متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
2 - ذعر على أعتاب الغروب
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

2 - ذعر على أعتاب الغروب:

على صفحة المجتمع قدمنا حقيقية يقينية، حملتها إلينا أحاديث صحيحة.

وهذه المقدمات شهدت لها حركة التاريخ بعد ذلك بأنها صحيحة. وذلك لأن النتيجة في النهاية استقامت مع المقدمات في البداية. ولا نقصد بحركة التاريخ هنا ما دونه المؤرخون فقط. وإنما حركة التاريخ عندنا هي التي يرشد إليها حديث صحيح أخبر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب عن ربه. فنحن نمسك بأحاديث الإخبار عن الغيب ونمر بها على حركة التاريخ. ولا تعتمد في بحثنا أن الأحداث التي انطبق عليها الحديث الصحيح. وكما قدمنا مقدمات جرت على صفحه المجتمع أيام الرسول صلى الله عليه وسلم. فإننا نقدم هنا أيضا حدثا لا يمكن تجاهله ونحن نبحث عن العراقيل التي وضعت أمام علي بن أبي طالب. وهذا الحدث يحمل معالم الذعر من علي بن أبي طالب.

ومما سبق علمنا أن دائرة الرجس وأصحاب المسجد الضرار عندما عزم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى تبوك وترك عليا في المدينة، أشاع أصحاب دائرة الرجس أن النبي استثقله وخلفه بين النساء والصبيان. وكان هدفهم من وراء هذا أن يخرج علي بن أبي طالب مع النبي حتى تخلوا المدينة أمام مخططات ملك الروم ومشركي العرب وأصحاب المسجد الضرار. ولكن النبي رد كيدهم في نحورهم وقال لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى... " الحديث. وعند عودة النبي من تبوك حدثت محاولة اغتياله بواسطة اثنى عشر رجلا هم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا. ومعنى أنهم حرب أي أنهم أصحاب مخططات يتعاملون مع الأحداث وفقا للزمان والمكان. ولا يمكن بحال أن يكون علي بن أبي طالب بعيدا عن مخططاتهم في حياة الرسول وبعد مماته.

لأن الحديث الصحيح أفاد بأنهم حرب على امتداد الحياة الدنيا. والمعروف أن

الصفحة 251
أصحاب المخططات الحربية. يجيدون تحديد أعدائهم بدقة وبسرعة وبتركيز.

وسبب ذلك أن الله جعلهم في ذعر دائم. وقد وصفهم الله في كتابه فقال: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون) (1) فهم في جزع وفزع وهلع وفي انزعاج دائم من ضرر متوقع. وإنهم لدفع هذا الضرر لو يجدون حصنا يتحصنون به وحرزا يتحرزون به أو مغارات في الجبال أو نفق في الأرض لأسرعوا في ذلك لا يصرفهم عنه شئ. فهذا النمط البشري في فزع من المستقبل ولهذا فهم في حرب مع كل مستقبل.

والذين في قلوبهم مرض أو زيغ كانوا يعلمون أن السماء لن تضربهم بعقاب ما دام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم لقوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) (2)، فالعذاب لا يضربهم ما دام الرسول فيهم. ولا يضربهم العذاب إذا استغفروا لذنوبهم وتابوا وعادوا إلى الرحاب الآمن. فإذا قبض الله تعالى رسوله إليه. فإنهم سيقفون تحت قانون هذه الآية: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون...) (3)، ويبقى الاستغفار لمن أراد أن يستقيم. لقد علموا ذلك في العهد النبوي. علموا أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وسيكون العقاب منهم أقرب. ولكن على يد من سيكون هذا العقاب؟ لقد كان في ذاكرتهم حدث وحديث. يمكن عليهما رصد حامل العقاب الذي يدخره المستقبل لهم. روى ربعي بن حراش الذي قال فيه الإمام الترمذي: سمعت الجارود يقول: سمعت وكيعا يقول. لم يكذب ربعي بن حراش في الإسلام كذبة (4)، روى ربعي عن علي أنه قال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين. فقالوا: يا رسول الله. خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا وليس لهم فقه في الدين. وإنما خرجوا فرارا من أموالنا وضياعنا. فأرددهم

____________

(1) سورة التوبة: الآية 57.

(2) سورة الأنفال: الآية 33.

(3) سورة الزخرف: الآية 41.

(4) الإمام الترمذي (الجامع 634 / 5).

الصفحة 252
إلينا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم، يا معشر قريش لتنتهين أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين. قد امتحن الله قلبه على الإيمان. قالوا: من هو يا رسول الله؟ وقال أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله. قال: هو خاصف النعل - وكان قد أعطى عليا نعله يخصفها (1)، وفي رواية بسند صحيح أيضا. قالوا: يا محمد إنا جيرانك وحلفاؤك. وإن ناسا من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين ولا رغبة في الفقه. إنما فروا من ضياعنا وأموالنا فأرددهم إلينا. فقال النبي لأبي بكر: ما تقول؟ قال: صدقوا إنهم لجيرانك وأحلافك.

فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال لعمر: ما تقول؟ قال:

صدقوا أنهم لجيرانك وحلفاؤك. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر قريش والله ليبعثن الله عليكم رجلا قد امتحن الله قلبه بالإيمان.

فيضربكم على الدين، أو يضرب بعضكم. فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله. قال:

لا. قال عمر: أنا يا رسول الله. قال: لا ولكنه الذي يخصف النعل - وكان أعطى عليا نعلا يخصفها (2).

فالذاكرة عند القوم تحمل حدث وحديث. والقرآن أخبرهم أنه بعد وفاة الرسول سيكون هناك انتقام لا محالة. وكما تحسسوا رقابهم عندما علموا يوم الحديبية. إن لهم يوما من علي بن أبي طالب. تحسسوها أيضا عندما علموا بتفسير قوله تعالى: (فإما تذهبن بك فإنا منهم منتقمون)، قال السيوطي في الدر المنثور. أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (فإما تذهبن بك فإنا منهم منتقمون) قال: نزلت في علي بن أبي طالب أنه ينتقم من الناكثين والقاسطين بعدي، وروى علي وحذيفة في قوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان

____________

(1) رواه الترمذي وصححه (الجامع 634 / 5) والخطيب وابن جرير وصححه والضياء سند صحيح (كنز العمال 115، 173 / 13).

(2) رواه أحمد وابن جرير وصححه والضياء بسند صحيح وسعيد بن منصور (كنز 127، 173 / 13).

الصفحة 253
لهم) (1)، ما قوتل أهل هذه الآية بعد (2)، وهذه الآية في سورة براءة التي نزلت بعد غزوة تبوك آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم (3)، فإذا كان هناك قتال يدخره الغيب بعد آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم. فلا جدال أن أصحاب دائرة الرجس سيبحثون كثيرا عن حصون يتحصنون بها أو حرزا يتحرزون به أو مغارات في الجبال أو نفقا في الأرض لدفع هذا الضرر عنهم. ولا يمكن للباحث المنصف أن يستبعد عامل الذعر هذا عند البحث عن العوائق التي وضعت في طريق علي بن أبي طالب.

ويضاف إلى هذا عامل آخر. فالقوم كان فيهم من حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه. وفيهم من دعا النبي عليه ولعنه وفيهم من نفاه وفيهم من أحل دمه. روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية " (4)، وفي رواية عند أبي نعيم: " والعن أبا الأعور السلمي " (5)، وفيما سبق بينا أنه لعن الحكم بن أبي العاص ونفاه وأحل دم عبد الله بن أبي السرح وذو الثدية. فهذا الطابور كله كانت لهم ثقافة يشقون بها طريقا في إتجاه السلطة لإعادة مجدهم الزائل الذي أطاحت به الدعوة الإسلامية. فكان لا بد من وضع عقبات يكون من نتائجها التعتيم على هذه الروايات حتى تندثر في عالم النسيان.

وكان الطريق إلى ذلك لا يمر إلا بتخطي علي بن أبي طالب ثم الكذب بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كانت هذه الأنماط البشرية تعمل من أجل رسم طريق حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه. وهذا الطريق الذي اختاروه من على موائد الخوف والذعر والحسد والبغض. يستند علاوة على ما

____________

(1) سورة التوبة: الآية 12.

(2) أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن علي وحذيفة (كنز 426 / 11) (الدر المنثور 214 / 3) (البداية والنهاية 339 / 2).

(3) البداية والنهاية 35 / 5.

(4) رواه مسلم.

(5) رواه أبو نعيم (كنز 82 / 8).

الصفحة 254
ذكرنا على عداوة قديمة بين عبد شمس وبين بني هاشم. فقديما كانت هناك عداوات بين حرب بن أمية وبين عبد المطلب بن هاشم. وفي عهد النبوة قدمت الدعوة رداء الأرحام كي تدخل تحته قريش لا فرق بين هذا وذاك. ولكن أبو سفيان لم ينصت لصوت الرحمة وحسد محمد صلى الله عليه وسلم وحاربه وبعد فتح مكة ظل الطريقان متباغضان وإن وقفوا على أرض واحدة. ولقد اتفق أن علي بن أبي طالب قتل جماعة كثيرة من بني عبد شمس في حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأكد هذا بغضهم لعلي وسنرى فيما بعد أن الأحداث تقر بذلك.

باختصار: كان هناك خوف وذعر وطلب ثأر. وكان هناك من استحدث سن علي بن أبي طالب. وكان هناك من خاف من شدة وطأته وشدته في دين الله. وكان هناك من يبغضه فقط لقربه من رسول الله. وكان هناك من كره اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد، وكان خلاص هؤلاء. أن تتداول الخلافة بين قبائل العرب وأن لا تقتصر على بيت مخصوص. فتكون لكل قبيلة وفقا لهذا التصور بابا مفتوحا يصل بهم إلى كرسي الخلافة. وهذا الطريق يقف في النهاية تحت مظلة يكون فيها مال الله دولا ودينه دخلا وعباده خولا. وهو الطريق الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.

من هذا كله لا يمكن القول أن مجموعة الحرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا. تتحرك بدون خطة تمهد لها ثقافة، ولأن هذه الثقافة لا بد أن تنتشر بين عامة المسلمين. كان لا بد إما الكذب على رسول الله أو التلعب بكتاب الله وضرب بعضه ببعض. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن الكذب عليه واقع لا محالة. ولقد صرح في أكثر من مكان في حجة الوداع وقال: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " (1)، بل وكان يعلم من ربه بالخطة التي تضعها مجموعة الحرب لله ولرسوله. قال تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية

____________

(1) رواه البخاري وغيره (الصحيح 93 / 1).

الصفحة 255
الرسول) (1)، لقد أخبر تعالى عن ثلاثة جرائم: الإثم والعدوان ومعصية الرسول. والإثم هو: العمل الذي له أثر سئ. والعدوان هو: العمل الذي فيه تجاوز إلى الغير مما يتضرر به الناس ويتأذون. والإثم والعدوان يدخلان تحت عنوان معصية الرسول. ولكنه تعالى أفرد معصية الرسول لتشمل مخالفته فيما أمر به أو نهى عنه. مما له من ولاية أمورهم لأنه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

لقد نهوا عن النجوى وإن لم تشتمل على معصية. ولكنهم خالفوا. وكان هؤلاء من المنافقين والذين في قلوبهم مرض وقيل: إن اليهود كانوا طرفا في هذه النجوى. وشمول اليهود في الآية فيه خفاء. وقد بين سبحانه أن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. تنتهي إلى الشيطان، قال تعالى: (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا...) (2)، وروي في تفسير هذه الآيات أن خط الحرب كان هدفهم القضاء على الدعوة، وكان لهذا الهدف ثقافة عرفت باسم " العقدة " أو " الصحيفة " ويمكن أن يرى الباحث هذا العقد إذا تدبر الحوار بين المهاجرين والأنصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وإذا نقب في الأحداث بعد ذلك على امتداد العهد الأموي. ويمكن القول بأن قوافل الذعر والحسد والذين كرهوا أن تجتمع الخلافة والنبوة في بيت واحد. تعاقدوا فيما بينهم على ورقة ثقافية يبثوها على العامة الذين يحبون الدنيا والذين طلبوا أن يكون لهم ذات أنواط والذين لا يعلمون من دينهم شيئا والذين يبحثون عن أمجاد الآباء وغير ذلك مما أوردنا عند البحث عن صفحة المجتمع. وأن العمود الفقري لهذه الثقافة هو:

إن الله بعث محمدا رسولا إلى الناس كافة. ومحمد لم يستخلف أحدا من بعده. وما قاله في علي بن أبي طالب له تأويلات كثيرة عند العرب. والنبي جعل الاختيار إلى المسلمين يختارون لأنفسهم من وثقوا برأيه. والرسول لم يستخلف

____________

(1) سورة المجادلة: الآية 8.

(2) سورة المجادلة: الآية 10.


الصفحة 256
أحدا. لئلا يجري ذلك في أهل بيت واحد فيكون إرثا دون سائر المسلمين ولئلا يكون دولة بين الأغنياء منهم. ولئلا يقول المستخلف أن هذا الأمر باق في عقبه من ولد إلى ولد إلى يوم القيامة. والذي يجب على المسلمين عند مضي خليفة من الخلفاء. أن يجتمع دوي الرأي والصلاح يتشاوروا في أمورهم. فمن رأوه مستحقا لها ولوه أمورهم وجعلوه القيم عليهم. فإنه لا يخفى على أهل كل زمان من يصلح منهم للخلافة. فإن ادعى مدع من الناس جميعا. إن رسول الله استخلف رجلا بعينه نصبه للناس ونص عليه بإسمه ونسبه. فقد أبطل في قوله.

وأتى بما لا يعرفه أصحاب رسوله الله وخالف جماعة المسلمين. وإن ادع مدع أن الخلافة لا تصلح إلا لرجل واحد من بين الناس وأنها مقصورة فيه. ولا تنبغي لغيره لأنها تتلو النبوة. فقد كذب. لأن النبي قال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وإن ادع مدع أنه يستحق الإمامة بقربه من رسول الله. ثم هي مقصورة عليه وعلى عقبه ولا تصلح لغيرهم. فليس له ولا لولده وإن دنا من النبي نسبه. لأن الله يقول: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقال رسول الله: " إن ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وكلهم يد على من سواهم. فمن آمن بما جاء في كتاب الله وأقر بما قال به رسول الله فقد استقام وأناب وأخذ بالصواب.

ومن كره. فقد خالف الحق والكتاب وفارق جماعة المسلمين فاقتلوه. فإن في قتله صلاحا للأمة ". وقد قال النبي: " من جاء إلى أمتي وهم جميع ففرقهم فاقتلوه. إن هذه الثقافة يرى وجهها بوضوح في عهد بني أمية. يوم أن حافظوا على الكرسي بقتال أمير المؤمنين علي، ويوم قتل الحسين، ويوم ضرب المدينة بعد أن خرج أهلها على يزيد بن معاوية. ولم تخرج قوات يزيد من المدينة يوم الحرة إلا بعد أن بالت الخيل بين الروضة والمنبر وبعد أن بايع أهل المدينة ليزيد على أساس أنهم عبيد له الحق أن يبيع فيهم ويشتري. وترى هذه الورقة أيضا على امتداد زمن أولاد مروان بن الحكم طريد رسول الله.

وكان بعض الصحابة يعرفون الخطوط الرئيسية لما اتفق عليه القوم وما سمي بالعقدة. ومنهم حذيفة وأبي بن كعب. وروى أبو بكر أحمد بن عبد

الصفحة 257
العزيز (1) في كتابه السقيفة عن البراء بن عازب. إنه كان في جماعة منهم المقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت وسلمان الفارسي وأبو ذر وحذيفة والهيثم بن التيهان وذلك بعد وفاة الرسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا حذيفة يقول لهم: والله ليكونن ما أخبرتكم به والله ما كذبت ولا كذبت. وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين. ثم قال: ائتوا أبي بن كعب. فقد علم كما علمت، قال: فانطلقنا إلى أبي. فضربنا عليه بابه حتى صار خلف الباب. فقال: من أنتم؟ فكلمه المقداد فقال: ما حاجتكم؟ فقال له: افتح عليك بابك، فإن الأمر أعظم من أن يجري من وراء حجاب. قال: ما أنا بفاتح بابي وقد عرفت ما جئتم له. كأنكم أردتم النظر في هذا العقد. فقلنا: نعم فقال:

أفيكم حذيفة؟ فقلنا: نعم، قال: فالقول ما قال. وبالله ما أفتح عني بابي حتى تجري على ما هي جارية ولما يكون بعدها شر منها وإلى الله المشتكى (2).

كان هذا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة. وفي عهد عمر بن الخطاب على أصح الروايات عزم أبي أن يتكلم في الذي لم يتكلم فيه بعد وفاة الرسول. وكان يقول: هلك أهل العقدة ورب الكعبة ألا لا عليهم آسى ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين (3)، وفي رواية قال: لأقولن قولا لا أبالي استحييتموني عليه أو قتلتموني " (4)، ووعد أن يكشف الحقائق أمام الناس يوم الجمعة. وجاء يوم الأربعاء والجميع ينتظرون موعد أبي. ولكن يوم الأربعاء جاء بخبر أليم. قال قيس بن عباد: رأيت الناس يموجون.

فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: مات سيد المسلمين أبي بن كعب. فقلت:

ستر الله على المسلمين حيث لم يقم الشيخ ذلك المقام (5) ومات أبي في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أصح

____________

(1) أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري.

(2) ابن أبي الحديد نقلا من كتاب السقيفة 312 / 1، كتاب سليم بن قيس ص 74.

(3) رواه أبو نعيم في الحلية في الإمام أحمد.

(4) ابن سعد (الطبقات الكبرى 501 / 3) والحاكم باختصار (المستدرك 229 / 2، 303 / 3).

(5) ابن جرير في المسترشد ص 28.

الصفحة 258
الروايات (1) وقيل مات في خلافة عثمان (2).

وكان هناك العديد من الصحابة يخافون من رواية بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله. من هؤلاء أبو هريرة. قال فيما رواه البخاري " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم " (3)، وقال: " إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي " (4)، وكان حذيفة يقول:

" لو كنت على شاطئ نهر وقد مددت يدي لاغترف فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أقتل " (5).

ولقد وجدنا في المقدمة نمطا بشريا يحب الدنيا ويضرب كتاب الله بعضه ببعض ويترك رسول الله قائما وينقض من حوله. ورأينا قبل ذلك دوائر عديدة مهمتها الصد عن سبيل الله. بملابس الخشوع الزائف ثم وجدنا أنماطا بشرية برامجها حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا. وأنماطا تنطلق من أرض القبائلية والعصبية هدفها إعادة مجد زائل وأنماطا بشرية تختزن في ذاكرتها معركة في المستقبل تطيح برقابهم فعملوا بكل ما لديهم من قوة وفكر من أجل الاحتماء وراء الجدر ومن وراء الجدر بثوا ثقافة تمهد لمجيئهم. كانت هذه مقدمات حقيقة. ترتب عليها نتائج أقرها الحديث الصحيح وحركة التاريخ. واستقامت هذه النتائج من هذه المقدمات على خط واحد.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net