متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
* 4 - جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لتيارات الصد الداخلية
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

4 - جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لتيارات الصد الداخلية:

بعد أن هرول أعداء الدعوة إلى أرض الدعوة، ينطقون بألسنتهم شعارات الدعوة وتختزن قلوبهم أوجال الصد عن سبيل الله. بعد أن تدثروا بجلباب الإسلام سواء كان مصنوعا من قماش الخوف أو قماش المنفعة، بعد هذا أصبح التصدي لما يرتكبوه من جرائم غرض يتخذونه لتشويه الدعوة، تحت شعار أن محمدا يقتل أصحابه. فشعار مثل هذا وسط قبائل وعصبيات ودوائر عديدة للصد داخلية وخارجية، سيضع بلا أدنى شك عقبات أمام الدعوة يجد فيها برنامج الشيطان متسعا للانطلاق. ولهذه الأسباب وغيرها كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير بالدعوة بين نفوس من صخر وبين نفوس نقية تقية. والدعوة في الأساس أخروية الثواب، ويقف تحت سقفها كل من قبلها وأدى شعائرها.

والدعوة تتحرك وفقا لوحي يحركها. وإذا نظرنا إلى حركة الدعوة في مواجهة المنافقين والذين في قلوبهم مرض وغيرهم. نجد أن القرآن الكريم قد حدد هذه الحركة بما يتلائم مع النفس الإنسانية عموما ليصل بها في النهاية إلى المخزون الفطري. قال تعالى: * (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) * (1).

فالدعوة تحركت على محاور فيها الرحمة والعفو والاستغفار والمشورة التي تنتهي في نهاية الأمر إلى قرار رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في الميزان: * (فبما رحمة من الله لنت لهم) *، أصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا

____________

(1) سورة آل عمران: الآية: 159.

الصفحة 78
برحمة منا. لذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكم ويشاوركم في الأمر. وأن يتوكل علينا إذا عزم (1).

وعلى هذا الأساس شقت الدعوة طريقها وسط الصخور، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعفو عن بعض أفعالهم غير أن هذا العفو لا يشمل موارد الحدود الشرعية وما يناظرها وإلا لغي التشريع. وكان يشاورهم في الأمر، قال ابن كثير:

كان يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطيبا لقلوبهم، ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه (2). ولقد شاورهم يوم بدر وفي مواطن كثيرة على امتداد سيرته صلى الله عليه وسلم. ولا يجب أن يفهم من مشاورتهم في الأمر أن هذه المشاورة في أمور عقائدية أو أمور حسمها الوحي. وإنما المشاورة كما نصت الآية * (في الأمر) * أي الأمر الذي يعزمون عليه. والذي يدخل في إطار الأمور العامة التي تجوز فيها المشاورة. وبعد المشاورة إذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن من أحبه كان وليا وناصرا له غير خاذله. وكان صلى الله عليه وسلم يشعرهم على امتداد المسيرة، بأنه إنما يفعل ما يؤمر. والله سبحانه عن فعله راض، وهو متوكل على الله. وعليهم أن يتوكلوا عليه لأن الله يحب المتوكلين.

وهكذا ضربت الدعوة وجهة الجحود بالرحمة، وحاصرت جميع الدوائر بالمشورة. وساقت الجميع إلى التوكل على الله. وأمام هذا العطاء كان أصحاب الرقاب الغليظة يعضون على أناملهم من الغيظ لأنهم عجزوا عن اختراق حاجز الرحمة وحاجز المشورة اللذين ينتهيان إلى الله قاصم الجبارين. كانت دوائر الصد تموج بأصحاب المخالب ويرتد فيها صدى قرقعة أنياب الحيتان. وأمام العوائق والمخالب أمر الله تعالى بجهادهم. قال تعالى: * (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم) * (3). أما جهاد الكفار الذين تجاهروا بالكفر وخرجوا للصد عن سبيل الله، ففي قتالهم آيات كثيرة ولهذه الآيات تفسير

____________

(1) الميزان: 56 / 4.

(2) تفسير ابن كثير: 420 / 1.

(3) سورة التوبة: 73.

الصفحة 79
يبين لماذا ومتى وكيف. فمن أراد فليراجعها في مواضعها، أما قتال المنافقين الذين يرتدون جلباب الإسلام ويدخلون مساجده ويرتلون كتابه، فله شأن آخر.

قال ابن كثير في جهاد المنافقين: عن ابن مسعود قال: بيده فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه. وعن ابن عباس قال: باللسان. وعن الحسن وقتادة ومجاهد: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم (1). وقال في الميزان عن جهادهم:

المجاهدة بذل غاية الجهد في مقاومتهم، والجهاد يكون باللسان وباليد حتى ينتهي إلى القتال. وشاع استعمال الجهاد في القرآن في قتال الكفار، لكونهم متجاهرين بالخلاف والشقاق. فأما المنافقون، فهم الذين لا يتظاهرون بكفر ولا يتجاهرون بخلاف. وإنما يبطنون الكفر ويقلبون الأمور كيدا ومكرا. ولا معنى للجهاد معهم بمعنى قتالهم ومحاربتهم.. والمراد بجهادهم - في الآية - مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل الجهد في مقاومتهم. فإن اقتضت المصلحة هجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا وإن اقتضت وعظوا باللسان. وإن اقتضت أخرجوا وشردوا أو قتلوا إذا أخذ عليهم الردة أو غير ذلك. ويشهد لهذا المعنى عن كون المراد بالجهاد في الآية هو: مطلق بذل الجهد. تعقيب قوله تعالى: * (جاهد الكفار والمنافقين) * بقوله: * (واغلظ عليهم) * أي شدد عليهم وعاملهم بالخشونة (2).

وقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم على امتداد مسيرته بين دوائر الصد في الداخل، وفقا لمصلحة الدعوة. وقول الله تعالى لرسوله في شأن المنافقين:

* (لا تصلي على أحد منهم مات أبدا) * (3) يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم بأعيانهم وأنه كان يتصرف التصرف الذي يمنع المنافقين من قطع الشوط الكبير في إفساد الأمر. فكان صلى الله عليه وسلم يخرج بعض المنافقين من المسجد على سمع ومرأى من الجميع تارة، وكان يسر بأسماء بعضهم إلى أصحابه تارة. وكان يسر بأسماء البعض الآخر إلى خاصة

____________

(1) ابن كثير في التفسير: 371 / 2.

(2) الميزان: 329 / 9.

(3) سورة التوبة: الآية 84.

الصفحة 80
الخاصة من أصحابه تارة أخرى. كل ذلك وفقا لحركة الدعوة وحركة القبائل وثقافتها. وكان في موضع آخر يقول في بعضهم وقد جاءوا به * (دعه. لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) * (1). ويقول: * (معاذ الله. أتتسامع الأمم أن محمدا يقتل أصحابه) * (2). لقد كان صلى الله عليه وآله يصفح إذا اقتضت المصلحة ذلك أو كما ذكر البخاري، كان يترك قتال المعارضين للتآلف وألا ينفر الناس عنه (3).

وإذا كانت الغلظة أي معاملتهم بخشونة تقتضيه مصلحة الدعوة في صدرها الأول. فإنهم إذا أظهروا النفاق، بمعنى إذا حشدوا حشودهم للدفاع عن ثقافتهم التي يعبرون عنها بألسنتهم، ووقودها في قلوبهم، فإذا كانت المصلحة في قتالهم قوتلوا. ولكن، تحت راية إمام حق، عالم بالتأويل. لأن قتال المسلمين يختلف عن قتال غيرهم، فالقتال أي قتال، فيه دماء، وسبي، وجرحى، وأرامل، إلى غير ذلك. وهذا كله إذا دار تحت سقف واحد احتاج إلى فقه طويل عريض عال. يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ذكر ابن كثير: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف. سيف للمشركين * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فقاتلوا المشركين) * وسيف للكفار من أهل الكتاب * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *، وسيف للمنافقين * (جاهدوا الكفار والمنافقين) *، وسيف للبغاة * (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) *. قال ابن كثير: وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، قال بذلك ابن جرير (4). وكما سارت حركة الدعوة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة والمشاورة في الأمر، وجهاد المشركين بما تقتضيه المصلحة ضرب الوحي سورا من الرحمة يحدد كيف يتعامل

____________

(1) رواه البخاري ومسلم عن جابر (كنز العمال: 200 / 11).

(2) رواه أحمد وحسنه الهيثمي (مجمع الزوائد: 231 / 6).

(3) البخاري (الصحيح: 312 / 4).

(4) ابن كثير في التفسير: 371 / 2.

الصفحة 81
المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يخاطبونه فليس معنى أنه بينهم أو يشاورهم في الأمر اختلاط الأمور وانصهار المكانة. فأرض الدعوة عليها من هو في دائرة الإيمان والإسلام وغير ذلك من دوائر الرجس والقلوب المريضة. وجميع هؤلاء يتحدثون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأن الحديث مع الأنبياء والرسل يترتب عليه إما الجنة وإما النار أقامت الدعوة جدارا من الرحمة، حتى لا تزل الأقدام وتحبط الأعمال. قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون * إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله صلى أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم) * (1).

قال ابن كثير: أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه، أي قبله. بل كونوا تبعا له في جميع الأمور.. وقال سفيان: لا تقدموا بقول ولا بفعل. وقال الضحاك:

لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم. وقوله * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) * قال ابن كثير: هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته. وروي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، روى البخاري عن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم ركب بني تميم.

فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، أخي بني مجاشع. وأشار الآخر برجل آخر.

فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك.

فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم... الآية) * (2) وقوله تعالى: * (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) *

____________

(1) سورة الحجرات: الآية 1 - 3.

(2) رواه البخاري (الصحيح: 190 / 3) والترمذي وقال حسن غريب (الجامع: 387 / 5) وذكره ابن كثير في التفسير: 206 / 4.

الصفحة 82
أي نهاكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك، فيغضب الله لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري. ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك وأرشد إليه ورغب فيه فقال: * (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) * أي أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا (1). وقال في الميزان: * (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) * بين يدي الشئ: أمامه. وهو استعمال شائع مجازي أو استعاري. وإضافته إلى الله ورسوله معا، لا إلى الرسول. دليل على أنه أمر مشترك بينه تعالى وبين رسوله.

وهو مقام الحكم الذي يختص بالله سبحانه ورسوله بإذنه كما قال تعالى: * (إن الحكم إلا لله) * (2). وقال: * (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * (3).

وقوله: * (لا تقدموا) * أي تقديم شئ ما من الحكم. قبال حكم الله ورسوله. إما بالاستباق إلى قول قبل أن يأخذوا القول فيه من الله ورسوله. أو إلى فعل قبل أن يتلقوا الأمر من الله ورسوله.. والمعنى: أن لا تحكموا فيما لله ولرسول فيه حكم. إلا بعد حكم الله ورسوله، أي لا تحكموا إلا لحكم الله ورسوله. ولتكن عليكم سمة الاتباع والاقتفاء. وقوله لا ترفعوا أصواتكم.. " وذلك بأن تكون أصواتهم عند مخاطبته وتكليمه صلى الله عليه وسلم أرفع من صوته وأجهر لأن في ذلك كما قيل شيئين: إما نوع استخفاف به وهو الكفر. وإما إساءة الأدب بالنسبة إلى مقامه. وهو خلال التعظيم والتوقير المأمور به. وقوله: * (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) * فإن من التعظيم عند التخاطب أن يكون صوت المتكلم أخفض من صوت مخاطبه. فمطلق الجهر بالخطاب فاقد لمعنى التعظيم. فخطاب العظماء بالجهر فيه، كخطاب عامة الناس لا يخلو من إساءة الأدب وقوله * (أن تحبط أعمالكم..) * أي لئلا تحبط أو كراهة أن تحبط أعمالكم. فظاهر الآية أن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم والجهر له بالقول معصيتان موجبتان للحبط. فيكون من المعاصي غير

____________

(1) تفسير ابن كثير: 207 / 4.

(2) سورة يوسف: الآية 40.

(3) سورة النساء: الآية 64.

الصفحة 83
الكفر ما يوجب الحبط (1).

... والخلاصة: تعددت الدوائر، ولم تجد الدعوة غضاضة في التعامل مع جميع الخصوم الذين يقفوا تحت سقفها، كانت تحاور جميع الأطراف دون أن تسمح لأي طرف من السيطرة عليها. وتعامل الدعوة مع القوى المختلفة ومع الأضداد، كان تعاملا يستخلص مصلحة الفطرة في النهاية. وإذا كانت الدعوة قد أحاطت الجميع بآيات تحدد كيفية مخاطبة النبي وكيفية دخول بيوته، فإنها حاصرت دائرة الرجس الحصار الذي يقوقع المنافقين ولا يجعل حركتهم قابلة للتمدد على المستوى الأفقي أو الرأسي. وذلك بفرض نظام يرفض اتخاذ بطانة من غير الذين آمنوا. كما حددت الدعوة دائرة الطهر، وهذه الدائرة قضى الله وقضاؤه حق. إن عزة الإسلام مع هذه الدائرة وإن في هذه الدائرة طائفة لا يضرهم من ناوأهم أو من خذلهم أو من عاداهم حتى يأتي أمر الله.

____________

(1) الميزان: 308 / 18.

الصفحة 84


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net