ثانيا: النور والسحب الداكنة
على امتداد المسيرة الإنسانية، أقام الله تعالى حجته على خلقه بإرسال الأنبياء والرسل ومعهم الهدى. وعلى امتداد نفس المسيرة والشيطان وأولياؤه يعملون من أجل الضلال والنار، وبعد رحيل النبي المؤيد بالوحي، ينشط الشيطان وتلاميذه في العمل على أرضية الصدر الأول في كل رسالة، وذلك لأن هذه التربة تعتبر مخزنا هاما تستمد منه الأجيال وقودها الذي تنطلق به إلى المستقبل، فالشيطان إذا دق شذوذا في الأرضية الأولى، ضمن لهذا الشذوذ قداسة على امتداد المسيرة البشرية. ومن أجل هذا تنشط حركته على امتداد هذه المساحة، وبالرغم من أن هذه المساحة تكون مشبعة بالعلم، إلا أن الشيطان يواجه هذا العلم دائما بالبغي، وما يلبث الذين يفي قلوبهم مرض أن يهيمنوا ببغيهم الذي يغذيه الزخرف والتزيين والإغواء، فبهذه التغذية يتراجع العلم ويعبر البغي إلى عالم الفتن. ولقد أخبرنا الله في كتابه أن الاختلاف بعد الرسل ما جاء إلا بعد أن أقيمت عليهم الحجة بالعلم، وهذا الاختلاف ما ترعرع إلا على تربة البغي التي يترتب عليها العقاب * (وما اختلف أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) * (1).
قال المفسرون: أي بغي بعضهم مع بعض، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم
____________
(1) سورة آل عمران: الآية 19.
وتباغضهم وتدابرهم. فحمل بعضهم بغض البعض الآخر، على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقا (1). وقيل: اختلاف أهل الكتاب في الدين مع نزول الكتاب الإلهي عليهم، لم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر، بل كانوا عالمين بذلك. وإنما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر، وذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم حق الأمر وحقيقته. لا بالله، فإنهم يعترفون به، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب، يحاسبه سريعا في دنياه وآخرته أما في الدنيا فبالخزي وسلب سعادة الحياة عنه. وأما في الآخرة فبأليم عذاب النار، والدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا والآخرة قوله تعالى بعد آيتين: (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين) (2).
وإذا كان البغي قد أثمر شجرة الاختلاف. فإنه أثمر أيضا شجرة الافتراق، قال تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) (3). قال المفسرون: أي وما تفرق الناس الذين شرعت لهم الشريعة باختلافهم وتركهم الاتفاق، إلا حال كون تفرقهم آخذا أو ناشئا من بعد ما جاءهم العلم بما هو الحق ظلما أو حسدا تداولوه بينهم (4). وقال ابن كثير: أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة عليهم. وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد (5).
إن الشيطان ينشط في تربة العلم، حيث القافلة الأولى. فإن استطاع أن يدق له وتدا أو ينصب له خيمة، ضمن البغي والاختلاف والفرقة. ومن هذه الأشجار سيأكل كل قادم ملجم العقل من بني الإنسان تحت لافتات عدة تزينها سنة الآباء الأوائل، التي يدافعون عنها حتى ولو خرجت منها رائحة الفواحش.
____________
(1) تفسير ابن كثير: 354 \ 1.
(2) تفسير الميزان: 121 \ 3.
(3) سورة الشورى: الآية 14.
(4) الميزان: 31 \ 18.
(5) تفسير ابن كثير: 109 \ 4.
والنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، عندما بعث كانت سنة الآباء الضالين لها أعلام في كل مكان من عالم الفرقة والاختلاف. لقد دعاهم إلى الحق، فواجهوه بالباطل (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) (1) (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) (2). جاء الرسول الخاتم ليواجه شريحة من الكفار في رسالته الخاتمة تحمل نفس الملامح التي حملها كفار قوم نوح عليه السلام في صدر الإنسانية، فقديما شكا نوح عليه السلام قومه لله تعالى وقال: (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) (3) في الرسالة الخاتمة قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) (4) (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا) (5).
لقد جاء النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في وقت كانت سياسة الاغواء والتزيين والاحتناك قد وصلت بأصحابها إلى دركات هوة عميقة.
|