: فضربوه أربعين سوطا ونتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه (5) وخطبت أم المؤمنين: أيها الناس، إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه. مصتموه كما يماص الثوب الرخيص. ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته وخروجه من ذنبه وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا وغصبا أتروني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه. ولا أغضب لعثمان من سيوفكم. ألا إن عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته. فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم. ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان " (6).
وهكذا خرج علي بن أبي طالب من الخلافة عند أول خطوة داخل البصرة
____________
(1) الطبري 176 / 5، البداية والنهاية 233 / 7، الكامل 109 / 3.
(2) العقد الفريد 2 / 278، الإمام والسياسة 1 / 57.
(3) الطبري 177 / 5، البداية 333 / 7.
(4) الطبري 178 / 5، البداية والنهاية 233 / 7.
(5) الطبري 178 / 5، البداية والنهاية 233 / 7.
(6) الإمامة والسياسة 64، 65 / 1، ابن أبي الحديد 357 / 3.
لأنه عندهم من الذين اشتركوا في دم عثمان. وروى اليعقوبي أنهم بعد استيلائهم على البصرة. انتهبوا بيت المال وأخذوا ما فيه. فلما حضر وقت الصلاة تنازع طلحة والزبير وجذب كل منهما صاحبه حتى فات وقت الصلاة. وصاح الناس:
الصلاة الصلاة يا أصحاب محمد، فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: يصلي محمد بن طلحة يوما وعبد الله بن الزبير يوما. وروى ابن الأثير: لما بايع أهل البصرة طلحة والزبير قال الزبير: أريد ألف فارس أسير بهم إلى علي بن أبي طالب أقتله بياتا أو صباحا قبل أن يصل إلينا. فلم يجبه أحد. فقال: إن هذه للفتنة التي كنا نحدث عنها. فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال:
ويلك إنا نبصر ولا تبصر. ما كان أمر قط إلا وأنا أعلم موضع قدمي فيه. غير هذا الأمر. فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر (1)، وعندما لم يجب الزبير أحد. قال طلحة والزبير: إن قدم علينا علي ونحن على هذا الحال من القلة والضعف ليأخذن بأعناقنا. فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب، فبايعهم.
على ذلك الأزد وضبة وقيس غيلان.
وبعث طلحة والزبير إلى أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه وقالا: " وإنا نناشدكم الله في أنفسكم. ألا نهضتم بمثل ما نهضنا به " (2)، وكتبت أم المؤمنين إلى أهل الكوفة بما كان منهم وأمرتهم أن يثبطوا الناس عن علي بن أبي طالب وتحثهم على طلب قتلة عثمان وكتبت إلى أهل اليمامة وإلى أهل المدينة بما كان منهم أيضا وسيرت الكتب (3) وروى ابن الأثير أن أم المؤمنين بعثت إلى أبي موسى الأشعري بكتاب تأمره فيه بملازمة بيته أو نصرتها (4). وكانت سيرة أبي موسى بعد ذلك هي نصره أم المؤمنين على امتداد الطريق. وكتبت عائشة إلى زيد بن صوحان (5) تقول له: " من عائشة ابنة أبي
____________
(1) الكامل 113 / 3، الطبري 183 / 5.
(2) الطبري 181 / 5، الكامل 112 / 3.
(3) الكامل 112 / 3.
(4) الكامل 117 / 3.
(5) كان من الذين سيرهم عثمان وقال النبي فيه: زيد وما زيد وأخبر بأنه في الجنة.
بكر أم المؤمنين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان. أما بعد: فإذا أتاك كتابي هذا. فأقدم فانصرنا على أمرنا هذا.
فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي بن أبي طالب " (1)، فكتب إليها. من زيد بن صوحان إلى عائشة ابنة أبي بكر حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد. فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت هذا الأمر ورجعت إلى بيتك. وإلا فأنا أول من نابذك، وقال زيد رضي الله عنه: " رحم الله أم المؤمنين أمرت أن تلزم بيتها.
وأمرنا أن نقاتل فتركت ما أمرت به وأمرتنا به. وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه " (2).
وروى ابن كثير أن أبا موسى وهو يثبط الناس عن علي. قام زيد بن صوحان وقال للناس: أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين.
سيروا إليه أجمعين " (3)، وإذا سبقنا الأحداث بخطوتين سنجد زيدا على أرض معركة الجمل شهيدا. وروي عنه أنه قال: لا تنزعوا عني ثوبا ولا تغسلوا عني دما فإني رجل مخاصم " (4).
|