متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
3 - العالم العامل الزاهد
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

3 - العالم العامل الزاهد:

يقول الإمام الزاهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " إني متكلم بعدة الله وحجته. قال الله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة. أن لا تخافوا ولا تحزنوا...)، وقد قلتم: " ربنا الله " فاستقيموا على كتابه. وعلى منهاج أمره. وعلى الطريقة الصالحة من عبادته. ثم لا تمرقوا منها.

ولا تبتدعوا فيها (1). ولا تخالفوا عنها. فإن أهل المروق منقطع بهم عند الله يوم القيامة " (2)، وقال: " فالله الله معشر العباد. وأنتم سالمون في الصحة قبل السقم.

وفي الفسحة قبل الضيق. فاسعوا فكاك رقابكم. من قبل أن تغلق رهائنها.

اسهروا عيونكم. وأضمروا بطونكم. واستعملوا أقدامكم. وأنفقوا أموالكم.

وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم. ولا تبخلوا بها عنها. فقال قال

____________

(1) أي لا تحدثوا ما لم يأت به الكتاب والسنة.

(2) ابن أبي الحديد 385 / 3.

الصفحة 492
الله سبحانه: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) (1)، وقال تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) (2)، فلم يستنصركم من ذل. ولم يستقرضكم من قل. استنصركم وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم. واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغني الحميد.

وإنما أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا. فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره. رافق بهم رسله. وأزارهم ملائكته. وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا. وصان أجسادهم أن تلقى لغوبا ونصبا: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " (3).

مما سبق يتبين أن المتكلم حجة. همته بالله وشغله فيه وفراره إليه. وكان الإمام يقول مخاطبا ساحة عريضة اكتنز فيها الذهب والفضة " لطلب المال والثروة أسرع من خراب دين الرجل من ذئبين ضاريين باتا في حظيرة غنم. ما زالا فيها حتى أصبحا (4)، وقال: " الزهد كله بين كلمتين من القرآن ". قال الله سبحانه:

* (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (5)، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه " (6)، وقال: " فلا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها. ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها. ولا تجزعوا من ضرائها وبؤسها.

فإن عزها وفخرها إلى انقطاع. وزينتها ونعيمها إلى زوال. وضراءها وبؤسها إلى نفاد. وكل مدة فيها إلى انتهاء. وكل حي فيها إلى فناء. أو ليس لكم في آثار الأولين مزدجر. وفي آبائكم الأولين تبصرة ومعتبر إن كنتم تعقلون. أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون. وإلى الخلف الباقين لا يبقون. أو لستم ترون أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى: فميت يبكي. وآخر به يعزي

____________

(1) سورة محمد: الآية 7.

(2) سورة الحديد: الآية 11.

(3) ابن أبي الحديد 454 / 3.

(4) رواه العسكري في المواعظ (كنز العمال 718 / 3).

(5) سورة الحديد: الآية 23.

(6) ابن أبي الحديد 795 / 3.

الصفحة 493
وصريع مبتلي. وعائد يعود وآخر بنفسه يجود. وطالب للدنيا الموت يطلبه.

وغافل وليس بمغفول عنه.. " (1)، وقال: " أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب الأمثال، ووقت لكم الآجال. وألبسكم الرياش (2). وأرفغ لكم المعاش (3). وأحاط بكم الاحصاء، وأرصد (4) لكم الجزاء. وآثركم بالنعم السوابغ، والرفد الروافغ (5). وأنذركم بالحجج البوالغ (6). فأحصاكم عددا.

ووظف لكم مددا. وفي قرارة خبرة. ودار عبرة. وأنتم مختبرون فيها.

ومحاسبون عليها " (7).

فهكذا كان أمير المؤمنين يخاطب رقعة واسعة عليها العديد من النبلاء.

وكان أمير المؤمنين خير قدوة لسياسة الدنيا والآخرة. يقول الشعبي: دخلت الكوفة وأنا غلام. فإذا أنا بعلي بن أبي طالب قائما على صبرتين (8) من ذهب وفضة. ومعه محففة. وهو يطرد الناس بمحففته. ثم يرجع إلى المال فيقسمه.

بين الناس. حتى لم يبق منه شيئا. ثم انصرف ولم يحمل إلى بيته قليلا ولا كثيرا. فرجعت إلى أبي فقلت له: لقد رأيت اليوم خير الناس أو أحمق الناس.

قال: من هو يا بني؟ قلت: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. رأيته يصنع كذا.

فقصصت عليه، فبكى أبي وقال: يا بني بل رأيت خير الناس (9)، وروى ابن كثير عن ابن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد. فقلت: يا أمير المؤمنين. إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبا في هذا المال وأنت ترعد من البرد. فقال: إني والله لا أرزأ من مالكم شيئا. وهذه

____________

(1) ابن أبي الحديد 632 / 2.

(2) الرياش / اللباس.

(3) أرفغ / أي واسعا خصبا.

(4) أرصد / أي أعد.

(5) الرفد الروافغ / الواسعة.

(6) أي الظاهرة المبنية.

(7) ابن أبي الحديد 429 / 2.

(8) أي ما جمع بلا كيل ولا وزن.

(9) ابن أبي الحديد 414 / 1.

الصفحة 494
القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي - أو قال - من المدينة (1)، وروى أن عليا قال: أيها الناس والله الذي لا إله إلا هو ما رزأت من مالكم قليلا ولا كثيرا إلا هذه. وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب وقال: أهداها إلي داهقان (2) وروى أنه كان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل منه. ويقول:

لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم (3)، وروى أنه لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة وكان يأتي بحبوية من المدينة في جراب ليأكل منها (4) وروى أنه كان يكنس بيت المال كل جمعة ويصلي فيه ركعتين ويقول:

ليشهد لي يوم القيامة (5).

والإمام علي بن أبي طالب لم يطالب بفدك وهي حقه. ليس لأن الزمان كان زمان ثورة على المال والذهب والفضة ومطالبته بها سيفتح عليه أبوابا. وإنما لأن فدك كانت ابتلاء لعصر. وإذا كان الإمام لم يأخذ حقه ومفتاح بيت المال في يده. فهو أيضا لم يطالب بفدك وهو على رأس السلطة. وذلك لأنه كان يتعامل مع الأحداث من باب إقامة الحجة ووفقا لمتطلبات الدعوة أما عن أمواله روى أنه قال: " بلى كانت في أيدينا فدك. من كل ما أظلته السماء. فشحت عليها نفوس قوم. وسخت عنها نفوس أخرين. ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك " (6)، وشرح ابن أبي الحديد كلام الإمام فقال: أبي لا مال لي. ولا اقتنيت فيما مضى مالا. وإنما كانت في أيدينا فدك. فشحت عليها نفوس قوم (أي نحلت) وسخت عنها نفوس آخرين. (أي سامحت واغضت)، ثم بين الإمام بعد ذلك. أن تقلله واقتصاره من المطعم والملبس على الجشب والخشن رياضة لنفسه. وأنه يعمل ذلك خوفا من الله. فالرياضة هنا هي رياضة في الحقيقة

____________

(1) البداية والنهاية 3 / 8.

(2) رواه مسدد والحاكم (كنز العمال 168 / 13).

(3) الكامل 201 / 3.

(4) الكامل 201 / 3.

(5) الإمام أحمد في الزهد (كنز العمال 182 / 13).

(6) ابن أبي الحديد 823 / 4.

الصفحة 495
بالتقوى لا بنفس التقلل والتقشف. لتأتي نفسه آمنة يوم الفزع الأكبر وتثبت في مداحض الزلق (1).

وهكذا ترك الإمام الذي له. وعلى مقربة منه جاء قوم ليأخذوا ما ليس لهم. ليكون الذي للإمام حجة عليهم ولقد رأينا مما سبق بعض معالم الحكومة الدينية التي تفتح أبواب التوبة فترسى قواعد حرية الإنسان مما يتوافق مع فطرته التي فطره الله عليها. ولقد رأينا أن الإمام لم يفرض نفسه ولم يهدد معارضيه.

ونشر العلم ولم يتصد للقصاصين وغيرهم بقوة السلاح وإنما بقوة الحجة. ولم يبعث العمال على الأمصار لهدف جمع الأموال وإنما ليكونوا دعاة رحمة يستظل بها الإنسان والحيوان. وكان الإمام أمام هذه المساحة الطويلة والعريضة قدوة ومثل أعلى للعامة والخاصة.

____________

(1) ابن أبي الحديد 824 / 4.

الصفحة 496


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net