ثانيا - إعلان الناس بمن هم المطهرون:
علمنا من السيرة النبوية أنه صلى الله عليه وسلم كان يكرر جوابه على من يسأله أكثر من مرة وربما يكرر الجواب ثلاث (2) أو سبع مرات (3). وكان يتحدث بالحديث الواحد في أكثر من موطن. وكل ذلك ليحقق الاستماع والإنصات والفهم لمن حوله كي يبينوا لمن لم ير أو يسمع. وإعلانه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء أهل بيته المطهرون تم في أكثر من موضع ليعلم الناس أن هؤلاء في عرف القرآن هم أهل البيت.
وآية التطهير نزلت في بيت أم سلمة: وإنما أوردنا حديث عائشة في أول حديثنا عنهم لكونه ورد في صحيح مسلم. ومن بيت أم سلمة روى الحديث أم سلمة وعمر بن أبي سلمة (4) وزينب بنت أبي سلمة (5) فعن أم سلمة قالت:
" دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا وعلي خلف ظهره فجللهم بكساء ثم قال " اللهم هؤلاء هم أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: " أنت على مكانك
____________
(1) ابن كثير في التفسير 384 \ 3، البغوي في تفسيره 546 \ 6، ابن جرير في تفسيره 5 \ 20 وغيرهم.
(2) كنز العمال 445 \ 4.
(3) سنن أبو داوود.
(4) روى الترمذي حديثه (الجامع 351 \ 5).
(5) روى ابن عساكر حديثها (كنز العمال 643 \ 13).
وأنت على خير " (1)، وفي رواية عند أبي حاتم. فقلت: يا رسول الله وأنا من أهل بيتك؟ فقال: " تنحى فإنك على خير " (2)، وفي رواية عند الإمام أحمد.
فرفعت الكساء لأدخل معهم. فجذبه من يدي وقال: إنك على خير " (3).
وبعد بيت أم سلمة تكرر المشهد في أماكن أخرى، روى الإمام أحمد، عن شداد بن أبي عمار أنه قال: أتيت فاطمة أسألها عن علي. قالت: توجه إلى رسول الله صلى الله على وسلم. فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حسن وحسين. أخذ كل واحد منهما بيده. حتى دخل فأتى عليا وفاطمة فأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه ثم تلا هذه الآية (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس...) الآية، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق " (4).
وعن إسماعيل بن عبد الله قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرحمة هابطة قال: ادعوا لي ادعوا لي فقالت صفية: من يا رسول الله؟ قال:
أهل بيتي عليا وفاطمة والحسن والحسين. فجئ بهم. فألقى النبي صلى الله عليه وسلم كساء، ثم رفع يده وقال: اللهم هؤلاء آل محمد فصلي على محمد وآل محمد (5).
وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم. كان يمر على بيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول: الصلاة يا أهل البيت " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
____________
(1) رواه الترمذي (الجامع 351 \ 5) وأحمد (الفتح الرباني 237 \ 18) وأبي يعلى والطبراني بإسنادين. وذكره ابن تيمية في منهاج السنة (منهاج 250 \ 3) وذكره أيضا في الفتاوى الكبرى 230 \ 1، ورواه ابن عبد البر في الإستيعاب 27 \ 1.
(2) تفسير ابن كثير 484 \ 3.
(3) الفتح الرباني 338 \ 18.
(4) رواه الإمام أحمد، وقال في الفتح الرباني قال الهنثي، رواه أحمد وأبو يعلى (الفتح 103 \ 22).
(5) رواه الحاكم وقال حديث صحيح الإسناد (المستدرك 148 \ 3).
تطهيرا " (1)، وقال في الفتح الرباني. قال جماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة أن أهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين. وتمسكوا بحديث الكساء وحديث أنس أن النبي كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر (2) وقال في تحفة الأحوازي: قال أبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة والكلبي أن أهل البيت المذكورين في الآية هم: علي وفاطمة والحسن والحسين. والخطاب في الآية بما يصلح للذكور لا للإناث وهو قوله " عنكم " و " ليطهركم " ولو كان للنساء.
لقال " عنكن " و " ليطهركن " (3)، وقال في أسد الغابة أن هذا الحديث. رواه الأوزعي. ولم يرو في الفضائل حديثا غير هذا. وكذلك الزهري. لم يرو فيها إلا حديثا واحدا. كانا يخافان بني أمية (4).
فإذا كان الحديث قد تكرر أكثر من مرة في أكثر من مكان في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كي يتذكر من أراد أن يتذكر. وإذا كان قد روى في عالم الخوف. أيام بني أمية. فإنه روى أيضا في أشد الأوقات حديث كانت الدماء تنزف في كل مكان. فلقد روى أن الحسن بن علي رضي الله عنهما عندما طالبه القوم بإبرام الصلح مع معاوية خطب في الناس وقال: " أيها الناس. إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم. ونحن أهل بيت نبيكم الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وكرر ذلك. حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه " (5). وإذا كان الحسن رضي الله عنه قد ذكرهم يوما. فإن علي بن الحسين رضي الله عنهم قد ذكر أهل زمانه أيضا. من أبي الديلم قال. قال
____________
(1) أخرجه الإمام أحمد وقال في الفتح الرباني: أورده ابن كثير وعزاه للإمام أحمد وأورده الطيالسي في مسنده (الفتح 103 \ 22)، ورواه الترمذي الجامع الصحيح 352 \ 5) وقال في تحفة الأحوازي: أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه ابن مردويه (تحفة الأحوازي 68 \ 9) ورواه الحكم وصححه (المستدرك 158 \ 3) ورواه صاحب الغابة (أسد الغابة 223 \ 7).
(2) الفتح الرباني 238 \ 18.
(3) تحفة الأحوازي 67 \ 9.
(4) أسد الغابة 21 \ 2.
(5) ابن الأثير 204 \ 3، تفسير ابن كثير 486 \ 3.
علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل من أهل الشام. أما قرأت في الأحزاب (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) قال: نعم ولأنتم هم؟ قال: نعم (1).
فهؤلاء أهل البيت. الذي أذهب الله عنهم الرجس: أي عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضا. كما قال ابن عباس (2) الذين قال فيهم النبي: " اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق " (3)، وقال فيهم: " اللهم أرض عنهم كما أنا عنهم راض " (4)، وقال لهم: " رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد " (5)، وقال: " اللهم هؤلاء آهل فصل على محمد وآل محمد " (6).
هؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم. ولم ينزلها إلا الله سبحانه. فإنه تعالى ذكرها منسوبة إلى نفسه " إنما يريد الله... " وليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب. وليس القلب من الإنسان إلا ما يدرك به ويريد به، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين. ويرجع إلى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان إلى الشك. وثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تماثل إلى اتباع الهوى ونقض ميثاق العلم. وهذا هو الرسوخ في العلم. فإن الله تعالى ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا. غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة.
إن دائرة الذين في قلوبهم زيغ. ما دخلوا دائرتهم إلا بعد أن ضلوا عن
____________
(1) تفسير ابن كثير 486 \ 3.
(2) الفتح الرباني 238 \ 18.
(3) رواه أحمد وأبو يعلى (الفتح الرباني 103 \ 22).
(4) قال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبيد بن الطفيل وهو ثقة (معجم الزوائد 9 \ 169 *.
(5) رواه ابن عساكر (كنز العمال 643 \ 13).
(6) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد (المستدرك 148 \ 3)، ورواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 103 \ 22).
سبيل الله حيث نسوا هناك يوم الحساب قال تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) (1)، أما الراسخون في العلم فإنهم في شوق إلى يوم الحساب. اليوم الذي يقف فيه التابع والمتبوع أمام جلال الله وعزته. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. إن الراسخين في العلم يعشقون يوم الحساب ويقولون (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) (2).
وعلى امتداد الدعوة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. كانت تجري أحداث يترتب عليها غرس مفهوم من هم أهل البيت في ذاكرة الذين عاصروا النبي على إعتبار أنهم الجيل الذي سيفتح الأبواب من بعده ووفقا لحركة هذا الجيل ستسير الحركة على امتداد المسيرة. ومن هذه الأحداث التي غرست مفهوم من هم أهل البيت. أحداث يوم المباهلة وملخص القصة التي وردت في كتب التفسير والحديث والتاريخ. إن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إلى ما تدعوا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله. وأني رسول الله. قالوا: وماذا تقول في عيسى: قال: إن عيسى عبدا مخلوقا. يأكل ويشرب ويحدث. قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال. قل لهم: ما تقولون في آدم، أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبي. فقالوا: نعم. فقال لهم:
فمن أبوه؟ فبهتوا. فأنزل الله: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب... الآية). وقوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين) (3) فقال رسول الله: فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللعنة عليهم. وإن كنت كاذبا أنزلت علي. فقالوا: أنصفت
____________
(1) سورة ص: الآية 26.
(2) سورة آل عمران: الآية 9.
(3) سورة آل عمران: الآية 61.
فتواعدوا للمباهلة.
فهذا الحدث. لم يكن ليتم في الخفاء، ولأن هذا الاجتماع سيترتب عليه نتيجة حاسمة. فلا بد أن يشهده كل من سمع بموعده سواء أكان من المكذبين أو من المؤمنين أو غيرهم. وبين هؤلاء يوجد الحبشي والفارسي والرومي والنجراني إلى غير ذلك من الأجناس. باختصار كانت العالمية ممثلة بصورة أو بأخرى لمشاهدة هذا الحدث. ويروي أصحاب التفسير بالمأثور. إن رؤساء النصارى قالوا لبعضهم بعد أن اتفقوا على موعد المباهلة: إن باهلنا بقومه باهلناه. فإنه ليس نبيا. وإن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله. فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا وهو صادق. فمن هم الذين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ روى الإمام مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية (فقل تعالوا ندع أبناء وأبناءكم) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا. فقال: " اللهم هؤلاء أهلي " (1).
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أهل بيته. قال النصارى: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمه. وهذه ابنته فاطمة وهذان ابناه الحسن والحسين. ففرقوا. فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نعطيك الرضا.
فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية وانصرفوا.
قال صاحب تحفة الأحواذي: دعا عليا فنزله منزلة نفسه. وفاطمة لأنها أخص النساء. وحسنا وحسينا فمنزلتهما بمنزلة ابنيه صلى الله عليه وسلم (2)، وسئل يحيى ابن معمر. هل كان الحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كانت الإجابة. نعم. فكيف والنبي لم يعقب. وإنما العقب
____________
(1) صحيح مسلم ك، فضائل الصحابة ب، فضل علي، وأصل المباهلة في صحيح البخاري 80 \ 3. ورواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، وقال حديث حسن ورواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخان (المستدرك 150 \ 3).
(2) تحفة الأحواذي 350 \ 8.
للذكر لا للأنثى. والحسين ولد البنت: قال: قال تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى والياس) فأخبر عز وجل أن عيسى من ذرية آدم بأمه. والحسن بن علي من ذرية محمد بأمه (1).
إن حديث المباهلة روي من أحد وخمسين طريقا. وأثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم. وأثبتها المفسرون في تفاسيرهم من غير إعتراض أو ارتياب.
كالطبري وابن كثير والسيوطي وغيرهم، وروى القصة أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل وابن إسحاق وابن هشام في السيرة. وغيرهم. وعلى هذا نقول بأن مفهوم من هم أهل البيت قد غرس غرسا في ذاكرة العديد على زمن النبي صلى الله عليه وآله. وعلم الجميع أن قوله تعالى: (أبناءنا) تعني الحسن والحسين. وإن قوله تعالى: (وأنفسنا) تعني كما في حديث جابر:
" رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب " (2)، وإن قوله تعالى:
(ونساءنا " يعني. فاطمة.
|