ثالثا - تيار الذين في قلوبهم مرض:
لقد خلطوا بين هذا التيار وبين المنافقين. وقالوا إنهما نوع واحد من الأنماط الإنسانية. والحقيقة غير هذا ولا تلائم سياق بعض الآيات التي ذكر فيها الذين في قلوبهم مرض. وذلك لأن المنافقين يشاركونهم في آيات أخرى، والعديد من المفسرين قالوا: المنافقون هم الذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم والذين في قلوبهم مرض هم ضعاف الإيمان. ومرض القلب في عرف القرآن، هو الشك والريب على إدراك الإنسان، فيما يتعلق بالله وآياته. وعدم تمكن القلب من العقد على عقيدة دينية، نظرا لخلط الإيمان بالشرك عند مرض القلوب. ومن الآيات التي ذكرت الذين في قلوبهم مرض قوله تعالى: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم..) (1). ولا معنى للقول بأن الذين في قلوبهم مرض في هذه الآية هم من المشركين، لأن القرآن لم يطلق على المشركين اسم الذين في قلوبهم مرض ولم يطلق عليهم اسم المنافقين. ولا معنى للقول بأنهم هم الكفار، لأن الكفر هو موت للقلب لا مرض فيه، قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) (2).
والذي يستحق التسجيل هنا أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر. وفيها دليل على حضور جمع من المنافقين وضعفاء الإيمان ببدر حين تلاقي الفئتين. وذكر أن ضعاف الإيمان كانوا فئة من قريش أسلموا بمكة، واحتبسهم آباؤهم.
واضطروا إلى الخروج مع المشركين إلى بدر، حتى إذا حضروها وشاهدوا ما عليه المسلمون من القلة قالوا: مساكين غر هؤلاء دينهم حين قدموا على ما قدموا عليه من قلة عددهم وكثرة عدوهم (3). فإذا كان تعريف المنافقين بأنهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، فإن ذلك لا ينطبق على الفئة التي اضطرت إلى
____________
(1) سورة الأنفال: الآية 49.
(2) سورة الأنعام: الآية 122.
(3) تفسير ابن كثير: 319 \ 2.
الخروج مع المشركين. لأن هذه الفئة لم يظهروا الإسلام، لأنهم لو كانوا قد أظهروه ما كانوا خرجوا من مكة أصلا. ومن الدليل على أن المنافق غير الذي في قلبه مرض قوله تعالى في موطن آخر من مواطن القتال: (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) (1). قال ابن كثير: حين نزلت الأحزاب حول المدينة والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.. فحينئذ ظهر النفاق. وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم. (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض... الآية) أما المنافق فنجم نفاقه، والذي في قلبه شبهة أو حسكة لضعف حاله فتنفس بما يجده من الوساوس في نفسه لضعف إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال (2) وقال في الميزان: الذين في قلوبهم مرض هم ضعاف الإيمان من المؤمنين.
وهم غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر) (3). وفي موطن آخر يقول تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) (4). إن هذه الآية صريحة في أن الذين أظهروا الرغبة في نزولها هم الذين آمنوا. ومن يقول إن المنافقين داخلون فيهم. فهو بقوله هذا يتساهل تساهل غير لائق بكلام الله عزول. فالآية في مثل قوله تعالى في فريق من المؤمنين (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) (5). فالمؤمنين هم الذين سألوا رسول الله: هلا أنزلت سورة. فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها. وأمروا فيها بالقتال. رأيت الضعفاء الإيمان
____________
(1) سورة الأحزاب: الآية 11 - 12.
(2) تفسير ابن كثير: 473 \ 3.
(3) الميزان: 286 \ 16.
(4) سورة محمد: الآية 20.
(5) سورة النساء: الآية 77.
ينظرون إليك من شدة الخشية نظر المحتضر (1). وقال ابن كثير في تفسير الآية:
يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين. إنهم تمنوا شرعية الجهاد. فلما فرضه الله عز وجل. وأمر به، نكل عنه كثير من الناس.. ولهذا قال: (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض... الآية) أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء العدو (2).
فالمنافق لا يمكن أن يطلب آية كي يقاتل ويقتل. وإنما الذي طلب هم المؤمنون. وعندما نزلت الآية ظهر ضعاف الإيمان منهم. ومن الدليل أيضا على أن تيار الذين في قلوبهم مرض، تيار منفصل وإن كان يعمل بطريقته الخاصة لعرقلة الطريق سواء كان يدري أو لا يدري. قوله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا..) (3).
فالآية الكريمة ذكرت فئات ثلاث. المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون. وعلى رؤوسهم لعنة من الله تعالى إذا استمروا على ما هم عليه.
فالمنافق هو الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر، والذي في قلبه مرض هو الضعيف الإيمان، والمرجفون هم الذين يعملون على إشاعة الباطل لإلقاء الاضطراب والمعنى: أقسم لئن لم يكف المنافقون والذين في قلوبهم مرض عن الافساد.
والمرجفون الذين يشيعون الأخبار الكاذبة في المدنية لإلقاء الاضطراب بين المسلمين، لنحرضنك عليهم، ثم لا يجاورونك في المدنية. بسبب نفيهم عنها (سنة الله في الذين خلوا من قبل. ولن تجد لسنة الله تبديلا) (4) فهذه العقوبة، من النفي أو القتل سنة الله التي جرت في الماضين. فكلما بالغ قوم في الافساد وإلقاء الاضطراب بين الناس، وتمادوا وطغوا في ذلك، أخذهم الله كذلك. ولن تجد لسنة الله تبديلا، فتجري فيكم كما جرت في الأمم من
____________
(1) الميزان: 239 \ 18.
(2) تفسير ابن كثير: 178 \ 4.
(3) سورة الأحزاب: الآية 60 - 61.
(4) سورة الأحزاب: الآية 62.
قبلكم (1).
وإذا سبقنا الأحداث فإنني أسجل هنا أن قرار النفي واللعن نفذه النبي صلى الله عليه وسلم وفقا لما جاء في هذه الآية الكريمة، على الحكم بن العاص (2). وظل الحكم في المنفى حتى رده عثمان بن عفان وكانت عودته عمود أصيل فيما جرى من أحداث سنبينها في حينه.
وتيار الذين في قلوبهم مرض، نواته الأولى كانت بمكة قيل الهجرة. وجاء ذكرهم في سورة المدثر وهي سورة مكية، تعالى: (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا..) (3). فإذا كان النفاق قد ظهر في المدنية وهو رأي الغالب الأعم من المفسرين. فإنه لا معنى للقول إن الذين في قلوبهم مرض في هذه الآية هم المنافقون، وذلك لأن السورة مكية.
وقال المفسرون في معنى الآيات: أي ما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، يقدرون على ما أمروا به. فليسوا من البشر حتى يرجوا المجرمون أن يقاوموهم، وما ذكرنا عددهم وهو قوله تعالى (عليها تسعة عشر) إلا فتنة للذين كفروا، ليوقن أهل الكتاب، بأن القرآن النازل عليك حق. حيث يجدون ما أخبرنا به من عدة أصحاب النار موافقا لما ذكر فيما عندهم من الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيمانا بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون. ماذا أراد الله بهذا مثلا) أي ما الذي يعنيه من وصف الخزنة بأنهم تسعة عشر. فهذه العدة القليلة، كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من
____________
(1) الميزان: 340 \ 16.
(2) ذكر ابن كثير في البداية والنهاية 182 \ 6 أن الحكم كان من ألد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) سورة المدثر: الآية 31.
الجن والإنس (1). وقال ابن كثير قولهم (ماذا أراد بهذا مثلا) أي يقولون ما الحكمة في ذكر هذا ههنا؟ قال تعالى: (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) أي من مثل هذا - القول - وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام ويتزلزل عند آخرين. وله الحكمة البالغة والحجة الدافعة، وقوله تعالى: (وما يعلم جنود ربك إلا هو) أي ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط (2).
ومن المعروف أن أهل الكتاب قبل البعثة كانوا يضعون أعينهم على مكة، لعلمهم من كتبهم أن النبي سيبعث من هناك. وبعد نزول الوحي في مكة كان لصفات النبي صلى الله عليه وآله عند أهل الكتاب أثر كبير عند المسلمين.
وكذلك الإخبار بعدد ملائكة النار، وهذا الإخبار وإن كان زاد الذين آمنوا إيمانا.
إلا أن حكمة الله البالغة كشفت من خلاله تيارا كان الارتياب مادته في مكة.
والمتدبر في حركة الواقع المكي عند مبعث النبي صلى الله عليه وآله يجد أنه مجتمع إنساني. والمجتمع الإنساني لا يخلو من أصحاب المصالح، وقد يكون النفاق جلبابا مهما لهؤلاء. وحلل النفاق لا تنحصر في المخافة والاتقاء، أو الطمع من خير معجل، فإن من علله أيضا الطمع ولو في نفع مؤجل. ومنها أيضا العصبية والحمية، ولا دليل على انتفاء جميع هذه العلل عن أهل مكة أو عن الذين آمنوا بالدعوة قبل الهجرة. فما بين أيدينا من كتب التاريخ والتراجم يذكر فيها أن فيهم من آمن ثم رجع، أو ارتاب ثم صلح. ومن الممكن أن يكون هناك من يرتاب في دينه فيرتد ويكتم ارتداده، كما في قول الله تعالى: (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون) (3). فلا يبعد أن يكون في هؤلاء من آمن حقيقة ثم ارتد وكتم ارتداده، فطبع الله على قلبه بحيث لا يقبل الحق ولا يتبعه ويتبع هواه وفقا لبرنامج الشيطان. ويكون بخاتم الطبع قد
____________
(1) الميزان: 90 \ 20.
(2) الميزان: 91 \ 20، ابن كثير: 444 \ 4.
(3) سورة المنافقون: الآية 3.
دخل تحت الآية الكريمة التي نزلت في مكة وفي المدينة (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم * ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) (1). ومن الممكن أيضا أن يكون بعض من آمن في مكة، قد آمن طمعا في بلوغ أمنيته التي قد تكون التقدم والاستعلاء. وخصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر في دعوته لقومه أنهم لو آمنوا به واتبعوه كانوا قادة الأرض. وكان الرهبان يخبرون بذلك وفقا لما بين أيديهم من أوصاف الدعوة الخاتمة، فوفقا لهذا الاعلان أن يكون هناك من آمن غير عابئا بقوة المشركين الطاحنة ويعيش على خطر، رجاء أن يوفق يوما لإدارة رحى المجتمع والعلو في الأرض. ومن الممكن أن يكون في المجتمع بعض المغمورين الطموحين إلى سعة الصيت وجذب الأنظار إليهم. فآمنوا بالدعوة التي وجدوا فيها اتجاها جديدا يضيق الفوارق بين الطبقات يمكن لهم أن يعالجوا مشاعر النقص التي يعانونها ويحقق لهم البروز وسعة الصيت والمكانة عن طريق تحدي مواقع النفوذ والسيطرة داخل المجتمع. ومن الممكن أن يكون هؤلاء المغمورين ضمن الذين لم يتعرضوا إلى أي أذى نتيجة معرفة قريش بهم في جاهليتهم، وفهمها لنواياهم الحقيقية في الانضمام للدعوة. بحيث أن الصدق والإخلاص والتفاني أمور مستبعدة بالنسبة لهؤلاء لذلك لم يتعرضوا لهم.
وقد يكون ضعاف الإيمان قد هاجروا بعد ذلك من مكة إلى المدينة. ولكن الهجرة لها شروط، ومن أهم شروطها أن تكون في سبيل الله وليس في سبيل هدف آخر، قال تعالى: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم) (2) وقال جل شأنه (والذين هاجروا في
____________
(1) سورة البقرة: الآية 6 - 10، سورة يس: الآية 10.
(2) سورة آل عمران: الآية 195.
الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر) (1). فالهجرة الصحيحة هي ما عقد عليه القلب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات. وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.
فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (2). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه " (3)، والقرآن الكريم لم يضع الذين هاجروا مع الأنبياء في دائرة الحصانة، لأنهم بشر جاءوا ليختبرهم الله في الحياة الدنيا من يومهم الأول إلى يومهم الأخير. ألم يهاجر السامري من مصر مع موسى عليه السلام؟ ألم يكن على مقدمة موسى عند عبور البحر وأمامه ملك يرشدهم. فماذا فعل السامري ذلك المهاجر؟ ألم يأخذ قبضة من أثر هذا الملك. وكانت هذه القبضة وبالا على بني إسرائيل. لقد ساهم السامري بهذه القبضة في صناعة عجل من ذهب عبده المنحرفين من بني إسرائيل وأشربوا في قلوبهم حب هذا العجل. وكان هذا الحب وبالا فيما بعد على الجنس البشري.
إن السامري هاجر وبعد الهجرة ظهر ما في نفسه. قال تعالى لموسى عليه السلام عندما ذهب للقاء (إنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) (4)، والفتنة هي الامتحان والاختبار. وعندما عاد موسى عليه السلام وعلم بما حدث. أخبر عنه الله تعالى: (قال فما خطبك يا سامري * قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي) (5).
أنظر إلى قوله (سولت لي نفسي) فالنفس طريق الإنسان إلى ربه. ولقد أقام الله على الإنسان الحجة فيها، فألهمه طريق الفجور وطريق التقوى. فمن انغمس في
____________
(1) سورة النحل: الآية 41.
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي (الترغيب والترهيب: 181 \ 2).
(3) رواه أبو داوود والنسائي (الترغيب: 181 \ 2).
(4) سورة طه: الآية 85.
(5) سورة طه: الآية 95 - 96.
الشهوات غشى عمله على قوة النفس الهائلة، فيفتح العمل طريق الفجور على اتساعه. أما من التزم في عمله بما أمر به الله وما نهى عنه، تكون نفسه حظا سعيدا ينتهي إلى ثواب الله، والإنسان لا يطأ موطأ في سيره إلا بأعمال قلبية، هي الاعتقادات ونحوها. وأعمال جوارحية صالحة أو طالحة. وما أنتجه عمله يوما، كان هو زاده غدا. والسامري سولت له نفسه، فما أغنت عنه هجرته (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه..) (1).
إن الذي في قلبه مرض، في قلبه شهوة. في سبيلها يركب الصعب كما ركب السامري الصعب وأسس في نهاية الأمر عقيدة شاذة. وكما ذكر القرآن قصة السامري، لم يستبعد الفكر الحكيم أن يطمع الذي في قلبه مرض في أي أثر محرم عليه حتى ولو كان ضد الأثر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. على الرغم من أنه يعلم بنص القرآن إنهن أمهات المؤمنين، فمقتضى هذا النص لا يجوز لصاحب قلب سليم أن يقترب نحو مطمع في أمهات المؤمنين. ولكن عالم مرضى القلوب، عالم متخصص في نهش أي قبضة من أثر أي رسول. ليتاجر بها لحساب عالمه الخاص (2). قال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا) (3)، قال المفسرون: نهاهن عن الخضوع في القول وهو ترقيق الكلام مع الرجال.
بحيث يدعو إلى الريبة. ويثير الشهوة فيطمع الذي في قلبه مرض. وهو فقدانه قوة الإيمان التي تردعه عن الميل إلى الفحشاء (4)، وقال ابن كثير: في قلبه مرض. أي دغل (5). والدغل بالتحريك: الفساد. والدغل هو أيضا: دخل في
____________
(1) سورة طه: الآية 97.
(2) كان بعضهم يريد هذا ويفهم من قوله تعالى: (ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما * إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله بكل شئ عليما). الأحزاب 53 - 54 (3) سورة الأحزاب: الآية 32.
(4) الميزان: 309 \ 16.
(5) تفسير ابن كثير: 482 \ 3.
الأمر مفسد. وأدغل في الأمر أي: أدخل فيه ما يفسده ويخالفه، ورجل مدغل أي: مخاب مفسد (1).
وبالجملة نقول: إن الذي في قلبه مرض، لا يدخل في دائرة النفاق، لأنه محسوب على دائرة الذين آمنوا. وكل منافق في قلبه مرض، بمعنى في قلبه هدف لا علاقة له بأي هدف من أهداف الذين آمنوا. لأن الإيمان لم يدخل قلبه بصورة من الصورة. وما في قلبه فهو للصد عن سبيل الله ولا غير ذلك، لذلك نقول والله تعالى أعلم إن حديث الارتداد الذي رواه أصحاب الصحاح ينطبق على من كان يجلس في دائرة الذين آمنوا ثم ارتد عنها. ولا ينطبق على المنافق الذي لم يؤمن أصلا حتى يرتد. وفي الحديث عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرد علي يوم القيامة، رهط من أصحابي، فيحولون عن الحوض. فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقهرى " (2) فالمنافق لم يؤمن حتى يرتد. إلا إذا كان قد آمن بعد ذلك ثم ارتد. ومن الدليل على بطلان قول من قولوا، إن الحديث يختص بالمنافقين. الحديث الذي رواه ابن عساكر وابن النجار عن أبي الدرداء أنه لما بلغه الحديث قال: قلت يا رسول بلغني أنك قلت ليكفرن أقوام بعد إيمانهم. قال: نعم ولست منهم (3) وفي رواية عند البيهقي قال: فأتيت رسول الله فذكرت له ذلك فقال: إنك لست منهم (4).
إن دائرة النفاق وتيار الذين في قلوبهم مرض. بذرتان في تربة واحدة يسقيان من ماء واحد، ولكل شجرة منهما ثمار وأزهار، لا طعم فيهما ولا رائحة. أنبتهما الله من الأرض لحكمة ومن وراء الحكمة هدفا. (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم * فليعلمن
____________
(1) لسان العرب.
(2) رواه البخاري كتاب الدعوات (الصحيح: 142 \ 4).
(3) كنز العمال (261 \ 11).
(4) رواه البيهقي قاله ابن كثير في البداية: 208 \ 6.
الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا * ساء ما يحكمون) (1).
|