5 - أصداء يوم غدير خم:
كان لتحرك أم المؤمنين عائشة أثر عظيم على العديد من الأمصار. وذلك لأن العامة يعلمون أن السيدة عائشة عندما تتكلم فإنها تقف على أرضية ليست بعيدة عن النبي كما أنها قريبة من أرضية الخلافة بعد النبي، والخلفاء يعرف الناس عنهم الكثير، بينما لا يعرفون شيئا عن علي بن أبي طالب. الذي تتحرك مناقبه تحرك النجوم وراء السحب بعد عودة الرواية. وكان لإذاعة أم المؤمنين الأثر الأعظم. وذلك لوفرة المال الذي حمله يعلى بن أمية وعبد الله بن عامر من اليمن والبصرة فضلا عن الدعم القوي من الشام. وكما قال الإمام علي: الناس أعداء ما جهلوا.... فلأن الناس كانوا يجهلون حقيقة الأمور فإن الأرضية التي وقفت عليها أم المؤمنين كانت تكسب كل يوم جديدا. فمكة لم يخرج منها احتجاج واحد. وفي الكوفة يقف في موسى في مربع السيدة عائشة فضلا على أن الكوفة فيها شيعة لطلحة والبصرة لها هوى في الزبير. ومعاوية يراقب من الشام وعمرو بن العاص يتابع من فلسطين... فكل ذلك كان له تأثير على من في المدينة وأصبحت عملية حشد القوات عملية تواجهها صعوبات. والحشد بالمال ليس من سياسة أمير المؤمنين. فهو حجة ويعرف أنه مقتول في نهاية الطريق والحجة المقتول لا وقود له يحركه إلا الدين فالإمام كان يريد الجندي الرسالي الذي ينطلق من الدين وينتهي إلى الدين. لذا سنراه يبكي في آخر الرحلة وهو يتذكر أصحابه الذين قتلوا في المعارك. والجندي الرسالي لا بد له من نصوص لتأتي به إلى دائرة أمير المؤمنين. وبما أن الإمام إذا تحدث عن نفسه
____________
(1) رواه أحمد (الفتح الرباني 31 / 23) والبخاري (الصحيح 280 / 2).
هذا الوقت ربما شكك أعداؤه فيما تفاخر به. وبالذات بعد خروج السيدة عائشة.
فهذا الخروج أوجد التباسا شديدا في تحديد من هم أهل البيت. وهذا التحديد وإن كان عتم عليه في عالم اللارواية. إلا أنه بعد خروج السيدة عائشة زاد التعتم وأضيف إليه الالتباس. فإذا ادعى علي أنه من أهل البيت. جاءه صوت من دائرة الجمل يقول إنه ليس وحده من أهل البيت. بل إنه إذا كان من أهل البيت فإن يده ملطخة بدم عثمان ومن كان كذلك سقطت عنه دعوى أن الله أذهب عنه الرجس وطهره تطهيرا. ومن دخل في هذه الدائرة فليس له حق في قيادة المسلمين. وللمسلمين أن يختاروا وأصحاب السوابق كثير. منهم طلحة والزبير ومعاوية الذي يراقب وغير هؤلاء كثير.. لهذا كله كان الحديث عن المناقب على لسان أمير المؤمنين تواجهه عقبات ستدخل المسلمين في جدل طويل. وهناك من يضع البصرة كهدف هجوم لعملياته الحربية. وكان لا بد أن تأتي المناقب من روايات الساحة ليشهد الإمام لها ويشهد الناس عليها. ولقد رأينا فيما سبق كيف أن ابن عباس جاء بالتحذير الذي حول عمار من داخل الساحة ولم يتحدث هو به. ربما لقربه من الإمام.
وشاء الله تعالى أن تكون البداية من داخل الساحة كي تقام الحجة بلا شبهة. لقد جاءت الرواية ليقف أمير المؤمنين منها موقف الذي يستفسر أولا ثم يقيم الحجة ثانيا. عن رياح بن الحرث قال: جاء رهط إلى علي بالرحبة (1).
فقالوا: السلام عليك يا مولانا. قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب، فقالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم: " من كنت مولاه فإن هذا مولاه " قال رياح: فلما مضوا تبعتهم فسألت من هؤلاء، قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري " (2).
____________
(1) الرحبة / فضاء وفسحة ورحبة المسجد ساحته.
(2) أخرجه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات (الفتح الرباني 126 / 23)، (مجمع الزوائد 104 / 9) وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رجاله ثقات وأورده ابن كثير في البداية (البداية 512 / 5).
ومن عالم الغربة الذي استفسر فيه الإمام علي عن شئ يعرفه انتقل الحديث عن هذا إلى مكان أوسع. فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهدت عليا في الرحبة ينشد الناس: أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه لما قام فشهد. قال عبد الرحمن:
فقام اثنا عشر بدريا كأني أنظر إلى أحدهم عليه سراويل. فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وأزواجي أمهاتهم (1). فقلنا: بلى يا رسول الله. قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (2)، وفي رواية عن زيد بن يثبع قال: أليس الله أولى بالمؤمنين. قالوا: بلى، قال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (3)، وعن أبي الطفيل قال:
جمع علي الناس في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال لما قام (4)، فقام إليه ثلاثون من الناس. وقال أبو نعيم: فقام إليه ناس كثير فشهدوا حين أخذ بيده وقال: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم. قالوا: بلى يا رسول الله. قال:
من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال أبو نعيم:
فخرجت كأن في نفسي شيئا. فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إني سمعت عليا يقول كذا وكذا. قال زيد: فما تنكر؟ قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك " (5).
____________
(1) تحريم زوجات النبي في هذا المقام يعادل تحريم الولاية على غير أصحابها.
(2) رواه أحمد وقال في الفتح أورده الهيثمي وقال: رواه أبو يعلى ورجاله وثقوا (الفتح الرباني 126 / 23).
(3) رواه عبد الله بن أحمد والبزار وقال الهيثمي إسنادهما حسن (الفتح الرباني 127 / 23) وأورده ابن كثير في البداية (211 / 5)، ورواه البزار (كشف الأستار 3 / 190) والطبراني (المعجم الكبير 5 / 175).
(4) يلاحظ أن الإمام لم يقل متن الحديث وإنما استشهدهم أن يقولوا بما سمعوا. إمعانا في الحجة.
(5) قال الهيثمي رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة (الزوائد
وعن عمرو ذي مر وسعيد بن وهب وزيد بن يثبع قالوا: سمعنا عليا يقول:
نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال لما قام. فقام ثلاثة عشر رجلا. فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فأخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره وأخذل من خذله " (1). وفي رواية عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: فقام بضعة عشر رجلا فشهدوا. وكتم قوم فما فنوا من الدنيا إلا عموا وبرصوا " (2)، وأحاديث الرحبة رواها غير واحد (3)، وبعد أن أخذ علي من الناس شهادتهم قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضر الشجرة بخم ثم خرج آخذا بيدي فقال: " أيها الناس ألستم تشهدون أن الله ربكم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تشهدون أن الله ورسوله أولى بكم من أنفسكم وأن الله ورسوله مولاكم، قالوا: بلى، قال: فمن كان الله ورسوله مولاه فإن هذا مولاه. وقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده، كتاب الله سببه بيده وسببه بأيديكم أهل بيتي " (4).
وكان تعريف أهل البيت فيه التباس شديد فمن هم أهل البيت؟ وهل أزواج النبي منهم أم أنهم يساكنونه ويعولهم ولهم احترامهم وإكرامهم؟ وهذا
____________
104 / 9) وقال ابن كثير رواه النسائي إسناده جيد (البداية 210 / 5).
(1) رواه البرار وابن جرير وقال الهيثمي رجال إسناده ثقات (كنز العمال 158 / 13) وقال الألباني إسناده جيد (الصحيحة 343 / 5).
(2) رواه الخطيب في الأفراد (كنز العمال 131 / 13) وابن كثير في البداية (البداية 211 / 5).
(3) رماه البزار ورجاله رجال الصحيح وأبو يعلى ورجاله وثقوا و عبد الله بن أحمد (الزوائد 105 / 9)، وقال ابن كثير في أحاديث الرحبة، روي من طرف متعددة عن علي بن أبي طالب وله طرق متعددة عن زيد بن أرقم وقال سعيد بن جبير: وأنا سمعته من ابن عباس (البداية 349 / 7).
(4) رواه ابن جرير وابن أبي عاصم وابن راهويه والمحاملي بسند صحيح (كنز العمال 140 / 13).
الالتباس كان سببا في ذهاب بعض الناس إلى زيد بن أرقم للوقوف على حقيقة هذا الأمر. وقد يكون ذهابهم إلى زيد قبل خروج أم المؤمنين عائشة وقد يكون بعد ذلك، ولكن الأمر المؤكد أن خروج أم المؤمنين هو الذي أوجد السؤال.
روى الإمام مسلم عن زيد بن حيان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا. رأيت رسول الله وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه. لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال زيد: يا ابن أخي والله لقد كبر سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما حدثتكم فأقبلوا. وما لا فلا تكلفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر. ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس. فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول فأجيب. وأنا تارك فيكم الثقلين. أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور. فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي.
أذكركم الله أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد. أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته!! ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم " (1)، نقول:
وهذه الرواية توسعت في تحديد من هم أهل البيت. وقد روي أن " لكل شئ ذروة "، وآل علي في حديث مسلم في المقدمة. وفي رواية عند مسلم أيضا عندما سألوا زيدا: أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: لا. وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر. ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده " (2)، فإذا كان أهل بيته أصله فإنه في حديث
____________
(1) رواه مسلم في فضائل علي (الصحيح 179 / 15) وأحمد والحاكم (الفتح الرباني 104 / 22).
(2) رواه مسلم (الصحيح 181 / 15) في فضائل علي.
صحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " علي أصلي... " (1)، ويقول النووي في شرحه لحديث مسلم: والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال:
نساؤه لسن من أهل بيته " (2).
كانت هذه رواية مسلم وظهر فيها سؤال يبدو أنه شغل الجميع في وقته.
ولقد رأينا إجابات زيد بن أرقم. وفي روايات أخرى لم ينقطع العديد من الناس عن سؤال زيد. ولقد سئل أن يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع فنزل غدير خم أمر بدوحات فقممن، ثم قام فقال: كأني قد دعيت فأجبت. إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء والأرض.
وعترتي أهل بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما. فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. ثم قال: إن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن. ثم أخذ بيد علي فقال:
من كنت مولاه فعلي وليه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فقيل لزيد: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا قد رآه بعينه وسمعه بأذنه " (3).
لقد شهد زيد على عهد عاد رجاله مع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع. وكما شهد زيد شهد أبو هريرة. روى أنه دخل المسجد فاجتمع إليه الناس فقام إليه شاب فقال: أنشدك بالله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فقال: إني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (4). وإذا كان الصحابة قد
____________
(1) رواه الطبراني في الكبير والضياء بسند صحيح (كنز العمال 602 / 13).
(2) مسلم شرح النووي 181 / 15.
(3) رواه ابن جرير عن زيد وعن أبي سعيد (كنز العمال 104 / 131).
(4) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني ورجال أبي يعلى والطبراني ثقات (الزوائد 106 / 9).
وذكر ابن كثير في البداية (213 / 5).
شهدوا أمام الأجيال بحديث الولاية. فإنهم أيضا شهدوا بحديث المنزلة. روى الإمام مسلم عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. قال سعيد بن المسيب: فأحببت أن أشافه بها سعدا. فلقيت سعدا فحدثته بما حدثني عامر. فقال سعد: أنا سمعته فقلت: أنت سمعته!
فوضع أصبعيه على أذنه وقال: نعم وإلا فأسكتا (أي صمتا) " (1)، وإذا كان الصحابة قد شهدوا على حديث المنزلة. فإن أم المساور كانت لها شهادة أخرى.
فعن المساور الحميري عن أمه قالت: دخلت على أم المؤمنين أم سلمة فسمعتها تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن " (2)، وهكذا اكتملت الدائرة وجاءت المناقب كالنجوم عندما تظهر من وراء السحاب ليلتقي ضوؤها مع ضوء القمر. وكفى بالمناقب الثلاث لتقوم الحجة على أجيال الجمل وصفين والنهروان. وأجيال أخرى عاشت عصورا حق لها أن تبكي بلا احتجاز.
|