متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
ثالثا - قطع الطريق على الدعوة
الكتاب : معالم الفتن ج1    |    القسم : مكتبة المُستبصرين

ثالثا - قطع الطريق على الدعوة:

بعد أن مارس قطاع الطرق عملهم للصد عن سبيل الله. انقطع الطريق على الرسل والأنبياء والفطرة وفقا لمنهج الشيطان. نرى أن هذا المنهج قد قطع الطريق على الدعوة، بمعنى إنه استعمل أدوات يستطيع أن يعرقل بها الطريق أمام السائرين في اتجاه العبادة الحق إلى يوم الوقت المعلوم. وأدوات الشيطان التي استعملها في هذا المجال قام بها المنافقون والذين في قلوبهم مرض وغيرهم من الذين يلبسون ملابس الأديان. أي أنه عمل على ضرب الدعوة من داخلها حتى تسير في اتجاه غير اتجاه العبادة الحق. وهذا المخطط أخبرنا الله تعالى به، فبعد أن أنظره الله ليوم يبعثون قال لله جل شأنه * (فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) * (1)، قال المفسرون: لما أنظر إبليس واستوثق بذلك أخذ في المعاندة والتمرد. قال: لأقعدن لعبادك الذين تخلفهم من ذرية هذا على طريق الحق وسبيل النجاة ولأضلنهم عنها لئلا يعبدون ولا يوحدوك (2) وقعود الشيطان على الصراط المستقيم، كناية عن التزامه والترصد لعابريه ليخرجهم منه.

والجلوس على الصراط المستقيم لا يتحقق الغرض منه إلا برمز من رموز هذا الصراط، بمعنى أنه لكي يصد عن سبيل الله فلا بد من ثقافة يصيد بها الذين يسيرون على الصراط المستقيم.

وهذه الثقافة لكي يتحقق الغرض منها لا بد أن يحملها طائفة من السائرين على الصراط المستقيم، فمعهم يكون الضلال أشد. ويسيرون في الحياة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، بينما هم في الواقع يغوصون في أوحال الذين من قبلهم من الذين غضب الله عليهم ولعنهم. إن قطع الطريق على الدعوة، يتحقق إذا حملها أصحاب اللادعوة واللاهدف، بشرط أن يكون على أصحاب اللادعوة

____________

(1) سورة الأعراف: الآية 16 - 17.

(2) تفسير ابن كثير: 204 / 2.

الصفحة 31
واللاهدف ملابس الدعوة والهدف.

وبعد أن أعلن الشيطان الخط العريض، بأنه سيجلس على الصراط المستقيم. ذلك الصراط الذي يوصل الناس إلى ربهم الحق وينتهي بهم إلي سعادتهم في الدنيا والآخرة، أخبر سبحانه بأنه قال: * (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) * وفي هذا إيضاح للخط العريض. قال المفسرون: عن مجاهد قال * (من بين أيديهم) * يعني من حيث يبصرون، وقيل:

من بين أيديهم أي الدنيا (1). وقيل: أي ما يستقبلهم من الحوادث أيام حياتهم، من الأمور التي تهواها النفوس، وتستلذه الطباع. وكل ما يتعلق بالآمال والأماني. فيأتيهم ليخوفهم من الفقر إذا هموا لينفقوا في سبيل الله. أو يخوفهم من ذم الناس أو لومهم إذا أمروا بمعروف أو إذا سلكوا سبيل من سبل الخير وعلى هذا جاء فقه التقوقع والترقيع والانسحاب، غلافه غلاف الدين ومحتواه لا علاقة له بالدين.

والمراد من خلفهم، قال المفسرون: أي أرغبهم في دنياهم (2)، وقيل:

أي آتيهم من ناحية الأولاد والأعقاب وذلك لأن الإنسان له فيمن يخلفه من أولاد، آمال وأماني ومخاوف ومكاره. ويخيل للمرء أنه يبقى ببقاء أولاده، ويسره ما يسرهم ويسوؤه ما يسوؤهم، فيجمع لهم المال من حلاله وحرامه، ويفسح لهم الطريق إذا كان ذا جاه وملك ليكونوا امتدادا له بعد وفاته.. وعلى قاعدة الأبناء جاء فقه السلطة الذي يمدح المستقبل لأنه ينتمي إلى حاضر القاضي والجلاد ويمدح الحاضر لأنه ينتمي إلى ماضي القاضي والجلاد إنه عالم * (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) * (3)، عالم ينظر إلى المستقبل بعيون الماضي وإن كان آباؤهم في الماضي لا يعقلون شيئا، إنه عالم غلاف فقهه غلاف ديني أما محتواه فهو أقرب إلى المحافظة على الشذوذ.

____________

(1) تفسير ابن كثير: 204 / 2.

(2) تفسير ابن كثير: 204 / 2.

(3) سورة الزخرف: الآية 22.

الصفحة 32
والمراد بعن أيمانهم وعن شمائلهم، قال المفسرون: عن أيمانهم: أي أشبه عليهم أمر دينهم (1). وقيل: اليمين هو الجانب القوي الميمون من الإنسان، أي الدين. وإتيانه من جانب الدين، أن يزين لهم المبالغة في بعض الأمور الدينية والتكاليف بما لم يأمرهم الله.. وعلى هذا جاء فقه المبالغة والتنطع والمنفرين، الذين يدعون أنهم يعلمون كل شئ وهم لا يعلمون أي شئ. وعلى أكتافهم تتآكل الشرائع ويتراجع الدين، إن غلاف فقه المنفرين والمتنطعين والذين يتخذون الزهد والرهبنة طريقا ليأكلوا به أموال الناس بالباطل، غلاف يحمل ملامح دينية. أما محتواه فقد خطه أصحاب القضايا الرديئة، التي لا تصلح إلا لعالم اللادعوة واللاهدف * (وعن شمائلهم)، قال المفسرون: اشتهى لهم السيئات والمعاصي. وقيل: عن شمائلهم أي تأصيل الفحشاء والمنكر والدفاع عن اقتراف الذنوب بجعل الأهواء قانونا لهم.. وأمام هذا الفقه تقهقر اليمين وتقدم الشمال تحت لافتة تنادي بحقوق الإنسان، فالعنوان له ملامح طيبة " حقوق الإنسان " أما المحتوى فلا وجود فيه لإنسان الفطرة، إلا من رحم الله.

والمنهج الشيطاني لم يكتف بمحاصرة الإنسان من جهاته الأربع، وإنما خطط من أجل أن يجمع أتباعه تحت ثقافة واحدة، هي ثقافة الأهواء رغم تفرق سبلهم، وهذه الثقافة يعزفها الشيطان الرجيم على الجميع. أخبر الله تعالى بأنه قال: * (أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) * (2). قال المفسرون: يقال، حنك الدابة بحبلها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. والمعنى: أقسم لئن أخرتني إلى يوم القيامة، وهو مدة مكث بني آدم في الأرض، لألجمن ذريته إلا قليلا، أتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها، يطيعونني فيما آمرهم، ويتوجهون إلى حيث أشير لهم، من غير أي عصيان وجماح. إن الاحتناك فقه لتلجيم العقول وتكميم الأفواه

____________

(1) تفسير ابن كثير: 204 / 2.

(2) سورة الإسراء: الآية 62.

الصفحة 33
وتعصيب العيون، عن كل حق أو حقيقة. إن الاحتناك قانون يضرب بسياطه الغوغاء والرعاع والديهماء.

وفي عالم الاحتناك تتلقى الدواب أوامر الضلال والأماني وتغيير خلق الله، بدون اعتراض وبلا أدنى تفكير. قال تعالى وهو يخبر في كتابه عن خطة الشيطان * (وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * (1). قال المفسرون: * (ولأضلنهم) * أي عن طريق الحق، * (ولأمنينهم) * أي أزين لهم ترك التوبة * (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام) * يعني بشق آذانها، * (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) * يعني دين الله (2).

والمعنى: أي لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله، واقتراف المعاصي، ولأغرينهم بالأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم وما يهمهم من أمرهم، ولآمرنهم بشق آذان الأنعام وتحريم ما أحل الله، ولآمرنهم بتغيير خلق الله.

وينطبق على مثل الإخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحاق. وقيل: المراد بتغيير خلق الله، الخروج عن حكم الفطرة، وترك الدين الحنيف. قال تعالى: * (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) * (3). والخروج على حكم الفطرة، غير تبديل الفطرة. فالفطرة لا تبدل لأنها حجة بذاتها على الإنسان.

وهكذا قطع البرنامج الشيطاني الطريق على الرسل والفطرة والدعوة، والله غالب على أمره. لقد طلب الشيطان الامهال إلى يوم الوقت المعلوم، فأعطاه الله ذلك، وتوعد ذرية آدم بالإغواء والتزيين والاحتناك وغير ذلك. ولأن برنامجه لا يقصده إلا شر الدواب عنه الله، زاده الله فقال له تعالى: * (اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان

____________

(1) سورة النساء: الآية 118 - 119.

(2) تفسير ابن كثير: 556 / 1.

(3) سورة الروم: الآية 30.

الصفحة 34
إلا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) (1). قال المفسرون: أي استنهض للمعصية من استطعت أن تستنهضه من ذرية آدم بصوتك، وصح عليهم لتسوقهم إلى المعصية بأعوانك وجيوشك، فرسانهم ورجالتهم. وشاركهم في الأموال فيجمعونها من خبيث وينفقونها في حرام، وشاركهم في الأولاد أي يمجسونهم ويهودونهم وينصرونهم ويصبغونهم غير صبغة الإسلام. (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) أخبر سبحانه، بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم، ولهذا قال (وكفى بربك وكيلا) أي حافظا ومؤيدا ونصيرا (2).

إن برنامج الشيطان تنسفه العبادة الحق نسفا. فالشيطان لا يستطيع أن يجبر إنسان على معصية، إنه يزين ويغوي وينادي فقط، والذي يلبي نداءه يكون في الحقيقة قد اختار، ومن اختار طريق الشيطان فهو بعيد عن الله، وبرنامج الشيطان يسير اتباعه عكس اتجاه الفطرة، ولا يقصدوا إلا ما خلفوه وراء ظهورهم.

والإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة، كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه، لم ينل إلا شرا أو فسادا، وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر، وليس بفالح أبدا. وذلك لأنه مطارد من الله ولا بقاء لشئ يطارده الله إن أتباع برنامج الشيطان لن يهديهم الله، ما داموا يتزودون من زاد برنامج الضلال. (والله لا يهدي القوم الظالمين) (3) (والله لا يهدي القوم الفاسقين) (4) (والله لا يهدي القوم الكافرين) (5) (إن الله لا يهدي من يضل) (6) (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) (7) (إن الله لا يهدي من هو

____________

(1) سورة الإسراء: الآية 63 - 64 - 65.

(2) تفسير ابن كثير: 50 / 3.

(3) سورة التوبة: الآية 19.

(4) سورة المائدة: الآية 108.

(5) سورة البقرة: الآية 264.

(6) سورة النحل: الآية 37.

(7) سورة غافر: الآية 28.

الصفحة 35
كاذب كفار) * (1) فهؤلاء جميعا دخلوا باختيارهم إلى دائرة مقفولة على الغاوون.

فمن لم يأخذ بالأسباب وخرج من هذه الدائرة، هلك وخسر الدنيا والآخرة، إن العودة إلى سبيل الفطرة، لا يكون إلا بالاتجاه أولا نحو الفطرة، ثم السير على سبيلها وفقا لما جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى الخطوة الأولى يأتي مدد الله العزيز الحكيم، قال تعالى: * (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) * (2).


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net