متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
2 - إصلاحات علوية
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

2 - إصلاحات علوية:

بدأ أمير المؤمنين عملية الاصلاح عقب مبايعته. ولم تكن عملية الاصلاح في محيط الغصون أو الثمار وإنما بدأت من عند الجذور حيث توجد سياسة تعيين المنافقين وسياسة عدم الرواية والتصريح بالقص والشعر وإغماض الطرف عن صناعة الخمور وسياسة الخراج وتأويل الآيات ووضعها في غير موضعها واكتناز الذهب والفضة إلى غير ذلك من سياسات، ولم تكن عملية الاصلاح والتغيير عملية سهلة فلقد برزت العقبات وجاءت موقعة الجمل بسرعة ومن بعدها هبت رياح هدفها تحطيم كل شئ. ونحن هنا سنلقي الضوء على بعض التغييرات والإصلاحات وليتدبر الباحث في جوهرها.

  • - قرار عزل أمراء الفتن:

    عندما قتل عثمان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ

    ____________

    (1) الطبري 152 / 5.

    (2) رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم (كنز العمال 764 / 5).

    (3) الحاكم (المستدرك 114 / 3).

    الصفحة 463
    بدمه (1). فورد به على معاوية فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس. وندب الناس إلى الأخذ بهذا الثأر، فتباكى الناس حول المنبر. وأصدر معاوية قرارا بأنه لا يقرب الرجال النساء حتى يأخذوا بثأر عثمان (2) وذكر ابن كثير: أن الناس تباكوا حول القميص سنة واعتزلوا النساء في هذا العام (3) وما فعله معاوية يدل على أنه قد أصر على البقاء ولن يرضخ لأي محاولة لعزله. وكان علي قد بعث على الشام سهيل بن حنيف بدل معاوية. فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية فقالوا: من أنت؟ قال: أمير، قالوا: على أي شئ، قال: على الشام، قالوا: إن كان عثمان بعثك فهلا بك وإن كان غيره فارجع. فقال: أوما سمعتم الذي كان - أي هل وصلكم أخبار ما حدث؟! قالوا: بلى، فرجع إلى علي (4)، وعندما جاء ابن عباس وكان يؤدي مناسك الحج دخل على أمير المؤمنين وقال له: يا أمير المؤمنين أنا أشير عليك بأن تثبت معاوية فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله.

    فقال الإمام: لا والله لا أعطيه إلا السيف. ثم تمثل بهذا البيت:

    ما ميتة إن متها غير عاجز * بعار إذا ما غالت النفس غولها

    فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع... أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحرب خدعة. قال الإمام: بلى يا ابن عباس لست من هنيآتك وهنيآت معاوية في شئ. تشير علي وأرى. فإذا عصيتك فأطعني فقال: أفعل إن أيسر ما لك عند الطاعة (5)، وكان المغيرة بن شعبة قد قال له قبل ذلك: إني لك ناصح وإني أشير عليك برد عمال عثمان عامك هذا فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم. فإذا بايعوا لك واطمأن الأمر لك عزلت من أحببت وأقررت من أحببت فقال الإمام: والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدني في أمري. قال المغيرة: فإن كنت قد أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية

    ____________

    (1) روى ابن أم حبيبة أرسلت القميص مع النعمان إلى معاوية (مروج الذهب 379 / 2).

    (2) مروج الذهب.

    (3) البداية والنهاية 228 / 7.

    (4) البداية والنهاية 230 / 7، الطبري 161 / 5.

    (5) الطبري 161 / 5.


    الصفحة 464
    فإن لمعاوية جرأة وهو في أهل الشام يسمع منه. ولك حجة في إثباته كان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام كلها. فقال أمير المؤمنين: لا والله لا أستعمل معاوية يومين أبدا (1) - وفي رواية - إذا كان عمر قد مكن له فأنا لن أمكن له أبدا.

    ولم تكن عملية عزل جميع الولاة عملية سهلة. فعندما فرق أمير المؤمنين عماله على الأمصار على امتداد عام 36 ه‍ كان منهم من يتسلم عمله بهدوء ولكن على أرضية افتراق الناس. فرقة مع تيار بني أمية وفرقة مع جماعة المسلمين. حدث هذا في البصرة وفي مصر (2)، أما أهل الكوفة فإن الغالبية العظمى تمسكوا بأميرهم وأعلنوا بأنهم لا يريدون بأميرهم بدلا وكتب أبو موسى إلى أمير المؤمنين بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم وبين الكاره منهم للذي كان والراضي بالذي كان (3)، وأبو موسى نفسه كان في مستقر النفس وهو يكتب هذا لأمير المؤمنين - وسوف نرى بعد ذلك. كيف كان يضع العقبات في طريق أمير المؤمنين ورأي أمير المؤمنين وعمار فيه. وكانت بقية الأمصار في طاعة أمير المؤمنين ولكن هذه الطاعة تقف على أرضية الخوف من الماضي وطمعا فيما عنده من كنوز. لأنها لا تعرف الحاضر وما حوله من توبة.

  • قرار التسوية في الأموال:

    عن ابن عباس قال: إن عليا خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال:

    ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان. وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال. فإن الحق القديم لا يبطله شئ. ولو وجدته قد تزوج به النساء. وفرق في البلدان لرددته إلى حاله فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق. قال ابن أبي الحديد: وتفسير هذا الكلام أن الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات أموره في العدل. فهي في الجور أضيق عليه. لأن الجائر في مظنة أن

    ____________

    (1) الطبري 160 / 5.

    (2) الطبري 161 / 5.

    (3) الطبري 162 / 5.

    الصفحة 465
    يمنع ويصد عن جوره (1).

    وروي أن عليا أمر بكل سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به على المسلمين. فقبض. وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة. فقبضت.

    وأمر بقبض سيفه ودرعه. وأمر ألا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير داره. وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز عثمان حيث أصيب أو أصيب أصحابها. فلما بلغ عمرو بن العاص ذلك. وكان بأيلة من أرض الشام. كتب إلى معاوية: ما كنت صانعا فاصنع. إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لجاها.

    وقال الوليد بن عقبة وهو أخو عثمان لأمه وصاحب أبي زبيد النصراني وهو يذكر قبض علي بن أبي طالب نجائب عثمان وسيفه وسلاحه:

    بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم * ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
    بني هاشم كيف الهوادة بيننا * وعند علي درعه ونجائبه
    بني هاشم كيف التودد منكم * وبز إبن أروى فيكم وحرائبه
    بني هاشم إلا تردوا فإننا * سواء علينا قاتلاه وسالبه
    بني هاشم إنا وما كان منكم * كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه
    قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه * كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

    فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة من جملتها:

    فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم * أضيع والقاه لدى الروع صاحبه
    وشبهته كسرى وقد كان مثله * شبيها بكسرى هديه وضرائبه

    وكان المنصور إذا أنشد هذا الشعر يقول: لعن الله الوليد. هو الذي فرق بين عبد مناف بهذا الشعر (2)، وهكذا بدأ الإمام علي تحركه. وهكذا بدأ عمرو بن العاص والوليد تحركهما الأول يريد إشعال النار والثاني يريد أموال

    ____________

    (1) ابن أبي الحديد 220 / 1.

    (2) ابن أبي الحديد 220 / 1.

    الصفحة 466
    كسرى وكرسي كسرى. ولكن الإمام لم يبال بهذا ولا بذاك وبدأ في إصلاح السياسة الحالية للخراج. فعندما قدم عليه عبد الله بن زمعة وهو من شيعته وطلب منه مالا فقال له الإمام علي: إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو فئ المسلمين. وجلب أسيافهم فإن شركتهم في حربهم.. كان لك مثل حظهم. وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم (1). فهنا عادت الحقوق للمقاتلة ولم يعد.

    السواد بستانا لقريش. كما عاد التسوية في العطاء. وعندما عوتب الإمام على التسوية في العطاء. وعندما عوتب الإمام على التسوية في العطاء. وتصييره الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل أولى السابقات والشرف على غيرهم. كما كان يحدث من قبل (2) قال الإمام علي: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله لا أطور به ما سمر سمير (3). وما أم نجم في السماء نجما (4). ولو كان المال لي لسويت بينهم.. فكيف وإنما المال مال الله. ثم قال الإمام: ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة. ويكرمه في الناس. ويهينه عند الله. وكم يضع امرؤ ماله في غير حقه وعند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم. وكان لغيره ودهم. فإن زلت به الفعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشر خليل. وألام خدين (5). أي: لو احتاج إليهم يوما عند عثرة يعثرها لم يجدهم (6).

    وكان أمير المؤمنين يراقب عماله في الأمصار من ناحية تصرفهم في الأموال: روي أنه كتب إلى زياد وكان خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة وكان عبد الله عامل أمير المؤمنين عليها وعلى كور الأهواز وفارس وكرمان وغيرها: وإني أقسم بالله قسما صادقا. لئن بلغني أنك خنت من فئ

    ____________

    (1) ابن أبي الحديد 72 / 4.

    (2) راجع كتاب سيرة عمر لابن الجوزي، ابن أبي الحديد 4 / 3.

    (3) أي ما أقام الدهر وما بقي.

    (4) أي قصد وتقدم لأن النجوم تتبع بعضها بعضا.

    (5) الخدين / الصديق.

    (6) ابن أبي الحديد 3 / 3.

    الصفحة 467
    المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا. لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر (1). ثقيل الظهر (2)، ضئيل الأمر (3)، والسلام (4)، وروي أنه رضي الله عنه كتب إلى بعض عماله: أما بعد. فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك.

    وعصيت إمامك. وأخزيت أمانتك (5). بلغني أنك جردت الأرض (6) وأخذت ما تحت قدميك وأكلت ما تحت يديك. فارفع إلي حسابك. واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس. والسلام (7) وكتب إلى عامله على أردشير: بلغني عنك أمر. إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك وعصيت إمامك.. أنك تقسم فئ المسلمين فيمن أعتامك من أعراب قومك. فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة. لئن كان ذلك حقا. لتجدن لك علي هوانا. ولتخفن عندي ميزانا. فلا تستهن بحق ربك. ولا تصلح دنياك بمحق دينك. فتكون من الأخسرين أعمالا. ألا وإن حق من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفئ سواء. يردون عندي عليه ويصدرون (8) والمعنى: أنه نهى عن أن يقسم الفئ على أعراب قومه الذين اتخذوه سيدا ورئيسا. ويحرم المسلمين الذين حازوه بأنفسهم وسلاحهم.

    وكتب إلى عامله على آذربيجان: وإن عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة. وأنت سترعى لمن فوقك. ليس لك أن تقتات في رعية. ولا تخاطر إلا بوثيقة. وفي يدك مال من مال الله عز وجل. وأنت من خزانه حتى تسلمه إلي " (9).

    ____________

    (1) أي أفقرك بأخذ ما احتجت من بيت مال المسلمين.

    (2) أي مسكين لا تقدر على مؤونة عيالك.

    (3) أي حقير لأنك إذا افتقرت صغرت عند الناس.

    (4) ابن أبي الحديد 568 / 4.

    (5) أي أذللتها وأهنتها.

    (6) أي قشرتها.

    (7) ابن أبي الحديد 792 / 4.

    (8) ابن أبي الحديد 801 / 4.

    (9) ابن أبي الحديد 309 / 4.

    الصفحة 468
    كان هذا ضوءا على قرارات الإمام علي بخصوص الفئ ومنها علمنا أن الذين شاركوا في الحروب لا تكون حقوقهم لغيرهم. كما علمنا أن الإمام كان يسوي بين الناس في العطاء. وكان يتعامل مع المال على أنه مال الله. وبنظرة سريعة أيضا على أموال الصدقة نجد أنه كان يتعامل مع هذا المال بدقة شديدة فعامله على الصدقة يتحرك وفقا لأوامر عمودها الفقري يقوم على الرحمة وعندما تصل الصدقات إلى الإمام فإنه يعطيها لمن أوجبها الله لهم. ومن وصية كان رضي الله عنه يكتبها لمن يستعمله على الصدقات سترى كيف كان يقيم عماد الحق في صغير الأمور وكبيرها. يقول الإمام في وصيته: إنطلق على تقوى الله وحده لا شريك له. ولا تروعن (1) مسلما. ولا تجتازن عليه كارها (2). ولا تأخذ منه أكثر من حق الله في ماله. فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم (3). ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم. ولا تخدج بالتحية لهم ثم تقول: عباد الله. أرسلني إليكم ولي الله وخليفتكم لآخذ منكم حق الله في أموالكم. فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل: لا. فلا تراجعه. وإن أنعم لك منعم (4) فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده، أو تعسفه (ذ) أو ترهقه (6). فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه. فإن أكثرها له. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به. ولا تنفرن بهمة ولا تفز عنها.

    ولا تسوءن صاحبها فيها (7). واصدع المال صدعين ثم خيره (8). فإذا اختار فلا

    ____________

    (1) أي لا تفر عن.

    (2) أي لا تمرن ببيوت أحد من المسلمين يكره مرورك.

    (3) وذلك لأن الغريب يحمد منه الانقباض.

    (4) أي قال لك نعم.

    (5) أي لا تأخذ منه الصدقة عسفا.

    (6) أي لا تكلفه العسر والمشقة.

    (7) أي لا تغموه ولا تحزنوه.

    (8) أي شقه نصفين ثم خيره.

    الصفحة 469
    تعرضن لما اختاره. ثم اصدع الباقي صدعين. ثم خيره. فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله. فاقبض حق الله منه. فإن استقالك فأقله. ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق الله في ماله. ولا تأخذن عودا (1) ولا هرمة (2) ولا مكسورة (3) ولا مهلوسة (4) ولا ذات عوار ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه. رافقا بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم. ولا توكل بها إلا ناصحا شفيقا وأمينا حفيظا. غير معنف (5) ولا مجحف (6) ولا ملعب (7) ولا متعب. ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك. نصيره حيث أمر الله. فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه ألا يحول بين ناقة وبين فصيلها. ولا يمصر لبنها (8) فيضر ذلك بولدها. ولا يجهدنها ركوبا. وليعدل بين صواحباتها في ذلك وبينها وليرفه على اللاغب.

    وليستان بالنقب والظالع (10). وليوردها ما تمر به من الغدر (11). ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق. وليروحها في الساعات. وليمهلها عند النطاف (12) والأعشاب. حتى تأتينا بإذن الله بدنا (13) منقبات (14). غير متعبات ولا مجهودات لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. فإن ذلك

    ____________

    (1) العود / المسن من الإبل.

    (2) المسنة أيضا.

    (3) التي إحدى قوائمها مكسورة.

    (4) المريضة.

    (5) المعنف / ضد الرفق.

    (6) الذي يسوق المال سوقا عنيفا فيهلكه.

    (7) متعب.

    (8) حلب ما في الضرع جميعا.

    (9) أي أمره أن يستأني بالبعير ذي النقب لرقة خفه حتى لا تجرحه الأرض.

    (10) أي الذي غمز في مشيه.

    (11) جمع غدير الماء.

    (12) الماء الصافي القليل.

    (13) أي السمان.

    (14) أي ذوات شحم ولحم.

    الصفحة 470
    أعظم لأجرك وأقرب لرشدك إن شاء الله " (1).

    وتقسيم الصدقات على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يعني أن سهم المؤلفة قلوبهم قد وجد له طريقا في عهد الإمام. والإمام وحده أدرى الناس بطبيعة من حوله.

  • قرارات قيادية:

    لم تكن مهمة الإمام محصورة في بيت المال لأنه حجة والحجة لها دعوة ونحن سنسلط ضوءا على بعض رسائله إلى عماله لنرتشف رحيق الدعوة من خلالها. كتب إلى عامله صاحب جند حلوان: أما بعد. فإن الوالي إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل. فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء. فإنه ليس في الجور عوض من العدل. فاجتنب ما تنكر أمثاله. وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك. راجيا ثوابه. ومتخوفا عقابه. واعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة وإنه لن يغنيك عن الحق شئ أبدا. ومن الحق عليك حفظ نفسك. والاحتساب على الرعية بجهدك. فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك.

    والسلام (2).

    لقد بين له أنه إذا اختلف هوى الوالي منعه كثيرا من الحق. لأنه متى لم يكن الخصمان عند الوالي سواء في الحق جار وظلم. وفي النهاية ذكره بالآخرة، ومن كتاب له رضي الله عنه إلى الحارث الهمداني وكان أحد الفقهاء قال: تمسك بحبل القرآن واستنصحه وأحل حلاله. وحرم حرامه. وصدق بما سلف من الحق. واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها. فإن بعضها يشبه بعضا. وآخرها لاحق بأولها. وكلها حائل مفارق. وعظم اسم الله أن تذكره إلا على حق. وأكثر ذكر الموت وما بعد الموت ولا تتمن الموت إلا بشرط وثيق. واحذر كل عمل

    ____________

    (1) ابن أبي الحديد 578 / 4.

    (2) ابن أبي الحديد 105 / 5.

    الصفحة 471
    يرضاه صاحبه لنفسه. ويكرهه لعامة المسلمين. واحذر كل عمل يعمل به في السر. ويستحي منه في العلانية. واحذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره واعتذر منه. ولا تجعل عرضك غرضا لنبال القوم. ولا تحدث الناس بكل ما سمعت به. فكفى بذلك كذبا. ولا ترد على الناس كل ما حدثوك به. فكفى بذلك جهلا. واكظم الغيظ واحلم عند الغضب. وتجاوز عند المقدرة. واصفح مع الدولة تكن لك العاقبة. واستصلح كل نعمة أنعمها الله عليك. ولا تضيعن نعمة من نعم الله عندك. ولير عليك أثر ما أنعم الله به عليك (1)، ومن كتابا له إلى عامله على مكة (2) قال: أما بعد. فأقم للناس الحج، وذكرهم بأيام الله.

    واجلس لهم العصرين. فأفت المستفتي وعلم الجاهل. وذكر العالم. ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك ولا حاجب إلا وجهك. ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها. فإنها إذا ذيدت عن أبوابك في أول وردها. لم تحمد فيما بعد على قضائها. وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة. مصيبا به مواضع المفاقر والخلات. وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا. ومر أهل مكة ألا يأخذوا من ساكن أجرا.

    فإن الله سبحانه يقول: (سواء العاكف فيه والباد) فالعاكف: المقيم به.

    والبادي: الذي يحج إليه من غير أهله. وفقنا الله وإياكم لمحابه والسلام " (3).

    ولما كنا قد سلطنا الضوء هنا على بعض وصايا الأيام علي لعماله فإننا نرى أنه لا ينبغي لنا أن ننهي هذا الضوء إلا بعد أن نسلطه على كتاب الإمام إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر. وهذا الكتاب وضع موضع العناية منذ أقدم العصور إلى يوم الناس هذا عند الكثير من رجال العلم. وأعلام الأدب. وأساتذة القانون. فلقد تناولوه درسا وبحثا. وأوسعوه شرحا وتعليقا. وأفردوا فيه المؤلفات، وترجموه إلى بعض اللغات (4) وكتاب أمير المؤمنين إلى مالك

    ____________

    (1) ابن أبي الحديد 226 / 5.

    (2) هو قثم ابن العباس.

    (3) ابن أبي الحديد 229 / 5.

    (4) راجع مصادر نهج البلاغة / السيد الحسيني الخطيب 426 / 3.

    الصفحة 472
    الأشتر يعتبر عهدا جامعا شاملا وهو أطول عهد. ولطوله سنورد فقرات منه ومن أراد أن يقف على الخطاب بطوله فعليه بالمطولات. قال الإمام بعد أن أمر بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه:... وأشعر قلبك الرحمة (1) للرعية. والمحبة لهم. واللطف بهم. ولا تكن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم. فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين. وإما نظير لك في الخلق (2). يفرط منهم الزلل. وتعرض لهم العلل. ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ. فاعطهم من عفوك وصفحك. مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه. فإنك فوقهم. ووالي الأمر عليك فوقك. والله فوق من ولاك. وقد استكفاك أمرهم. وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب الله (3).

    فإنه لا يدي لك بنقمته. ولا غنى بك عن عفوه ورحمته. ولا تندمن على عفو.

    ولا يتبجحن بعقوبة. ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنها مندوحة. ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع (4). فإن ذاك إدغال (5) في القلب. ومنهكة للدين (6). وتقرب من الغير. وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة. فانظر إلى عظم ملك الله فوقك. وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك. فإن ذلك يطامن إليك طماحك. ويكف عنك من غربك (7). ويفئ إليك بما عزب عنك من عقلك. إياك ومساماة الله في عظمته (8). والتشبه به في جبروته. فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال. أنصف الله (9) وأنصف الناس من نفسك. ومن

    ____________

    (1) أي إجعلها كالشعار له.

    (2) فالرعية إما أخوك في الدين أو إنسان مثلك تقتضي رقة الجنسية وطبع البشرية الرحمة له.

    (3) أي لا تبارزه بالمعاصي.

    (4) أي لا تقل: إني أمير ووال آمر بالشئ فأطاع.

    (5) الإدغال / الإفساد.

    (6) ومنهكة للدين: ضعف وسقم.

    (7) الغرب: حد السيد.

    (8) أي مباراته في السمو، وهو العلو.

    (9) أي قم له بما فرض عليك من العبادات.

    الصفحة 473
    خاصة أهلك. ومن لك هوى فيه من رعيتك. فإنك إلا تفعل تظلم. ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده. ومن خاصمه الله أدحض حجته. وكان لله حربا حتى ينزع أو يتوب. وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم. فإن الله يسمع دعوة المضطهدين. وهو للظالمين بالمرصاد.

    وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق. وأعمها في العدل. وأجمعها لرضا الرعية. فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة. وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة.

    قال ابن أبي الحديد: قال له: أنصف الناس من نفسك ومن ولدك وخاصة أهلك ومن تحبه وتميل إليه من رعيتك فحتى لم تفعل ذلك كنت ظالما. ثم قال الإمام:

    وليكن أبعد رعيتك منك. وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس. فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها. فإنما عليك تطهير ما ظهر لك. والله يحكم على ما غاب عنك. فاستر العورة ما استطعت. يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد. واقطع عنك سبب كل وتر. وتغاب عن كل ما لا يضح لك. ولا تعجلن إلى تصديق ساع. فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين. ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل. ويعدك الفقر. ولا جبانا يضعفك عن الأمور. ولا حريصا يزين لك الشره بالجور. فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.

    إن شر وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيرا. ومن شكرهم في الآثام فلا يكن لك بطانة. فإنهم أعوان الأئمة. وإخوان الظلمة. وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم. وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم. ممن لم يعاون ظالما على ظلمه. ولا آثما على إثمه. أولئك أخف عليك مؤونة وأحسن لك معونة. وأحنى عليك عطفا. وأقل لغيرك إلفا. فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك.

    وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه. واقعا ذلك من هواك

    الصفحة 474
    حيث وقع.

    قال ابن أبي الحديد: نهاه رضي الله عنه أن يتخذ بطانة قد كانوا من قبل بطانة للظلمة. وذلك لأن الظلم وتحسينه قد صار ملكة ثابتة في أنفسهم. فبعيد أن يمكنهم الخلو منها إذ قد صارت كالخلق الغريزي اللازم لتكرارها وصيرورتها عادة. فقد جاءت النصوص في الكتاب والسنة بتحريم معاونة الظلمة ومساعدتهم وتحريم الاستعانة بهم. فإن من استعان بهم كان معينا لهم قال تعالى: (وما كنت متخذ المضلين عضدا) (1)، وقال: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) (2)، ثم يقول الإمام في كتابه:

    " والصق بأهل الورع والصدق. ثم رضهم على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله. فإن كثرة الاطراء تحدث الزهو. وتدني من العزة. ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء. فإن في ذلك تزهيدا لأهل الاحسان في الاحسان. وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة. وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه.

    واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن وال برعيته من إحسانه إليهم. وتخفيفه المؤونات عليهم. وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم. فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك. فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا. وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده... واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض. ولا غنى ببعضها عن بعض. فمنها جنود الله. ومنها كتاب العامة والخاصة. ومنها قضاة العدل. ومنها عمال الإنصاف والرفق. ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس.

    ومنها التجار وأهل الصناعات. ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة. وكل قد سمى الله له سهمه. ووضع على حده وفريضته في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله عهدا منه عندنا محفوظا.

    فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن.

    ____________

    (1) سورة الكهف: الآية 51.

    (2) سورة المجادلة: الآية 22.

    الصفحة 475
    وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم. ويعتمدون عليه فيما يصلحهم. ويكون من وراء حاجتهم. ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاء والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقد. ويجمعون من المنافع. ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها. ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات. فيما يجتمعون عليه من مرافقتهم. ويقيمونه من أسواقهم. ويكفونهم من الترفق بأيديهم مما لا يبلغه رفق غيرهم.

    ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة. الذين يحق رفدهم ومعونتهم. وفي الله لكل سعة. ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه. وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله تعالى من ذلك. إلا بالاهتمام والاستعانة بالله. وتوطين نفسه على لزوم الحق والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل. فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك. وأطهرهم جنبا. وأفضلهم حلما. ممن يبطئ عن الغضب. ويستريح إلى العذر. ويرأف بالضعفاء (1).

    وينبو على الأقوياء (2). وممن لا يثيره العنف (3). ولا يقعد به الضعف (4). ثم الصق بذوي المروءات والأحساب. وأهل البيوتات الصالحة. والسوابق الحسنة.

    ثم أهل النجدة والشجاعة. والسخاء والسماحة. فإنهم جماع من الكرم. وشعب من العرف. ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما. ولا يتفاقمن في نفسك شئ قويتهم به. ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل. فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك. وحسن الظن بك. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها. فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به. وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه. وليكن أثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته. وأفضل عليهم من جدته. بما يسعهم ويسمع من وراءهم من خلوف

    ____________

    (1) أي: الذي يقبل أدنى عذر ويستريح له ويسكن عنده. ويرفق بالضعفاء ويرحمهم.

    (2) أي يتجافى عنهم ويبعد. أي لا يمكنهم من الظلم والتعدي على الضعفاء.

    (3) أي لا يهيج غضبه عنف وقسوة.

    (4) أي ليس عاجزا.

    الصفحة 476
    أهليهم (1). حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو. فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك. ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم. وقلة استثقال دولهم (2). وترك استبطاء انقطاع مدتهم. فافسح في آمالهم. وواصل من حسن الثناء عليهم. وتعديد من أبلى ذوي البلاء منهم. فإن كثرة الذكر لحسن فعالهم تهز الشجاع. وتحرض الناكل. إن شاء الله. ثم عرف لكل امرئ منهم ما أبلى. ولا تضمن بلاء امرئ إلى غيره (3). ولا تقصرن به دون غاية بلائه. ولا يدعونك شرف امرئ إلي أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا. ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما. واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب. ويشتبه عليك من الأمور. فقد قال تعالى لقوم أحب إرشادهم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول)، فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه. والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.

    ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك. ممن لا تضيق به الأمور. ولا تمحكه الخصوم (4). ولا يتمادى في الزلة (5). ولا يحرص من الفئ إلى الحق إذا عرفه (6). ولا تشرف نفسه على طمع (7). ولا يكتفي بأدنى منهم دون أقصاه (8). وأوقفهم في الشبهات. وآخذهم بالحجج. وأقلهم تبرما

    ____________

    (1) أي ممن يخلفونه من أولادهم وأهليهم.

    (2) أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا أحبوا أمراءهم ثم لم يستثقلوا دولهم. ولم يتمنوا زوالها.

    (3) أي اذكر كل من أبلى منهم مفردا غير ضموم ذكر بلائه إلى غيره. كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره.

    (4) أي تجعله ماحكا. أي لجوجا.

    (5) أي إن زل رجع وأناب.

    (6) نفس المعنى السابق.

    (7) أي لا تشفق.

    (8) أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم بل يبحث أشد البحث.

    الصفحة 477
    بمراجعة الخصم (1). وأصبرهم على كشف الأمور. وأصرمهم (2) عند إيضاح الحكم. ممن لا يزدهيه إطراء. ولا يستمليه إغراء. وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه. وأفسح له في البذل ما يزيح علته. وتقل معه حاجته إلى الناس. وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك. ليأمن بذلك اغتياب الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظرا بليغا. فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي أشرار (3). يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا. ثم انظر في أمور عمالك.

    فاستعملهم اختبارا. ولا تولهم محاباة وأثرة. فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة. وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة. والقدم في الإسلام المتقدمة. فإنهم أكرم أخلاقا. وأصح أعراضا. وأقل في المطامع إشرافا. وأبلغ في عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الأرزاق. فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم. وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم. وحجة عليهم إن خالفوا أمرك. أو ثلموا أمانتك. ثم تفقد أعمالهم. وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم. فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة. والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان. فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتملت بها عليه عندك أخبار عيونك. اكتفيت بذلك شاهدا. فبسطت عليه العقوبة في بدنه. وأخذته بما أصاب من عمله. ثم نصبته بمقام الذلة. ووسمته بالخيانة. وقلدته عار التهمة. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله. فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم. ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم. لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج. لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد. وأهلك العباد... ولم يستقم أمره إلا قليلا. فإن شكوا

    ____________

    (1) أي تضجرا.

    (2) أي: اقطعهم وأمضاهم.

    (3) هذه إشارة إلى قضاة عثمان وحكامه وإنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده. بل بالهوى لطلب الدنيا.

    الصفحة 478
    ثقلا (1) أو علة (2). أو انقطاع شرب (3)، أو بالة (4). أو إحالة أرض اغتمرها غرق (5). أو أجحف بها عطش (6). خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم.

    ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم. فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك. وتزيين ولايتك. مع استجلابك حسن ثنائهم. وتبجحك باستفاضة العدل فيهم. معتمدا فضل قوتهم. بما ذخرت عندهم من إجماعك لهم. والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم ورفقك بهم. فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه. طيبة أنفسهم به. فإن العمران محتمل ما حملته. وإنما يؤتى خراب الأرض عن أعواز أهلها. وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع. وسوء ظنهم بالبقاء. وقلة انتفاعهم بالعبر، ثم انظر في حال كتابك. فول على أمورك خيرهم. واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكايدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة.

    فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ. ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك. وإصدار جواباتها على الصواب عنك. وفيما يأخذ لك ويعطى منك. ولا يضعف عقدا اعتقده لك. ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك.

    ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور. فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك.

    فإن الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن حديثهم. وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ. ولكن اختبرهم بما ولوا الصالحين قبلك. فأعمد لأحسنهم كان في العامة أثرا. وأعرفهم بالأمانة وجها. فإن ذلك دليل على نصيحتك الله. ولمن وليت أمره. واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم، لا

    ____________

    (1) أي ثقل الخراج المضروب عليهم.

    (2) أو علة / أي نحو ما يصيب الغلة آفة كالجراد والبرد.

    (3) أي ينقص الماء.

    (4) بالة / يعني المطر.

    (5) أي أن الأرض غمرها الغرق وأفسدها.

    (6) أي أتلفها.

    الصفحة 479
    يقهره كبيرها. ولا يتشتت عليه كثيرها. ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته.

    ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات. وأوصى بهم خيرا. المقيم منهم والمضطرب بماله. والمترفق ببدنه. فإنهم مواد المنافع. وأسباب المرافق.

    وجلابها من المباعد والمطارح (1). في برك وبحرك. وسهلك وجبلك. وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها. ولا يجترئون عليها. فإنهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته. وتفقد أمورهم بحضرتك. وفي حواشي بلادك. واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقا فاحشا. وشحا قبيحا. واحتكارا للمنافع.

    وتحكما في البياعات. وذلك باب مضرة للعامة. وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه. وليكن البيع سمحا بموازين عدل. وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع. فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به. وعاقبه من غير إسراف.

    ثم الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم. من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني (2). فإن في هذه الطبقة قانعا (3) ومعترا (4).

    واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم. واجعل لهم قسما من بيت مالك. وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد. فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه (5). ولا يشغلنك عنهم بطر. فإنك لا تعذر بتضييع التافه (6) لإحكامك الكثير المهم. فلا تشخص همك عنهم، ولا خدك لهم. وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم. ممن تقتحمه العيون (7). وتحقره الرجال. ففرغ

    ____________

    (1) الأماكن البعيدة.

    (2) أي البؤس وأولو الزمانة.

    (3) القانع / السائل.

    (4) المعتر، الذي يعرض لك ولا يسألك.

    (5) أي كل فقراء المسلمين سواء في سهامهم ليس فيهم أقصى وأدنى.

    (6) التافه / الحقير.

    (7) أي تزدريه وتحتقره.

    الصفحة 480


  •  شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

    إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net