متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
4 - نظرات على طريق البغي
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

4 - نظرات على طريق البغي:

عندما بلغ أمير المؤمنين عليا ما استقر عليه طلحة والزبير. قال: والله ما أنكروا منكرا. ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا (1) وإنهم ليطلبون حقا هم تركوه.

ودماهم سفكوه. فإن كنت شريكهم فيه. فإن لهم نصيبهم منه. وإن كانوا ولوه دوني فما المطالبة إلا قبلهم. وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم. وإن معي لبصيرتي. ما لبست ولا لبس علي.

وإنها للفئة الباغية فيها الحمأ والحمة (2). والشبهة المغدقة (3). وإن الأمر لواضح. وقد زاح الباطل عن نصابه (4). وانقطع لسانه عن شغبه (5). وأيم الله لأفرطن لهم حوضا أنا ماتحه (6). لا يصدرون عنه بري، ولا يعبون (7) بعده من حسي " (8).

قال ابن أبي الحديد: والمعنى: والله ما أنكروا علي أمرا هو منكر في الحقيقة. وإنما أنكروا ما الحجة عليهم فيه لا لهم. وحملهم على ذلك الحسد وحب الاستئثار بالدنيا. وقال: ولا جعلوا بيني وبينهم نصعا أي وسيطا يحكم وينصف. بل خرجوا عن الطاعة بغتة. وإنهم ليطلبون حقا تركوه. أي يظهرون أنهم يطلبون حقا بخروجهم إلى البصرة. وقد تركوا الحق بالمدينة. وقال: إن هؤلاء خرجوا ونقضوا البيعة. وقالوا: إنما خرجنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإظهار العدل وإحياء الحق. وإماتة الباطل. وأول العدل أن يحكموا على أنفسهم. فإنه يجب على الإنسان أن يقضي على نفسه ثم على غيره. وإذا

____________

(1) النصف / الأنصاف.

(2) الحمأ / الطين الأسود، حمة العقرب / سمها.

(3) الشبهة المغدقة / أي الخفية.

أي بعد وذهب عن مركزه ومقره.

(5) الشغب / تهييج الشر.

(6) لأفرطن لهم حوضا / أي لأملأن، الماتح / المستفي من فوق.

(7) العب / الشرب بلا مص كما تشرب الدابة.

(8) الحس / ماء كامن في رمل يحفر عنه.

الصفحة 518
كان دم عثمان قبلهم. فالواجب أن ينكروا على أنفسهم قبل إنكارهم على غيرهم. وقال: إن معي لبصيرتي. أي عقلي أي أوضح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لي كل شئ وعرفنيه. وإنها للفئة الباغية. أي الفئة التي وعدت بخروجها علي ثم ذكر بعض العلامات. وقال: إن الأمر لواضح. وقوله هذا يؤكد به عند نفسه وعند غيره. أن هذه الجماعة هي تلك الفئة الموعود بخروجها. ثم أخبر:

وقد ذهب الباطل وزاح. وخرس لسانه. ثم أقسم: ليملأن لهم حوضا هو ماتحه - يسقيهم من فوقه - وهذه كناية عن الحرب والهجاء وما يتعقبهما من القتل والهلاك (1).

وبعد أن كشف الإمام النقاب عن بداية حرب البغاة التي تحمل أسماء مختلفة وتدور رحاها في ميادين مختلفة. بين أن البغاة يسيرون نحو هدف واحد يقتلون عليه بعضهم بعضا ويبذلون في سبيله كل نفيس. وهذا الهدف هو الحكم. قال الإمام بعد نكث طلحة والزبير: " كل واحد منهم يرجو الإمام له.

ويعطفه عليه دون صاحبه ولا يمتان (2) إلى الله بحبل ولا يمدان إليه بسبب. كل واحد منهما حامل ضب (3) لصاحبه. وعما قليل يكشف قناعه به. والله لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعن هذا نفس هذا. وليأتين هذا على هذا. قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون (4). قد سنت لهم السنن. وقدم لهم الخير. ولكل ضال علة. ولكل ناكث شبهة. والله لا أكون كمستمع اللدم (5). يسمع الناعي ويحضر الباكي. ثم لا يعتبر " (6).

فطريق البغي لا يتمسك بحبل الله وأصحاب الرؤوس الكبيرة من صفاتهم أن كل واحد منهم يريد الأمر لنفسه. ولأن هذه هي الحقيقة فإن تحت راياتهم لا

____________

(1) ابن أبي الحديد 151 / 3.

(2) يمتان / يتوسلان.

(3) انصب / الحقد.

(4) المحتسبون / طالبو الأجر (5) مستمع اللدم / كناية عن الضبع حين تسمع وقع الحجر فتستسلم للصائد.

(6) ابن أبي الحديد 206 / 3.

الصفحة 519
يدري المقتول في أي شئ قتل. ولا يرى القاتل إلا طعاما له بريق. والقاتل والمقتول لا يدريان شيئا عن الحقيقة. لأن الراية عمية ومرفوعة في ساحات العصبية. وقد يكون قتال الرجل في هذه الساحات لينصر عصبته. ولكن الحقيقة أن هذا الغضب والقتال والنصر سيصب في نهاية المطاف داخل سلة رؤوس البغاة. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لو أن الناس اعتزلوهم " لأن في الاعتزال نجاة من الموتة الجاهلية يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

" من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية " (1)، وقال: " من قتل تحت راية عمية ينصر العصبية ويغضب للعصبية فقتلته جاهلية " (2). وفي عصر الإمام علي قال الإمام: قد قامت الفئة الباغية. فأين المحتسبون. أي أين طلاب الأجر؟ ثم قال: لكل ضال علة. ولكل ناكث شبهة. كأنه يقول: إذا كانوا قد خرجوا فلا بد أن يكون لهم تأويل في خروجهم. وكل ناكث لا بد له من شبهة يستند إليها.

ولأن الإمام خبير في معرفة الرجال. ولأنه يقاتل على التأويل كما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم على التنزيل. قال: والله لا أكون كمستمع اللدم.

أي: لن يكون كالضبع. تسمع وقع الحجر بباب حجرها من يد الصائد. فتنخذل وتكف جوارحها إليها حتى يدخل عليه فيربطها. ولن يكون مقرا بالضيم راعنا، يسمع المخبر عن القتلى فلا يكون عنده شئ من التغيير والإنكار.

ومن رحمة الله تعالى أنه سبحانه جعل في عصر الصحابة من يرشدهم إلى طريق الصواب. على الرغم من سياسة اللارواية. فأبو ذر كان رواية متحركة في عهد ما وهذه الرواية ينطق بها صمت أبو ذر ويسمعها من أراد الله أن يقيم الحجة عليه. فالرواية المتحركة لها إيقاع خاص ومذاق خاص عند نمط خاص. وكان أبو ذر يبشر الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار. وفي عصر الإمام علي كان عمار رواية متحركة، حجة بذاتها على نوع خاص يدعوهم إلى الجنة

____________

(1) رواه أحمد ومسلم (الفتح الرباني 52 / 23).

(2) رواه مسلم وابن ماجة (كنز العمال 509 / 3).


الصفحة 520
ويدعونه إلى النار. باختصار كان عمار حجة على البغاة. حجة على أول طريقهم وحجة على نهاية طريقهم. وليس معنى أنه قتل في آخر الطريق أنه لم يكن له وجود في أول الطريق. لأن عمارا بمثابة مشعل على طريق طويل. وهذا المشعل وقوده عند علي بن أبي طالب. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: " يا عمار إن رأيت عليا قد سلك واديا. وسلك الناس واديا غيره. فاسلك مع علي ودع الناس. إنه لن يدلك على ردى ولن يخرجك من الهدى " (1)، لهذا كان حذيفة يقول بعد مقتل عثمان: " آمركم أن تلزموا عمارا. قالوا: إن عمارا لا يفارق عليا. قال: إن الحسد هو أهلك الجسد. وإنما ينفركم من عمار قربه من علي. فوالله لعلي أفضل من عمار أبعد ما بين التراب والسحاب. وإن عمارا لمن الأحباب " (2)، وإذا كان طريق علي بن أبي طالب واضحا وضوح الشمس في كبد السماء فإن طريق عمار واضح أيضا فهو ما عرض عليه أمران قط إلا اختار الأرشد منهما (3) وهو على الفطرة (4)، وأجاره الله من الشيطان على لسان نبيه (5)، ومن عاداه عاداه الله ومن أبغضه أبغضه الله (6). باختصار كان عمار يحمل مؤهلات طريق علي بن أبي طالب. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لعلي: " يا علي ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحق فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني " (7)، فإنه قال لعمار الذي يحمل معالم الجندية على طريق علي:

" ستقتلك الفئة الباغية وأنت على الحق. فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني " (8).

وطريق علي بن أبي طالب يبدأ من أول خطوة رفع فيها علي سيفه.

____________

(1) رواه الديلمي (كنز العمال 614 / 11).

(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 243 / 7).

(3) رواه أحمد (الفتح 330 / 22) والحاكم وصححه (المستدرك 388 / 3)، والترمذي وصححه (الجامع 668 / 5).

(4) رواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات (الزوائد 295 / 9).

(5) رواه البخاري في مناقب عمار (الصحيح 305 / 2).

(6) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 293 / 9).

(7) رواه ابن عساكر (كنز العمال 613 / 11).

(8) رواه ابن عساكر (كنز العمال 351 / 11).

الصفحة 521
ولخطورة ضربات سيف علي وما سيترتب عليها حمل عمار أقوى تحذير على الاطلاق: " تقتله الفئة الباغية. يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " وهذا في حد ذاته دعوة للتفكير. فأي قوات ستجابه جيشا فيه عمار. لا يمكن أن تقطع بأن عمارا سيخرج من المعركة سالما وأنه لن يصيبه ما يؤدي إلى قتله. وعلى هذا فمن الواجب أن تعيد هذه القوات ترتيب أوراقها في اتجاه التوبة. وإذا كان هذا التحذير يحيط بعمار. فإن هناك تحذيرا آخر حملته الصحابة منهم أبو رافع.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا رافع سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا.

حق على الله جهادهم. فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه. ومن لم يستطع بلسانه فبقلبه. ليس وراء ذلك شئ " (1)، وذلك حتى لا يدق في أرضية الصحابة أوتاد يأتي عليها الشارد والوارد والسابق واللاحق. وما هي إلا أوتاد فتن لا تصيب الذين ظلموا خاصة بل تتعداهم إلى غيرهم.

ولقد فطن عبد الله بن عباس للتحذير الذي حول عمار. فأراد أن يسمعه الناس بعد بيعة علي بن أبي طالب. حتى يكونوا على بينة من أمرهم قبل أن يفتح طريق البغي. فعن عكرمة أن ابن عباس قال له ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد الخدري فاسمعا من حديثه. قال: فانطلقنا فإذا هو في حائط له. فلما رآنا أخذ رداءه فجاءنا. فقعد. فأنشأ يحدثنا. حتى أتى على ذكر بناء المسجد قال: كنا نحمل لبنة وعمار بن ياسر يحمل لبنتين. فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول: يا عمار ألا تحمل لبنة كما يحمل أصحابك.

قال: إني أريد الأجر من الله. فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " (2)، والدعوة إلى النار لها أصول تحدث عنها حذيفة من قبل وذلك عندما قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: " فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة إلى أبواب جهنم من

____________

(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي فيه يحيى ابن الحسين لم أعرفه وبقية رجاله ثقات (الزوائد 134 / 9).

(2) رواه أحمد والبخاري (الفتح الرباني 331 / 22).

الصفحة 522
أجابهم قذفوه فيها. قال: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " (1)، فاختيار ابن عباس لأبي سعيد الخدري من أجل أن يسمع منه عكرمة وابنه علي. هذا الحديث في عمار كان لحكمة ومن وراء الحكمة هدف.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net