1 - الطريق إلى السقيفة:
إن دعوة الفاروق لمبايعة أبي بكر يمكن أن تفهم على أرضية الرأي وليس على أرضية النص. والصحابة على أرضية الرأي لهم أصول عديدة. ولقد أطبقت الصحابة اطباقا واحدا على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك.
كإسقاطهم سم ذوي القربى وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم. وفيهما نصوصا واضحة وصريحة بكتاب الله، وكان ذلك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وفي حياته أمرهم بالخروج في بعث أسامة لكنهم رأوا أن عدم الخروج مصلحة للدولة وللملة وحفظ للبيضة ودفعا للفتنة. والأمثلة في ذلك كثيرة. ولما كانت الحركة بعد وفاة النبي تدور بساعد الفاروق رضي الله عنه. فإننا نسجل هنا أن الفاروق كانت له اجتهادات وآراء واعتراضات في زمن الرسول. إذا نظرنا فيها لا يمكن أن ننكر منه أنه يبايع لأبي بكر لمصلحة رآها ويعدل عن النص. ومن الثابت أنه أنكر مرارا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمورا اعتمدها.
منها إنكاره صلاة رسول الله على عبد الله بن أبي. وذلك فيما رواه الإمام البخاري أن عمر قال للنبي: " تصلي عليه وهو منافق وقد نهاك الله أن تستغفر له " (2)، وفي رواية عند الترمذي " فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي جذبه عمر وقال: أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين " (3)، وفي رواية عنده أيضا قال له النبي: " أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت " (4).
واعترض على قسمة قسمها النبي، روى مسلم عن عمر بن الخطاب قال:
قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما فقلت: والله يا رسول الله لغير
____________
(1) الطبقات الكبرى 267 / 2.
(2) رواه البخاري في تفسير سورة براءة (الصحيح 137 / 3) ومسلم (الصحيح 167 / 15).
(3) رواه الترمذي وصححه (الجامع 280 / 5).
(4) رواه الترمذي وصححه (الجامع 279 / 5).
هؤلاء كان أحق به منهم فقال النبي: إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلون فلست بباخل " (1)، أي: الجأوني إلى السؤال بالفحش أو نسبتي إلى البخل. واعترض على صلح الحديبية وقال للنبي بكل صراحة: ألست نبي الله حقا؟ ولم يعترض عليه النبي.
روى البخاري قال عمر: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت:
ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله! ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أو ليست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟
قال: بلى فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. ثم قال عمر فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا!!؟، قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل، قال: بلى، قلت: فلنعطي الدنية في ديننا إذا. فقال أبو بكر: أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بفرزه!! فوالله إنه على الحق (2).
وفي روايات عديدة أن عمر بن الخطاب عندما تحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. رجع متغيظا رغم ردود النبي عليه. وذلك من قوة فقهه وعظيم بصيرته رضي الله عنه، روى البخاري: " قال رسول الله يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا. فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق... " الحديث (3).
وأرضية الرأي وقف عليها كثير من الصحابة. وبعد الرسول عملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة. ولم يقفوا مع موارد النصوص حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد فرجح كثير منهم القياس على النص. والذي يمكن أن نقوله وفقا لقراءتنا للأحداث. أن العديد من كبار الصحابة تبينوا أن عليا لن تجتمع
____________
(1) رواه مسلم (الصحيح 146 / 4).
(29 رواه البخاري كتاب الشروط باب الجهاد والمصالحة (الصحيح 122 / 2).
(3) رواه البخاري تفسير سورة الفتح (190 / 3).
عليه العرب إما لأنه وترها وسفك دماءها وإما للحسد أو البغض وإما لاستحداثهم سنة أو للخوف من شدة وطأته وشدته في دين الله أو لدفع ضرر يخبئه لهم الغيب. وإما كراهة اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد. ولقد تبينوا خطورة الموقف بعد غزوة تبوك وهي الغزوة التي شهدت محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم. ووفقا لهذه القراءة للأحداث كان كبار الصحابة أمام خيارين:
الأول: أن يعملوا بالنص وينصبوا عليا، ثم تجرى بحور الدماء على أيدي الذين حق عليهم القول فهم لا يؤمنون بجميع دوائرهم وتياراتهم، ويترتب على ذلك تقدم الجاهلية والارتداد عن الإسلام.
الثاني: أن يرجحوا المصلحة وينصبوا لشيخا مجربا للأمور لا يحسده أحد ولا يحقد عليه أحد ولا يبغضه أحد. فأيهما أصلح للدين؟ الوقوف مع النص الذي يؤدي إلى ارتداد الخلق ورجوعهم إلى الأصنام والجاهلية. أم العمل بمقتضى الأصلح واستبقاء الإسلام واستدامة العمل بالدين وإن كان فيه مخالفة النص؟
قد يقول قائل: إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان النبي ودفع النص. وهذا شعور طيب. ولكن هناك نصوص صريحة ثم مصادرتها وهي في كتاب الله ومن ذلك سهم المؤلفة قلوبهم وسهم ذي القربى وسيأتي الحديث عنهما في حينه. ثم أن نفسي أيضا لا تسامحني أن أنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إهمال أمر الإمامة وأن يترك الناس في فوضى وهو صلى الله عليه وسلم ما كان يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميرا وهو حي ليس بالبعيد عنها فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث؟
والخلاصة أقر كبار الصحابة هذا الرأي لحقن الدماء ولسير الدعوة. وحقن الدماء يدخل تحت ظلها علي بن أبي طالب وأهل بيته. ولهذا لم يتعرض إليه أحد بمكروه وكان هو وأولاده على امتداد عصور الخلفاء الثلاثة يعامل بكل تقدير واحترام. ووفقا لما ذكرنا بايع عمر لأبي بكر رضي الله عنه... وأبو بكر
ما كان يريد قيادة وإنما كان يخاف الفتنة وسنذكر أقواله في حينها. وكان من قبيلة لا تزاحم غيرها من القبائل على طلب رأس قريش. ولم يكن في نسبه ما يشمخ به على الناس (1). وكان منطقة توازن يميل إليه الكثير من الصحابة ولا يفرق بين هذا وذاك حتى أبو سفيان كان أبو بكر يكن له كل تقدير. ومعاملة كهذه تشهد بأنه كان ماهرا في قيادة السفينة. روى الإمام مسلم عن عائد بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وهيب وبلال في نفر فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال النبي: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك. فآتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي (2) أنها أرضية من الحب. لم يتكبر على الضعفاء وإنما ذهب إليهم وطيب خاطرهم، قال النووي في الحديث: هذه فضيلة ظاهرة لسلمان ورفقته هؤلاء (3)، ولم يختلف الفاروق رضي الله عنه عن أبي بكر فهو من قبيلة لا تصارع قريشا على متاع ولم يكن عندها ما تشمخ به على القبائل كان منزله بالعوالي في بني أمية (4)، وكان يقدر أبا سفيان وأولاده، ذكر معاوية يوما عنده فقال: دعوا فتى قريش وابن سيدها (5)، فهذا كله يحفظ التوازن لتسير الدولة وفقا لمصلحة الأمة.
قد يقول قال: ما هو الدليل على أن كبار الصحابة أخذوا بمصلحة الأمة في أمر الخلافة ودفعهم النص؟ نقول: أما النصوص الخاصة بالولاية فقد قدمناها على امتداد هذا الكتاب وأما أخذهم بمصلحة الأمة فلقد روى ابن خزيمة في صحيحه والإمام أحمد بسند صحيح عن أبي رافع قال: لما استخلف الناس
____________
(1) الإسلام لا يقيم وزنا للقبائل من حيث نسبها. ولكننا طرحنا النسب هنا نظرا للقبائلية التي توهجت بعد رسول الله وبقيت زمنا طويلا.
(2) رواه مسلم (الصحيح 66 / 16 في فضل سلمان وبلال وصهيب).
(3) مسلم شرح النووي (66 / 16).
(4) الترمذي (الجامع 420 / 5).
(5) رواه الديلمي (كنز العمال 587 / 13) وابن كثير في البداية (124 / 8).
أبا بكر. قلت: صاحبي الذي أمرني أن لا أتأمر على رجلين. فارتحلت فانتهيت إلى المدينة فتعرضت لأبي بكر فقلت له: يا أبا بكر أتعرفني؟ قال: نعم، قلت:
أتذكر شيئا قلته لي. أن لا أتأمر على رجلين وقد وليت أمر الأمة، فقال: إن رسول الله قبض والناس حديث عهد كفر فخفت عليهم أن يرتدوا وأن يختلفوا فدخلت فيها وأنا كاره ولم يزل بي أصحابي. فلم يزل يعتذر حتى عذرته (1)، وفي رواية الإمام أحمد قال: فبايعوني لذلك وقبلتها منهم وتخوفت أن تكون فتنة يكون بعدها ردة (2).
وروى الطبري أن عمر قال لابن عباس: أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمد؟ قال ابن عباس فكرهت أن أجيبه فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتتبجحوا على قومكم بجحا بجحا فاختارت قريش لنفسها فأصابت (3)، وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز في كتابه السقيفة أن عمر قال لابن عباس: ما أظن صاحبك إلا مظلوما. قال ابن عباس فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها فقلت: يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته. فانتزع يده من يدي ثم مر يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته فقال لي: يا ابن عباس ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه. قال ابن عباس فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى، فقلت: والله ما استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر (4). وروى أحمد بن أبي الطاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا عن ابن عباس قال: قال لي عمر (5): من أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد. قال: كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر. قلت: خلفته يلعب مع أترابه، قال:
لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت، قلت: خلفته يمتح
____________
(1) رواه ابن خزيمة في صحيحه والبغوي وابن رهوية (كنز 586 / 5).
(2) رواه أحمد بسند صحيح (الفتح الرباني 61 / 23).
(3) الطبري (تاريخ الأمم 31 / 5).
(4) ابن أبي الحديد 290 / 2.
(5) كان لقاء عمر بابن عباس في أوائل خلافة عمر بالمسجد.
بالغرب (1) على نخيلات من فلان، وهو يقرأ القرآن قال: يا عبد الله، عليك دماء البدن إن كتمتنيها! هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة. قلت: نعم، قال: أيزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه؟ قلت: نعم وأزيدك. سألت أبي عما يدعيه فقال: صدق. فقال عمر: لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره ذرو (2) من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا. ولقد كان يربع في أمره وقتا ما. ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الإسلام، لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا. ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها. فعلم رسول الله إني علمت ما في نفسه. فأمسك وأبى الله إلا إمضاء ما ختم (3).
ونعود إلى حيث بدأنا. فعندما أعلن عن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهتف عمر بمبايعة أبي بكر علمت الأنصار بما عزم عليه المهاجرون. فأتوا بسعد بن عبادة ليبايعوه. ويقتضي هذا أن نلقي الضوء على الأنصار.
|