أولا - دائرة النجس:
وفي هذه الدائرة يجلس طابور الشرك كله، قال تعالى: (إنما المشركون نجس) (3). قال في المجمع: كل مستقذر نجس. يقال: رجل نجس وامرأة
____________
(1) سورة الأنعام: الآية 56.
(2) سورة الأنعام: الآية 153.
(3) سورة التوبة: الآية 28.
نجس وقوم نجس لأنه مصدر. وأدخلت في دائرة النجس الكفار نظرا لأنهم جميعا حزمة واحدة لها هدف واحد حدده برنامج واحد. وإذا كان القرآن قد ضرب على المشركين بالنجس فإنه شبه الكفار بالأنعام لأنهم لم يكونوا أهلا لسماع الحق وتعقله. وأهل هذه الحزمة الواحدة استهدفوا الرسل فرموه بالسحر (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) (1) ورموه بالجنون (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) (2)، ورفضوا بشرية الرسول فقالوا (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) (3).
ووفقا لبرنامج الشيطان استهدفوا الدعوة فقالوا عن القرآن الكريم: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) (4). وخرج الذين تقلبوا في نعيم الترف والزينة وتعلقت قلوبهم بحب الدنيا فرأوا السعادة فيها والعذاب في فقدها. خرجوا ليجلدوا الذين آمنوا، على اعتبار أنهم خرجوا عن سنة الآباء القومية التي تحمل شذوذ المسيرة الإنسانية من عهد نوح عليه السلام. وتحت السياط واللهيب سارت الدعوة الحق تضرب بحججها وجوه الجاحدين والظالمين أعداء العبادة الحق. ولم يجد هؤلاء في جعبتهم من الحجج إلا ما تلقيه الشياطين على عقولهم الفارغة. قال تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون * وقالوا له شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون * أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون * بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) (5). إن سلتهم قد طفحت بأشواك زينت بلون الورود، لقد جاءهم الشيطان من جهاتهم الأربعة ونصب خيامه على دروب الآمال والأماني وتغيير خلق الله، وزين لهم الفواحش، قال تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا
____________
(1) سورة ص: الآية 4.
(2) سورة الحجر: الآية 6.
(3) سورة الفرقان: الآية 7.
(4) سورة الفرقان: الآية 5.
(5) سورة الزخرف: الآية 19 - 22.
عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) (1).
لقد عبدوا الملائكة، وساروا بلجام الاحتناك وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم. إنه فقه الصم البكم العمي، لأن عبادتهم للملائكة لو كانت بمشيئة الله وبرضاه، ما جاءهم رسول من الله يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأن يوحدوه ولا يعبدوا الشركاء. ثم إنهم لا حجة لهم على عبادة الملائكة، لا من طريق العقل ولا من طريق النقل فلم يأذن الله فيها. ولا دليل لهم على حقية عبادتهم سوى أنهم متشبثون بتقليد آبائهم وفي درب آخر من دروبهم فعلوا الفواحش وقالوا وجدنا عليها الآباء والله أمرنا بها. وذلك افتراء على الله وقول بغير علم لعدم انتهائه إلى وحي.
إن الله تعالى أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه، والله جل شأنه لو كان مجبرا لعبده على فعل ما برأ من أفعال المشركين قال سبحانه: (أن الله برئ من المشركين) (2). فهو سبحانه لم يتبرأ من خلق أبدانهم وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم. قال تعالى: (فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون) (3)، وقال: (قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون) (4).
إن طابور الشرك والكفر والاحتناك لا علم عنده، لأن المعارف الحقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما يصلح أخلاقه. والطريق الوحيد لإصلاح الأخلاق والحصول على الملكات الفاضلة هو التوحيد الحق في العبادة الحق.
وإذا كان للمشركين والكفار في مكة عمود في دائرة النجس. فإن للمشركين والكفار من أهل الكتاب عمود عتيق في هذه الدائرة. لأنهم حملوا
____________
(1) سورة الأعراف: الآية 28.
(2) سورة التوبة: الآية 3.
(3) سورة الشعراء: الآية 216.
(4) سورة هود: الآية 54.
برنامج الشيطان وصدوا به عن سبيل الله. ولكن على طريقتهم، فاستهدفوا الرسول والدعوة والذين آمنوا، قال تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) (1)، فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعدما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن. لم يكن إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق ولا ينقاد للحقيقة. وإنما يلغوا ويهذوا بما قدمت له أيدي الأهواء من غير أن يتقيد أو يثبت على أساس (2). إن هدفه الصد عن السبيل بالتشكيك في الرسول، أما الدعوة فقد استهدفوها من جذورها. فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلن على أسماع الجميع أن دعوته مبنية على الفطرة ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، فقام المشركين من أهل الكتاب بالمتاجرة على حساب أنهم أولى الناس بإبراهيم.
يريدون من وراء ذلك إبعاد الناس عن الدعوة، فنزل قول الله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) (3). قال المفسرون: ضمت كل طائفة منهم إبراهيم إلى نفسها، فتدعي اليهود أنه كان يهوديا، وتدعي النصارى أن كان نصرانيا. ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية، إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة والإنجيل، وقد نزلا جميعا بعد إبراهيم عليه السلام. فكيف يمكن أن يكون عليه السلام يهوديا أو نصرانيا. فلو قيل في إبراهيم شئ لوجب أن يقال: إنه كان على الحق حنيفا من الباطل إلى الحق مسلما لله سبحانه. والإسلام الذي وصف به إبراهيم، هو أصل التسليم لله سبحانه والخضوع لمقام ربوبيته (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إنه أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) (4).
وكما استهدفوا الرسول والدعوة استهدفوا أيضا القوة الإسلامية بعد
____________
(1) سورة النساء: الآية 153.
(2) الميزان: 130 \ 5.
(3) سورة آل عمران: الآية 65.
(4) سورة آل عمران: الآية 67 - 68.
الهجرة، فقام اليهود بتغذية الساحة بالمكائد وإشعال الحرب وكان الغرض من هذه الحروب كسر شوكة المسلمين وتجريدهم من قوتهم لحساب المنافقين ولحساب أهل مكة ومن حولهم الذين أخبر تعالى أنهم لا يهتدون ويستوي عليهم الانذار أو عدم الانذار (1).
|