ثالثاً : حقوق الوالدين :
للوالدين الدور الأساسي في بناء الاُسرة والحفاظ على كيانها ابتداءً وإدامة ، وهما مسؤولان عن تنشئة الجيل طبقاً لموازين المنهج الاسلامي ، لذا حدّد الإسلام أُسس العلاقة بين الوالدين والأبناء ، طبقاً للحقوق والواجبات المترتّبة على أفراد الاُسرة تجاه بعضهم البعض ، فقد قرن الله تعالى في كتابه الكريم بوجوب برّ الوالدين والاحسان إليهما بوجوب عبادته ، وحرّم جميع ألوان الاساءة إليهما صغيرها وكبيرها ، فقال تعالى : ( وقَضى ربُّكَ ألاّ تَعبدُوا إلاّ إيّاهُ وبالوالدينِ إحسَاناً إمّا يَبلغُنَّ عِندكَ ____________ 1) المقنعة : 523 . 2) المقنعة : 520 . 3) المقنعة : 516 . 4) المقنعة : 541 .
===============
( 73 )
الكِبرَ أحدُهُما أو كِلاهُما فلا تقُل لهُما أُفٍّ ولا تَنهرهُما وقُل لهُما قَولاً كرِيماً)(1).
وأمر بالاحسان إليهما والرحمة بهما والاستسلام لهما ، فقال تعالى : (واخفِض لهما جَناحَ الذُلِّ مِن الرحمةِ وقُل ربِّ ارحَمهُما كما ربَّيانِي صَغِيراً )(2).
وقرن الله تعالى الشكر لهما بالشكر له ، فقال : (... أنِ اشكُر لي وَلِوالِدَيكَ إليَّ المصِيرُ ) (3).
وأمر تعالى بصحبة الوالدين بالمعروف ، فقال : ( وَصَاحِبهُما في الدُّنيا مَعرُوفاً... ) (4).
وتجب طاعة الأبناء للوالدين ، قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : « ... ووالديك فأطعمها وبرهما حيّين كانا أو ميتين ، وان أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل ، فإنّ ذلك من الايمان » (5).
وقرن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) بر الوالدين بالصلاة والجهاد ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : قلت : أي الأعمال أفضل ؟ قال : « الصلاة لوقتها ، وبر الوالدين ، والجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ » (6).
ومن حقوق الوالد على ولده كما قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : « لا يسميه ____________ 1) سورة الاسراء : 17 | 23 . 2) سورة الاسراء : 17 | 24 . 3) سورة لقمان : 31 | 14 . 4) سورة لقمان : 31 | 15 . 5) الكافي 2 : 158 ، كتاب الايمان والكفر ، باب البر بالوالدين . 6) الكافي 2 : 158 | 4 .
===============
( 74 )
باسمه ، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسبّ له » (1).
ومعنى (لا يستسب له) أي لا يفعل ما يصير سبباً لسبّ الناس له .
وقدّم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) برّ الوالدة على برّ الوالد لأنّها أكثر منه في تحمّل العناء من أجل الأولاد في الحمل والولادة والرضاع ، عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ، قال : « جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فقال : يا رسول الله ، من أبرُّ؟ قال : أُمّك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أُمّك ، قال ثم من ؟ قال : أباك » (2).
وكانت سيرة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قائمة على تكريم من يبر والديه ، فقد أتته أُخته من الرضاعة ، فلمّا نظر إليها سرَّ بها وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها ، ثم أقبل يحدّثها ويضحك في وجهها ، ثم قامت وذهبت وجاء أخوها ، فلم يصنع به ما صنع بها ، فقيل له : يا رسول الله ، صنعت بأخته مالم تصنع به وهو رجل ؟! فقال (صلى الله عليه واله وسلم) : « لأنّها كانت أبرَّ بوالديها منه » (3).
وقدّم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) طاعة الوالدين على الجهاد ، ففي رواية جاءه رجل وقال : يا رسول الله ، إنّ لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان خروجي ؟ فقال (صلى الله عليه واله وسلم) : « فقرَّ مع والديك ، فوالذي نفسي بيده لأنسهما بك يوماً وليلة خير من جهاد سنة » (4).
وورد في الحديث أنّه يجب برّ الوالدين وإن كانا فاجرين ، قال الإمام ____________ 1) الكافي 2 : 159 | 5 . 2) الكافي 2 : 159 ـ 160 | 9 . 3) الكافي 2 : 161 | 12 . 4) الكافي 2 : 160 | 10 .
===============
( 75 )
محمد الباقر (عليه السلام) : « ثلاث لم يجعل الله عزَّ وجلَّ لأحد فيهنَّ رخصة : أداء الامانة إلى البرّ والفاجر ، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر ، وبر الوالدين برّين كانا أو فاجرين » (1).
وفي الآية المتقدمة ( واخفِض لهما جَناحَ الذُلِّ مِن الرحمةِ ) قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلاّ برحمة ورقّة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ، ولا تقدَّم قدّامهما » (2).
وبرّ الوالدين لا يقتصر على حال حياتهما ، بل يشملهما حال الحياة وحال الممات ، قال الامام الصادق (عليه السلام) : « ما يمنع الرجل منكم أن يبرَّ والديه حيّين وميّتين ، يصلي عنهما ، ويتصدّق عنهما ، ويحجّ عنهما ، ويصوم عنهما ، فيكون الذي صنع لهما ، وله مثل ذلك ، فيزيده الله عزَّ وجلَّ ببره وصلته خيراً كثيراً » (3).
ويجب على الولد الأكبر أن يقضي عن والده مافاته من صلاة وصوم(4) ، أما بقية الأولاد فلا يجب عليهما القضاء عن والدهم ، بل يستحب للرواية المتقدمة .
وحرّم الإسلام عقوق الوالدين بجميع ألوانه ومراتبه ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « من أحزن والديه فقد عقّهما » (5). ____________ 1) الكافي 2 : 162 | 15 . 2) الكافي 2 : 158 | 1 . 3) الكافي 2 : 159 | 7 . 4) منهاج الصالحين | السيد السيستاني ، العبادات : 248 ، 338 . 5) بحار الانوار 74 : 72 ، كتاب العشرة ، باب بر الوالدين | 53 .
===============
( 76 )
وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال : « أدنى العقوق أفّ ، ولو علم الله عزَّوجلَّ شيئاً أهون منه لنهى عنه » (1).
وقال (عليه السلام) : « ... ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدّ النظر إليهما » (2).
وقال (عليه السلام) : « من نظر إلى أبويه نظر ماقتٍ وهما ظالمان له ، لم يقبل الله له صلاة » (3).
وعقوق الوالدين من الكبائر التي تستلزم دخول النار ، قال الإمام الصادق (عليه السلام) : « عقوق الوالدين من الكبائر ، لأنّ الله عزَّ وجلَّ جعل العاقّ عصياً شقياً » (4).
ولا يقتصر وجوب البر وحرمة العقوق على الجوانب المعنوية والروحية ، بل يتعداها إلى الجوانب المادية ، فتجب النفقة عليهما إن كانا معسرين (5).
وتجب رعاية الوالدين رعاية صحية ، عن إبراهيم بن شعيب قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ أبي قد كبر جداً وضعف ، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة ؟ فقال : « إنّ استطعت أن تلي ذلك منه فافعل ، ولقّمه بيدك ، فإنّه ____________ 1) الكافي 2 : 348 كتاب الايمان والكفر ، باب العقوق . 2) الكافي 2 : 349 . 3) الكافي 2 : 349 . 4) بحار الانوار 74 : 74 . 5) الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 286 .
===============
( 77 )
جُنّة لك غداً » (1).
وخلاصة القول : يجب طاعة الوالدين في جميع ما يأمرون به إلاّ المعصية أو ما يترتب عليه مفسدة فلا تجب طاعتهما .
ومع جميع الظروف يجب على الأبناء إحراز رضا الوالدين بأيّ أُسلوب شرعي إن أمكن ، لأنّ رضاهما مقروناً برضى الله تعالى ، قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : « رضا الله مع رضى الوالدين ، وسخط الله مع سخط الوالدين » (2).
وبرّ الوالدين بطاعتهما والاحسان إليهما ، كفيل باشاعة الودّ والحبّ والوئام في أجواء الاُسرة وبالتالي إلى تحكيم بنائها وإنهاء جميع عوامل الاضطراب والتخلخل الطارىء عليها ، ولا يتحقق ذلك إلاّ بالالتزام بالحقوق والواجبات المترتبة على أفرادها .
|