القسم الاول : الخطاب الشعري لليلة عاشوراء عندما نمتلك وعياً نقدياً مبسّطاً ونقرأ من خلاله المشهد الشعري المجاور لحركة بثّ المنظومة المعرفية الحسينية على إختلاف وسائطها ، لا نرى هناك إلا الشعر محرّكاً للوجدان والضمير الموالي ، ولا نجد سواه وَقوداً ملتهباً متأججاً بانفعالاته المتولدة من صوره وتراكيب ألفاظه وجمله. فلو تأملنا مجلساً حسينياً بلا شعر ، فهل يستطيع خطيب أن يقرّب سامعيه من الابعاد المأساوية بِقِطَع نثرية ؟ وكيف سيتمكّن من تصوير المصاب بإغفال الجذوة الجيّاشة بالعواطف والاحاسيس والمشاعر التي يحملها الشعراء في حبات قلوبهم ؟ لابد من تأشير ذلك لئلا يُهمّش دور الشعر في الحمّى التبخيسية التي تتعرض لها كلّ الانشطة الانسانية الحقة والتي تملا الفراغات الحساسة في حيات البشر ، بعد غَلَبة الافكار المُسلّطة التي تحمل طابع السطو على المجالات والحقول المؤثّرة والفاعلة في الانسان الفرد والمجتمعات. ولعلّي أجد أكثر من مبرّر أحتمي تحت ظلاله في محاولتي قراءة نصوص المجموعّة إنطلاقاً من النصوص نحو ليلة عاشوراء وليس العكس ، أي من ليلة عاشوراء نحو النصوص. فليلة عاشوراء لاتحتاج الادب إلا كحلّة لها ، وصورة تتجلّى بها ، ووتر يرنّم انشودة العطاء والفداء والتضحية. ربّ سائل يطرح هذه الاثارة (ما علاقة النقد الادبي بليلة عاشوراء ؟) ونحن
===============
( 197 ) بدورنا نجيب : أنها علاقة أي نشاط إنساني حيوي بمبادئه وثوابته ومرتكزاته العقائدية والدينية من خلال الواقع والتاريخ الذي يعيشه ، فمادام هناك أدب يُكتب عن المأساة الحسينية (شعراً كان أو غيره من الاجناس الادبية والفنية) فلابد من وجود نقد يختبر ويفحص ويؤشّر ويقوّم ويثمّن ويوجّه ويفتتح طرق التلقي السليم ويُشذّب أساليب القراءة الصحيحة. فالنقد يُفعّل عملية الالتفاف حول الادب (مؤلفين وقراء) وكذلك هو يرفع من درجات الاهتمام بالنشاط الادبي كنشاط إنساني ضروري يكتسب مشروعيته من حاجة الناس اليه لايجاد حالة التوازن في الجانب الشعوري الوجداني لبني البشر. وبعد.. فالشاعر الولائي بحاجة الى الاحتضان والرعاية والاحتفاء ، لانه المعادِل العاطفي الوجداني للعالِم والمفكّر والفيلسوف ، وهو حنجرة الاماني المستترة ، وصوت الضمير النابع من أعماق الذات المتفاعلة مع النداء الالهي المتجلي ، دائماً وأبداً على صفحات الولاء الحق لحملة النور الرباني المتوهّج ، بسيد الاكوان والمخلوقات الرسول الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وآلِ بيته المعصومين (عليهم السلام) . ليلة عاشوراء ما هي إلا محطة من محطات المسيرة العظيمة ، وهي موقف يمتد وأفق إنتظار لما سيحدث ، فلا غرو أن تُثير عند الشعراء كوامن الابداع وينابيع العطاء ليقفوا أمام جلالها وعظمتها وقفة حيرة ووجل. مالذي يفعله كائن سينتهي في يوم ما من أيام الزمن مع واقعة تشمخ على قوانين الزمن الصارمة ؟. إن لليلة عاشوراء من الخصائص ما يجعلها تحقق إمتدادات متنائية النهايات ،
===============
( 198 ) ومساحات مترامية الابعاد ، وحجوماً غائرة الاعماق في الوجود الانساني عبر أزمانه المتعددة. تُرسل الواقعة رسالتها ـ الى هدا الكائن الحساس في زمنه المحصور المهشّم ـ عبر سياق يحفظ للرسالة هويتها وصفاتها ، وهذا السياق هو ـ عملية نقل الوقائع التاريخية المهمة ـ وسيكون هناك نظام إتصال مادّي يؤمّن وصول الواقعة بطزاجتها ونضارتها وحيويتها من المرسل (ليلة عاشوراء) الى المستلم (وهو الشاعر هنا) وستنبري شيفرة محددة خاصة ـ يعرف الشاعر المستلم مفاتيحها ـ لاعادة حدوث الواقعة في ذهن المستلم. بعد هذا ماالذي سيحدث ؟ هل يصح أن نعدّ المفردات التاريخية لليلة عاشوراء كمواد أولية خام للعملية التحويلية الشعرية التي ستتناولها أم لا ؟ إن مفردات ليلة عاشوراء ـ أحداثاً وشخصيات وحوارات وخِطباً ـ لحظات زمنية خاصة تجاوزة خصوصيتها المشخصة ، وتخطة إثباتها في السجلّ التاريخي لتستمرّ في نفض أغبرة النسيان عنها بنبض حيوي متصاعد لتتواصل ، مع كل اللحظات والازمان الخاصة التي ستعقبها وتليها ، بنداء حيّ متدفق فتخاطب عقولاً وقلوباً لم تعش معها تلك اللحظة التاريخية ولم تعاصرها ولم تتزامن معها. فهي مواد أوليّة لعملية الكتابة تشعّ إمكانات وقدرة وطاقة هائلة لايمكن أن يحيط بكلياتها متأمل ، ولايستطيع أن يستوعب جزئياتها متفكر ، فنرى الشعراء حيارى بين من يقارب الوثيقة التاريخية بنظمه موثّقاً ، وبين من يستبطن مفرداتها ويدور حولها متصوّراً.
===============
( 199 ) سنقف عند أحد المداخل المتفاعلة مع الليلة ، وهذا المدخل هو الخطاب الذاتي الخاص بالشاعر عندما ينادي ليلة عاشوراء لنرى سمات وصفات وأبعاداً سنحددها تباعاً من مجمل خطابات شعراء المجموعة كالاتي :
|