أ ـ الصدق والصراحة في التعامل الصدق هو : من الصفات الكريمة ومن أشرفها ، والتي تؤدي إلى سمو الانسان ورفعته وتكامل شخصيته ، وأساس ثقة الناس به ، وهو أحد الاركان التي عليها مدار نظام المجتمع الانساني. ولذا عنى الاسلام بهذه الصفة الكريمة وبالغ في التحلي بها ، وقد أثنى على من تخلق بها ، قال تعالى : ( من المؤمنين رجالٌ صَدقُوا مَا عاهدُوا اللهَ عَليه) (1) كما أثنى تعالى على نبيه إسماعيل به وقال : ( إنه كانَ صادِقَ الوعدِ وكانَ رسولاً نبياً ) (2). ومما ورد عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام) في مدح هذه الخصلة الشريفة والتحلي بها : ما روي عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال : إن الله لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث ، وأداء الامانة إلى البر والفاجر (3). وروي عنه (عليه السلام) يوصي شيعته : كونوا دعاةً للناس بالخير بغير ألسنتكم ، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع (4). ____________ (1) سورة الاحزاب : الاية 23. (2) سورة مريم : الاية 54. (3) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص104 ، ح1. (4) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص105 ، ح10.
===============
( 142 )
وكما لا يخفى أن هذه الخصلة الشريفة من خصال أهل بيت العصمة(عليهم السلام) ، والتي ظهرت بشكل واضح على أفعالهم وأقوالهم ، فهمُ الصديقون حقاً ، كما عناهم القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى : ( يا ايُها الذينَ آمنوا اتقُوا اللهَ وكونُوا معَ الصادِقين ) (1) فهمُ الصادقونَ الذين أمر القرآنُ الكريم باتباعهم والسيرَ على منهجهم الشريف ، وقد استأثرت هذه الخصلة الشريفة بعناية بالغة عندهَم(عليهم السلام) مؤكدين عليها ، وملتزمينَ بها في حياتهم ، وفي تعاملهم مع سائر الناس ، بعيداً عن المداهنة والخداع والتضليل ، حتى في وقت الشدائد ووقوع المكاره ، فقد اتسم طريقُهم بالصِدقِ والصراحة في جميع فترات حياتهم ، وإن أدى ذلك إلى تفرُّق الناس عنهم ، ما داموا على الحق والذي لا يعدلون به إلى غيره. إذ ليسوا كغيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ من أولئك الذين يصلون إلى غاياتهم ، بكل وسيلة ما دام ذلك يُعزِّرُ موقفهم والتفاف الناس حولَهم ، ويُحقق لَهمُ الفوزَ والغلبةَ على مُناوئيهم ولو بالمُداهنة والخُداع والتضليل. إلا أن أهلَ البيت(عليهم السلام) المتميزين عن غيرهم بما خَصهُم اللهُ تعالى ومنحهمُ به ، لا يتوصلونَ للحق إلا مِنْ طريق الحق ، فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أشار عليه المُغيرة بن شعبة أن يبقيَ معاوية بن أبي سفيان أميراً على الشام ولا يعزله كيما يستتب له الامر ، ثم بعد ذلك يعزله. قال له (عليه السلام) : أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه ؟ قال : لا ، ____________ (1) سورة التوبة : الاية 119.
===============
( 134 )
قال (عليه السلام) لا يسألني الله عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً ( وما كنتُ متخذَ المُضلينَ عَضُدا ) (1) الخبر (2). ومما حدّث به بعضهم في فضائله (عليه السلام) قال : ثمّ ترك الخديعة والمكر والغدر ، إجتمع الناس عليه جميعاً فقالوا له : أكتب يا أمير المؤمنين الى من خالفك بولايته ثمّ اعزله ، فقال : المكر والخديعة والغدر فالنار (3) وكذا إذا رجعنا إلى موقفه (عليه السلام) يومَ الشورى حينما بُويع بعد وفاة الخليفة الثاني على أن يعمل بسيرة الشيخين لم يُساومهم ولم يخادعهم ، بل كان صريحاً معهم في موقفه من ذلك وقال (عليه السلام) : بل على كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي ، فعدل عنه إلى الخليفة الثالث (4) ولم يكن (عليه السلام) بوسعه أن يسلك طريقاً لا يراه ، بل أوضح لهم المنهج الذي يَسير عليه ، وإن ذهبت الخلافةُ إلى غيره. فهو (عليه السلام) يَبني أساس الحكم على الصدق والحق ، وعدم الالتواء مع الاخرين وإن كان ذلك يُحقق له الانتصار والغلبة ، وهذا من مميزاتهم عن سائر الاخرين. وإلى غير ذلك من الشواهد الاخرى في سيرتهم ، والتي أوضحوا فيها منهجَهم الصادق القائم العدل والحق. ويتضح هذا الامر أيضاً في مواقف الحسين (عليه السلام) وفي منهجه الشريف والذي اتسم بالصدق والصراحة ، بعيداً كل البُعد عن تلك الاساليب التي ينتهجها بعضهم في ساعة المحنة ، ____________ (1) سورة الكهف الاية : 51. (2) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب : ج3 ، ص195 ، وعنه بحار الانوار : ج32 ، ص34 ، ح 20 ـ 22. (3) بحار الانوار : ج40 ، ص 105 ، ح117. (4) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج1 ، ص188.
===============
( 144 )
فيخدعون الاخرين وخصوصاً أتباعهم بكل وسيلة وحيلة من أجل البقاء على سلامة رؤوسِهم ، ولو كلف ذلك إبادتهم جميعاً !!. ( فكان ـ صلوات الله عليه ـ في جميع فترات حياته لم يوارب ولم يُخادع ، ولم يَسلك طريقاً فيه أيَ التواء ، وإنما يَسلك الطريق الواضح الذي يتجاوب مع ضميره الحي ، وابتَعد على المنعطفات التي لا يقرُها دينُه وخُلقُه ، وكان من ألوانِ ذلك السلوك النير أن الوليد حاكم يثربَ دعاه في غَلس الليل ، وأحاطهُ علماً بهلاك معاوية ، وطلب منه البيعةَ ليزيد مُكتفياً بها في جنح الظلام ، فامتنع (عليه السلام) وصارحَه بالواقع قائلاً : يا أمير إنا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد فاسق فاجر ، شارب الخمر ، قاتلُ النفس المحرمة ، مُعلنٌ بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله (1) ، وكشفت هذه الكلمات عن مدى صراحته ، وسمُو ذاته ، وقوة العارضة عنده في سبيل الحق. ومن ألوان تلك الصراحة التي اعتادها وصارت من ذاتياته أنه لما خرج إلى العراق وافاه النبأُ المُؤلم وهو في أثناء الطريق بمقتل سفيره مسلم بن عقيل (عليه السلام) ، وخُذلان أهل الكوفة له ، فقال للذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق :... فَمَن أحبَّ مِنكُم الانصراف فلينصرفْ ، لَيْسَ عَليه منّا ذِمامٌ (2) ، فتفرق عنه ذوو الاطماع ، وبَقى معه الصفوةُ من أهل بيته. لقد تجَنّب (عليه السلام) في تلك الساعات الحرجة التي يتطلب فيها إلى الناصر ____________ (1) مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ، ص184 ، اللهوف : ص10 ، بحار الانوار : ج44 ، ص325. (2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص300 ، بحار الانوار : ج44 ، ص374.
===============
( 145 )
والاغراء والخُداع ، مؤمناً أن ذلك لا يمكن أن تتصف به النفوس العظيمة المؤمنة بربها والمؤمنة بعدالة قضيتها) (1). ويتضحُ هذا الامرُ جلياً في هذه الليلة التي خَلدّها التاريخ ، وذلك من خلال موقفه (عليه السلام) في ساعات هذه الليلة الاليمة مع أهل بيته وأصحابه ، وذلك حينما أوقف أصحابه على الامر الواقع ولم يخفِ عليهم ليكونوا على بينة من أمرهم ومستقبلهم ، فوقف قائلاً لهم : إني غداً أُقتل وكلكُم تُقتلون معي ولا يبقى منكم أحد (2) حتى القاسم وعبد الله الرضيع (3). مؤكداً عليهم أن كلَ من يَبق معه منهم سوف يستشهد بين يديه ، فهو (عليه السلام) لا يُريد أن يتركَهُم في غَفلة من أمرهم ، ولئلا يتوهم أحدٌ منهم بأنه ربّما يُهادنُ القومَ فيما بَعد ، أو يقبل بخيار آخرَ غيرِ القتال ، ولكنه (عليه السلام) بَيّن لهم أنه يُقتل وهُم أيضاً يُقتلون إذا مَا بقُوا معه ! وبهذا يكون (عليه السلام) قد أوقفهم على حقيقة الامر. وقد أكد هذا الامر مرةً أخرى فيما قال لهم ، مشفقاً عليهم قائلاً لهم أنتم جئتم معي لعلمِكم بأني أذهب إلى جماعة بايعوني قلباً ولساناً ، والآن تجدونَهم قد استحوذَ عليهم الشيطانُ ونسوا الله ، والان لم يكن لهم مقصدٌ سوى قتلي ، وقتل من يجاهد بين يدي ، وسبي حريمي بعد سلبهم ، وأخاف أن لا تعلموا ذلك ، أو تعلموا ولا تتفرقوا للحياء مني ، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت (4). ____________ (1) حياة الامام الحسين ( ع ) للقرشي : ج1 ، ص119 ـ 120. (2) نفس المهموم : ص230. (3) مقتل الحسين للمقرم : ص215. (4) أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص222 ، الايقاد : ص93.
===============
( 146 )
فأحاطهم علماً بأنه يُقتل ومن معه أيضاً ، وأن حريمَه تُسبى بعد قتله ، إذ لعل بعضهم يكره هذا ، خصوصاً من جاء بنسائه فيكون على علم بهذا الامر. كما أنه (عليه السلام) عَدَّ إخفاءَ هذا الامر عليهم خُدعةً ومكراً وأن ذلك محرمٌ عندهم لا يجوز بحال من الاحوال ، إذ كانوا(عليهم السلام) أبعد الناس عن مثل هذه الامور التي لا يقرونها لاحد مهما كلف الامر. وقد حَذَّروا من هذا الامر وذموا من يتصف به ، فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) : أنه قال : ليس منّا مَنْ ماكر مسلماً. وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان كثيراً ما يتنفس الصُعداء ويقول : واويلاه يمكرون بي ويعلمون أني بمكرهم عالم وأعرف منهم بوجوه المكر ، ولكني أعلم أن المكر والخديعة في النار ، فأصبرُ على مكرهم ولا أرتكب مثل ما ارتكبوا (1). وهذا أيضاً مما تميز به منهجهم ـ صلوات الله عليهم ـ الذي حوى كل صفات الاخلاق الرفيعة والمُثل العليا. ولذا وقف سيدُ الشهداء (عليه السلام) في هذه الليلة العظيمة مُشفقاً على أصحابه ، ليطلعهم على ما خفي عليهم ما داموا قد وطنوا أنفسهم معه على ذلك الامر الخطير ، فهو لا يُريد ناصراً قد منعه الحياء عن نصرته ، ما لم يكن عن علمه وبقناعته الشخصية في ذلك.. وهذا من أعظم الدروس الاخلاقية والتربوية المستفادة من ليلة الطف العظيمة ، ____________ (1) جامع السعادات للنراقي : ج1 ، ص239.
===============
( 147 )
التي ينبغي الوقوف عليها والاستفادة منها. وهنا لا ننسى أيضاً ظهور هذا الجانب الاخلاقي العظيم في سلوك أنصار الحسين (عليه السلام) إذ ظهر الصدقُ على أقوالهم وأفعالهم ، حينما عاهدوه على الشهادة معه والدفاع عنه ، فكانت نياتُهم في ذلك صادقةً لا يشوبها أيُّ تَردد أو ميل ، فكانوا عازمين بالفعل على نصرته والذب عنه ، وخير شاهد على ذلك هو وفاؤهم بما ألزموا به أنفسهم ، وتسابقهم إلى الشهادة بين يديه ، فلم تنحل عزيمتُهم وهم في أوج المحنة وشدتها ـ في ظهر عاشوراء ـ مع شدة العطش وحرارة الشمس ، وجراحات السنان ، وطعنات الرماح ، إذ أن النفس ساعتها ربما سَخت بالعزم وتناست الوعد ، وتعلقت بحب البقاء ، وحينها يتلاشى ما التُزم به من وعود وعهود. إلا أنهم ـ رضوان الله عليهم ـ ثبتوا أمام الاعداء بلا تراجع أو تردد وقاتلوا بجدارة فائقة منقطعة النظير ، وَوفَوا بما التزموا به ، فوافقت ظواهُرهم بواطَنهم ، وبهذا وصلوا إلى أعلى مراتب الاخلاص في صدقهم ، كما أن الوفاءَ بالعهد أفضل أنواع الصدق القولي فكانوا بحق مصداقاً لقوله تعالى : ( رجالٌ صَدَقُوا مَا عاهدُوا اللهَ عَليه فمِنُهم مَّن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم من يَنتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبِديلا ) (1). والجديرُ بالذكر أن الحسين (عليه السلام) كان يُردد هذه الاية الشريفة حين مقتل أصحابه (2) ـ رضوان الله عليهم ـ ، الامر الذي يدل على وفائهم وصدق موقفهم النبيل. ____________ (1) سورة الاحزاب : الاية 23. (2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص331 ، بحار الانوار : ج45 ، ص20.