1 - من مداخل الدعوة الخاتمة:
إن الداعي إلى الله تعالى صلى الله عليه وسلم، جاء ليذكر ويغذي الإرادة.
ويعمق الإخلاص ويشيع الأخلاق الفاضلة، ويبشر بما عند الله للذين آمنوا في الحياة الدنيا والآخرة. ويحذر دوائر الانحراف والاختلاف والفرقة والضلال من عذاب يوم عظيم. وكانت أصول دعوته تستند إلى أهم الأمور الفطرية، ألا وهو لا إكراه في الدين. فنوح عليه السلام قال في صدر البشرية
____________
(1) سورة المائدة: الآية 104.
(2) سورة الأعراف: الآية 28.
(3) سورة نوح: الآية 7.
(4) سورة فصلت: الآية 5.
(5) سورة الفرقان: الآية 60.
لقومه (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) (1). قال المفسرون: أي إذا كنت على بينة من ربي، على يقين ونبوة صادقة، وخفيت عليكم فلم تهدوا إليها ولا عرفتم قدرها بل بادرتم إلى تكذيبها وردها (أنلزمكموها) أي: أنغصبكم بقبولها وأنتم لها كارهون (2). وقال في الميزان: معناه عندي ما يحتاج إليه رسول الله في رسالته، وقد أوقفتكم عليه، لكنكم لا تؤمنون به طغيانا واستكبارا، وليس علي أن أجبركم عليها، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه. والآية من جملة الآيات النافية للإكراه في الدين، وتدل على أن ذلك من الأحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع، وهي شريعة نوح عليه السلام. وهذا الحكم باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ (3).
كان هذا في شريعة صدر البشرية الأول، وفي عصر الرسالة الخاتمة. قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (4). قال المفسرون: نفي الدين الإجباري.. فالاعتقاد والإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الاكراه والإجبار. فإن الاكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية، أما الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أخرى قلبية (5).
فالدعوة تقف على أرضية لا إكراه في الدين، والداعية يقف على أرضية الخلق العظيم، قال تعالى لرسوله (وإنك لعلى خلق عظيم) (6) ومحاورة صاحب الخلق العظيم لخصومه تشع بالحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى:
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (7).
____________
(1) سورة هود: الآية 28.
(2) تفسير ابن كثير 43 \ 2.
(3) الميزان 207 \ 10.
(4) سورة البقرة: الآية 256.
(5) الميزان: 345 \ 2.
(6) سورة القلم: الآية 4.
(7) سورة النحل: الآية 125.
ومن أرضية لا إكراه في الدين حاور صاحب الخلق العظيم خصومه وأخبرهم بما أمر به الله. (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) (1). قال المفسرون: أمره تعالى أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه، هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم، وسبيل واضح لا تخلف فيه ولا اختلاف. دينا قائما على مصالح الدنيا والآخرة أحسن القيام. لكونه مبنيا على الفطرة ملة إبراهيم حنيفا، مائلا عن التطرف بالشرك. إلى اعتدال التوحيد (2)، وأمره الله تعالى أن يخبرهم بأن طريقه هو طريق العبادة الحق. (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (3). قال المفسرون: أمره تعالى أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه، وسائر به. كما أنه مأمور بذلك، وأمره أن يقول لهم: إنني جعلت صلاتي ومطلق عبادتي ومحياي بجميع ما له من الشئون.. ومماتي بجميع ما يعود إلي من أموره، جعلتها كلها لله رب العالمين. من غير أن أشرك به فيها أحد، فأنا في جميع شئوني في حياتي ومماتي لله وحده. وجهت وجهي إليه، لا أقصد شيئا ولا أتركه إلا له ولا أسير في سير حياتي ولا أرد مماتي إلا له. فإنه رب العالمين، يملك الكل ويدبر أمرهم، وقد أمرت بهذا النحو من العبودية، وأنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية التامة في كل باب وجهة (4).
كان هذا مدخل من مداخل دعوة الإسلام العظيم، ولكن جحافل الليل وخفافيش الظلام خرجوا من عالم الاحتناك حيث خيام تلجيم العقول وتعصيب العيون للصد عن سبيل الله بفرسانهم ورجالاتهم وأموالهم.
|