1 - يوم الشورى:
من الثابت أن عمر بن الخطاب قال: لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا استخلفته. ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته (3)، وفي رواية عند الإمام أحمد: لو أدركني أحد الرجلين ثم جعلت الأمر إليه لوثقت به. سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة بن الجراح (4). ثم اختار عمر ستة من الصحابة وصفهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو راض عنهم وهم:
عثمان بن عفان. عبد الرحمن بن عوف. سعد بن أبي وقاص. الزبير بن العوام.
طلحة وعلي بن أبي طالب. وأمر عمر صهيب أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، وأن يدخل هؤلاء الرهط بيتا ويقوم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبى واحد، على صهيب أن يطيح رأسه بالسيف. وإن اتفق أربعة وأبى اثنان يضرب رؤوسهما وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فعليه أن يكون مع الذين فيهم عبد الرحمن بن
____________
(1) أنظر ترجمة ناسق اليهودي.
(2) الطبري 15 / 5، ابن كثير في البداية باختصار 133 / 7.
(3) الطبري 34 / 5، تارخ الخلفاء ص 127.
(4) الإمام أحمد (الفتح الرباني 91 / 23).
عوف ويقتل الباقين (1)!!.
ومن العجيب أن عمر بن الخطاب كان يخاف أن يطلق الصحابة في الأمصار، ونهاهم عن مخالطة الناس لأنه رأى في ذلك أسى الفساد في الأرض.
ثم نراه قد أطلقهم على دائرة الإمارة والخلافة، الأمر الذي أدى بعد ذلك إلى التنافس بعد أن رسخت في نفوس البعض من أهل الشورى حب الخلافة. ومن الصعب أن تأتي بجندي وترشحه للخلافة ثم تقول له بعد ذلك زاحم في الصفوف الأخيرة للجنود.
ومن العجيب أيضا أن يقول عمر لأهل الشورى: إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء (2)، خوفا منه لئلا يطمع الطلقاء في الملك، في الوقت الذي لم يخف حين جعلها في ستة متساوين في الشورى مرشحين للخلافة (3). ومن الأعجب أن يشهد عمر بأنه أهل الشورى مات النبي وهو عنهم راض، ثم يأمر بضرب أعناقهم إن تأخروا في البيعة أكثر من ثلاثة أيام، ومعلوم أنهم بذلك لا يستحقون القتل لأنهم كلفوا أن يجتهدوا في اختيار الإمام، وربما يطول زمن الاجتهاد وربما قصر. وعلى هذا فأي معنى للقتل، إذا تجاوز الأيام الثلاثة؟ ثم إنه أمر بقتل من يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن، وهذا أيضا لا يستحق القتل. ثم أي إجماع وأي شورى وأي اختيار لمن يجلس والسيف على رأسه ويتهدد بالقتل؟ ثم كيف يقتل من ورد فيهم أحاديث بأنهم من أهل الجنة؟
وما هو رأي المسلمين لو سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر يقول اقتلوا أهل الشورى؟ ونحن لا ندري ما الذي حمل عمر على الوقوع في هذا الارتباك وقد كان قادرا على أن يستخلف أصلح القوم وهو يعرفهم واحد واحد!
وروي أن أمراء الأجناد كانوا مع عمر بن الخطاب عند أدائه مناسك الحج
____________
(1) هذا الخبر أجمعت عليه الأمة وأرسله علماء الحديث والتاريخ إرسال المسلمات. (راجع الكامل 36 / 3)، (كنز العمال 743 / 5).
(2) ابن سعد (كنز العمال 735 / 5).
(3) فتح الباري كتاب الأحكام (197 / 13).
وقدموا معه إلى المدينة وهم: معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمير بن سعد أمير حمص، والمغيرة ابن شعبة أمير الكوفة، وأبو موسى الأشعري أمير البصرة، وعمرو بن العاص أمير مصر (1)، فهذه الحزمة الواحدة كانت موجودة يوم الشورى، وروي أن عبد الرحمن بن عوف خرج ليشاور الناس ودار لياليه يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان (1). وروي أن عليا عندما علم بما يفعله عبد الرحمن لقى سعد بن أبي وقاص وقال له: اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أن الله كان عليكم رقيبا. أسألك برجم ابني هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرحم عمي حمزة منك أن لا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا علي فإني أولى بما لا يدلي به عثمان (2)، وذكر البخاري أن عبد الرحمن بن عوف كان يخشى من علي بن أبي طالب شيئا (3) ولكنه لم يفصح عن هذا الشئ.
وكان عمار بن ياسر ميزانا للساحة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي يبغض عليا فعليه بعمار بن ياسر ليرشده إلى طريق الحق الذي لن يجد فيه إلا علي بن أبي طالب. روى البخاري أن عمارا أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم (4). وعمار قال فيه النبي: ابن سمية ما عرض عليه أمران قط إلا اختار الأرشد منهما (5)، ويوم الشورى قال عبد الرحمن بن عوف: إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم (6). فقام عمار بن ياسر وقال: إن أردت أن لا يختلف
____________
(1) الطبري 36 / 5.
(2) الطبري 36 / 5.
(3) البخاري كتاب الأحكام (الصحيح 246 / 4).
(4) البخاري في مناقب عمار (الصحيح 305 / 2).
(5) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 330 / 22) والترمذي وصححه (الجامع 668 / 5) والحاكم، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين (المستدرك 388 / 3).
(6) الطبري 37 / 5.
المسلمون فبايع عليا (1). وفي رواية قال: يا معشر قريش أما إذا صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة وههنا مرة، فما أنا بآمن من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله (2)، فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار إن بايع عبد الرحمن عليا قلنا سمعنا وأطعنا. فقال عبد الله بن أبي السرح - وكان النبي قد أحل دمه واختفى عند عثمان - يا عبد الرحمن إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان. فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدق إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا. فشتم عمار بن ياسر بن أبي السرح وقال: متى كنت تنصح المسلمين؟ ثم قال: أيها الناس إن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم.
فقال له رجل من بني مخزوم (3): لقد عدوت طورك يا ابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها (4). وكل ذلك كان يجري وأمراء الأمصار في المدينة يراقبون.
وكان علي بن أبي طالب في هذا الوقت يقف في دائرة إقامة الحجة وليس له أن ينازع في أمر طريق الاختيار فيه مفتوح، وعلى الاختيار يأتي إما الأمن وإما الخوف والاستدراج. لقد أقام الحجة على سعد بن أبي وقاص عندما قال له: لا تكن مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا علي. وأقام الحجة عليهم جمعيا فيما رواه أبو الطفيل قال: كنت على الباب يوم الشورى، فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليا يقول: بايع الناس لأبي بكر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق به منه فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم بايع الناس عمر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق به منه فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم
____________
(1) الطبري 37 / 5.
(2) مروج الذهب / المسعودي 322 / 2.
(3) بني مخزوم ضمن القبائل التي ذمها رسول الله صلى الله عليه وآله وأمر بجهادهم في الإسلام. رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه (كنز العمال 480 / 2).
(4) الطبري 37 / 5.
أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذا أسمع وأطيع. إن عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلا عليهم في الصلاح ولا يعرفونه لي، كلنا فيه شرع سواء، وأيم الله لو أشاء أن أتكلم ثم لا يستطيع عربيهم ولا عجميهم ولا المعاهد منهم ولا المشرك رد خصلة منها لفعلت. ثم قال: نشدتكم الله أيها النفر جميعا أفيكم أحد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري؟ قالوا: اللهم لا (1).
وفي الصواعق المحرقة روى الدارقطني أن عليا قال لهم: أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي أنت قسيم الجنة والنار يوم القيامة غيري؟ قالوا: اللهم لا (2)، وروى ابن أبي الحديد أنه قال لهم:
أنشدكم الله هل فيكم أحد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فهذا مولاه غيري؟ قالوا: لا قال: أفيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي غيري؟ قالوا: لا، قال: أفيكم من أؤتمن على سورة براءة وقال له رسول الله أنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني غيري؟ قالوا: لا (3).
كان علي بن أبي طالب يقيم الحجة فقط، وكان يعلم أن طريقه إلى الخلافة غير ممهد، واختيار عمر بن الخطاب لأصحاب الشورى أول دليل على ذلك. فبعد تحديد الأسماء، قال علي للعباس: عدلت عنا. فقال له:
وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان وقال كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلا، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان. لا يختلفون فيوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعا في (4). قال له العباس: لا تدخل معهم. قال: أكره
____________
(1) (كنز العمال 725 / 5).
(2) الصواعق المحرفة / ابن حجر الهيثمي ص 24.
(3) ابن أبي الحديد 61 / 2.
(4) الطبري 35 / 5.
الخلاف (1). فالإمام كان يعلم بالنتيجة، وكان يراقب من بالمدينة وكان يكره الخلاف وكان يقيم الحجة ولا إكراه في دين الله.
وروي أن عبد الرحمن بن عوف قال لعلي بن أبي طالب هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وسنة الماضين من قبل؟ وفي رواية: وسيرة أبي بكر وعمر؟ وفي رواية: وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال علي: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، فقال عثمان: أنا يا أبا محمد أبايعك على ذلك (2).. فقام عبد الرحمن ودخل المسجد وأرسل إلي من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد ثم قال: يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أراهم يعدلون بعثمان (3). فقال علي: حبوته حبو دهر. ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. ثم خرج وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: يا عبد الرحمن أما والله لقد تركته وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون. فقال: يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين. فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم. إني لأعجب من قريش إنهم تركوا رجلا ما أقول أن أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل. أما الله لو أجد عليه أعوانا. قال عبد الرحمن: يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة.
فقال رجل للمقداد (4): رحمك الله من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل (5)!! فقال المقداد: أهل البيت بنو عبد المطلب والرجل علي بن أبي طالب (6).
لقد وضع عبد الرحمن شرطا يعلم أن عليا لن يقبله. بل يعلم أن عليا لو وجه النقد لهذا الشرط لكان في هذا كفاية لسيل الدماء فضلا عن ابتعاد الخلافة
____________
(1) الطبري 34 / 5.
(2) فتح الباري 198 / 13.
(3) البخاري (الصحيح 246 / 4) ك الأحكام ب كيف يبايع الإمام الناس.
(4) فيه إشارة أن عدم رواية الحديث جعلت الكثير لا يعرفون شيئا عن أهل البيت.
(5) المقداد بن الأسود ورد فيه حديث (إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: علي وأبو ذر والمقداد وسلمان) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 636 / 5).
(6) الطبري 38 / 5، الكامل 37 / 3.
عن علي. وهذا الشرط أن يبايعه على سيرة أو فعل أبي بكر وعمر. وفي المدينة أمراء عمر معاوية وعمرو والمغيرة وغيرهم، كأمثال ابن أبي السرح وأبي سفيان وبني مخزوم وهؤلاء انتعشوا بالفتوحات والخراج. والإمام ما كان له أن يقبل هذا الشرط وذلك أن أبا بكر وعمر اختلفا في سيرة كل منهما للآخر. وعلى سبيل المثال أبو بكر نص على خلافة عمر، بينما عمر جعلها شورى في ستة نفر، وأبو بكر رأى أن يقاتل الذين امتنعوا عن دفع الزكاة، وعمر كان له رأي غير هذا.
وأبو بكر كان يرى أن خالد بن الوليد متأول في قتل مالك بن نويرة، وعمر كان يرى غير ذلك. وأبو بكر كتب لنفر من المؤلفة قلوبهم بحقوقهم، وعمر مزق كتاب أبي بكر لأن له رأيا آخر. فهذا وغيره يستقيم مع قول الإمام " أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي " ولكن التيارات الموجودة بالمدينة حينئذ كانت تعلم أن زهد علي لن يدفع بالخراج إلى أيديهم، وكانوا يعلمون أن عمر كان مجتهدا يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ويرى تخصيص عموميات النص بالآراء وبالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص، وكانوا يعلمون أن عمر قد عارك السياسة وكاد خصمه وأمراء الأمراء بالكيد والحيلة وكان يؤدب بالدرة والسوط من يتغلب على ظنه أنه يستوجب ذلك، ويصفح عن آخرين قد اقترفوا ما يستحقون به التأديب. كل ذلك بقوة اجتهاده وما يؤديه إليه نظره. أما علي بن أبي طالب فهو على خلاف ذلك - كان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة ويطبق أمور الدنيا على أمور الدين، ويسوق الكل سياقا واحدا ولا يضع ولا يرفع إلا بالكتاب والنص.
لقد عرفوا هذا من علي بن أبي طالب على الرغم من أنه لم يجلس على كرسي يأمرهم به وينهاهم. كانوا يعلمون أن عمر شديد الغلظة والسياسة، ويعلمون أن عليا كثير الحلم والصفح والتجاوز، ولكن المصلحة كانت في سياسة عمر، والخوف كان من حلم علي، لأن دائرة الذهن عند جميع تيارات الصد تخاف من يوم، وهذا اليوم ليس من دائرة الغلظة والشدة، وإنما من دائرة خاصف النعل حيث الحلم والصفح والتجاوز والضرب في الله. وعلى هذا يمكن
أن نفهم قول البخاري: إن عبد الرحمن بن عوف كان يخشى من علي بن أبي طالب شيئا.
|