متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
د ـ الإستبشار بالشهادة
الكتاب : ليلة عاشوراء في الحديث و الأدب    |    القسم : مكتبة الأدب و الشعر

د ـ الاستبشار بالشهادة
ليس من المُعتاد أن يفرح الانسان ويبتهج وهو يعلم بدنو أجله وانقطاع حبل حياته من الدنيا ، فتراه إذا ما علم بدنو أجله ، اعتراه الخوف والوجل والاضطراب ، ولربما مات بسبب خوفه من الموت ، إذ أن كل إنسان يحب الحياة والبقاءَ ويتشاءم من الموت.
ولعلك تعجب إذا ماسمعت بأن أصحاب هذه الليلة باتوا ليلتهم وهم أشدُ الناس فرحاً ، وأبهجهم حالةً ، وأربطهم جأشاً ، مستبشرين بما أقدموا عليه وبما يصرون إليه وقد أخذ يداعبُ بعضهم بعضاً ، مع علمهم بدنو آجالهم ، وأن أجسادهم سوف تصبح عن قريب طعمةً للسيوف ونهبةً للاسنة. ومرمىْ للسهام.
ولعله لم تمر عليهم ليلةٌ بأسعد منها ، حتى بدت على وجوههم الطلاقة والاشراق والطمأنينة لا يستشعرون بخوف ولا وجل ، وذلك أنهم وجدوا أنفسهم يؤدون وظائفهم الشرعية تجاه سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) ، إذ سوف يحوزون على أعظم وأقدس شهادة عرفها تاريخ البشرية ، ثم ذلك النعيمُ الدائم الذي لا اضمحلال فيه ، فأصبحوا مصداقاً لقوله تعالى : ( إن الذين قالوا رُّبنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون ، أولئك أصحابُ الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون )(1).
____________
(1) سورة الاحقاق الاية : 13 و 14.

===============

( 121 )

وقوله تعالى : ( إن الذين قالوا رَبُنا الله ثُمَّ استقاموا تتنزلُ عليهمُ الملائكةُ ألا تخافُوا ولا تحزنُوا وأبشرُوا بالجنة التي كنتم توعدون )(1).
والجدير بالذكر انه جاء في زيارة على بن الحسين (عليهما السلام) : أشهد أنّك من الـ ( فَرِحِينَ بِمَا أتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضلِهِ وَيَستَبشِرُونَ بِالَّذِينَ لَم يَلحَقُوا بِهِم مّنْ خَلفِهِم ألاَّ خَوفٌ عَلَيهِم وَلأهُم يَحزَنُونَ ) (2) ، وتلك منزلةُ كلّ شهيد فكيف منزلة الحبيب إلى الله ، القريب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3).
فهذا ما كان عليه أهل بيت - الحسين (عليه السلام) وأصحابه من الاستبشار والفرح بالشهادة في سبيل الله تعالى ، ولا غروان تتَنزّل عليهم الملائكة وتبشرهم وتطمئنهم ( الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) ، وحسبك رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه الليلة أن يكون هو المبشر بهذا لولده الحسين (عليه السلام) باستبشار الملائكة به.
فقد جاء في الرواية أن الحسين (عليه السلام) لما خفق خفقة في سحر ليلة العاشر رأى جده (صلى الله عليه وآله) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول له : يا بُني أنت شهيدُ آلِ محمد ، وقد استبشرَ بكَ أهلُ السماوات وأهلُ الصفيح الاعلى ، فليكن إفطارُك عندي الليلة عجل ولا تُؤخر ، هذا مَلكٌ قد نزل من السماءِ ليأخذ دَمَكَ في قارورة خضراء..(4)
الامر الذي يدل على استبشار الملائكة وأهل الفصيح الاعلى بلقاء
____________
(1) سورة فصلت الاية : 30.
(2) سورة آل عمران الاية 170.
(3) بحار الانوار : ج 98. ص 242.
(4) بحار الانوار : ج45 ، ص3 ، الفتوح لابن الاعثم : ج2 ، ص153.

===============

( 122 )

الحسين (عليه السلام) وأصحابه ، كما استبشرهو أيضاً بهذا اللقاء والذي ما فتىء يَحنو إليه واعتبر يوم يلقاه سعادة كما أشار إلى هذا في قوله (عليه السلام) : إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما (1).
وهو القائل (عليه السلام) :

وإن تكن الابدان للموت اُنشئت * فَقتلُ امريء بالسيف في الله أفضل(2)

فالقتل في سبيل الله عنده سعادةً ، والاستشهاد بالسيف أفضل ، إذا كان في ذلك نصرٌ لدينه ، وإحياءٌ لامره ، وحفظٌ لشرعه ، فكان حقيقاً به (عليه السلام) أن يبتهج ويشرق وجهه استبشاراً بلقاء الله بنفس مطمئنة غير وجلة ، وهو القائل : لست أخاف الموت ، إن نفسي لابكر وهمتي لاعلى من أن أحمل الضيم خوفاً من الموت ، وهل تقدرون على أكثر من قتلي ، مرحباً بالقتل في سبيل الله (3).
يقول السيد حيدر الحلي - عليه الرحمة - :
وسامته يركـب إحــدى اثنتين * وقد صـرَّت الحـرب أسنانها
فأمّا يُرى مذعنـاً أو تمــوت * نفـــسٌ أبـى العزُّ اذعانها
فقــال لها اعتصمـي بـالابـا * فنـفس الابــيّ ومـا زانهـا
إذا لـم تجد غير لبـس الهـوان * فبـالمــوت تنـزع جثمانها
رأى القتل صبـراً شعـار الكرام * وفخــراً يُزين لها شأنها (3)

____________
(1) تقد تخريجه
(2) مقتل
الحسين للخوارزمي : ج1 ، ص223 ، مقتل الحسين للمقرم : ص180.
(3) تقدم تخريجه.
(4) ديوان السيد حيدر الحلي ج 1 ص 109 ، رياض المدح والرثاء : ص61.

===============

( 123 )

فكان عليه السلام أربط جأشاً مع كل ما جرى عليه غير مكترث بعدتهم وعديدهم وقد انعكس هذا الأمر على اصحابه فكانوا غير مكترثين بما يجري عليهم ، مع علمهم بمصيرهم المهول ، إذ استقبلوه بشجاعة فائقة ، لا يوجد فيها تخاذل أو تردد بل على العكس هُم في عَدّ السويعات القليلة ، مع رجاء انقضائها وبزوغ شمس الجهاد والتضحية ، وفلق هام رؤوس الاشرار ، مع السرور والحبور وملاقاة الحور بشراء النفس ابتغاء مرضات الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وكيف لا يكونون أشد الناس فرحاً وهم يَبلغون مَبلغَ الفتح العظيم ، ويستقبلون اعظم شهادة مقدسة عرفها التاريخ ، كما أشار إلى هذا سيد شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ في كتابه إلى بني هاشم : فإن من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلف عني لم يبلغُ مبلغ الفتح...(1).
وكما لا يخفى أن من آثار الفتح الفرح والاستبشار عند الفاتح ، ولعل إلى هذا أشار سلمان الفارسي ـ رضوان الله عليه ـ في حديثه مع زهير بن القين ، وقد حدث به أصحابه لما التحق الاخير بركب الحسين (عليه السلام) قائلاُ لهم : من أحب منكم ان يَتْبعني وإلا فهو آخر العهد.
إني سأحدثكم حديثاً ، إنا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال سلمان الفارسي ـ رحمة الله عليه ـ : أفرحتم بما فتَح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟! قلنا : نعم ، فقال : إذا أدركتم سيدَ شباب آل محمد فكونوا أشدَ فرحاً بقتالكم معهم مما أصبتم اليوم من الغنائم...(2)
____________
(1) اللهوف لابن طاووس : ص28 ، المناقب لابن شهر آشوب : ج4 ، ص76 ، بحار الانوار : ج44 ، ص330 ، وج 45 ص 85.
(2) الارشاد للشيخ المفيد : ص221 ، بحار الانوار : ج 44 ص 372 ، تاريخ الطبري : ج4 ، ص299.

===============

( 124 )

هذا ما كانوا عليه ـ صلوات الله عليهم ـ إذ أخذ كل منهم يداعب الاخر ويضاحكه استبشاراً منهم بالشهادة والتي سوف يحققونها عملياً على صعيد ذلك التراب الطاهر.
وهذا في الواقع يُمثل قمة الشجاعة والصمود حيث أنهم في ساعاتهم الاخيرة ، غير مكترثين بالاعداء ، ومواقفهم ليلة العاشر تَشهد على ذلك والتي منها : موقف برير مع عبد الرحمن لما أخذ يهاذله ويضاحكه إقال له عبد الرحمن : دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل ؟ قال له برير : والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً ، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاقون ، والله إن بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم ، ولو وددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم !! (1).
وموقف حبيب بن مظاهر مع يزيد بن الحصين الهمداني ، حينما رأى يزيدُ حبيبَ خارجاً يضحك ! !
فقال له : ما هذه ساعة ضحك ؟ !
فقال حبيب له : فأي موضع أحق مِنْ هذا السرور ؟ والله ما هو إلا أن يميل علينا هذه الطغام بسيوفهم فنعانق الحور العين (2).
وكذلك أيضا موقف نافع بن هلال ـ رضي الله عليه ـ الذي قضى شطرَ ليله في كتابة اسمه على سهام نبله إمعاناً في طلبه المثوبة والاجر ، وإمعاناً في السخرية
____________
(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص321 ، اللهوف : ص41.
(2) اختيار معرفة الرجال للطوسي : ج 1 ص 293.

===============

( 126 )

الخطر ، وإمعاناً في الترحيب بالموت(1).
فكانوا حقاً كما قال فيهم الحسين (عليه السلام) : فما وجدت فيهم إلا الاشوس الاقعس ، يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه(2).
وهذا ما استأثر بعناية بالغة عند شعراء وأدباء الطف إذ صوروا ما كان عليه أصحاب الحسين (عليه السلام) من التفوق والروح المعنوية العالية ، واستبشارهم وفرحهم بالشهادة ، يقول السيد رضا الهندي ـ عليه الرحمة ـ :

يتمايلون كأنمــا غنّـى لهـم * وَقـعُ الظّبـى وسقاهُمُ أكوابا
وكأنَهم مستقتـبلونَ كواعبــاً * مستقبليــن أسنــةً وكعابا
وجدوا الردى من دون آل محمد * عَذباً وبعدَهُم الحياة عذاباً (2)

وقال أيضاً :

ادركوا بالحسين أكبر عيد فغدوا في منى الطفوف أضاحي(4)

ويقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ـ نور الله ضريحه ـ :

وبأسـرة مــن آل أحمــد فتتية * صينت ببذل نفوسها فتيــاتها
يتضاحكون إلــى المنون كأنَّ في * راحاتــها قد أُترعت راحاتها
وترى الصَّهيل مــع الصَّليل كأنَّه * فيهم قيـانٌ رجِّعـت نغمـاتها
وكأنَّمــا سمر الرمـاح معاطفٌ * فتمايلت لعنــاقها قامــاتها

____________
(1) الدوافع الذاتية لانصار الحسين لعابدين : ص231.
(2) الدمعة الساكبة : ج 4 ، ص273 ، مقتل
الحسين
للمقرم : ص219.
(3) رياض المدح والرثاء : ص95.
(4) رياض المدح والرثاء : ص97.

===============

( 126 )

وكأنما بيض الظّبي بيض الدّمى * ضمنت لمى رشفاتها شفراتها
وكأنَّـما حمـر النصول أنامل * قد خضَّبتها عَنْدَماً كاساتها (1)

ويقول السيد محمد حسين الكيشوان : عليه الرحمة ـ في وصفه لهم (عليهما السلام) :

تجري الطَّلاقة فـي بهـاء وجوهِهـم * إن قطَّبـت فَرَقاً وجـوهُ كُماتها
وتطلّـَعـت بـدجـى الـقتام أهلـَّة * لكـن ظهـور الخيل من هالاتها
فتدافعت مشـي النزيـف إلى الردى * حتّـى كـأنَّ الموت من نشواتها
وتـعانـقت هـي والسّيوف وبعدذا * مـلكت عنـاق الحور في جناتها

وقال شاعر آخر :

ومُذ أخذت في نينوى منهم النوى * ولاح بها للغدر بعــض العلائم
غــداً ضاحكاً هـذا وذا مُتبسما * سروراً وما ثغرُ المنون بباسم (1)

وبهذه الروح المعنوية العالية انتصروا وحققوا ما كانوا يصبون إليه وما يهدفونه ، مع قلتهم وكثرةِ عدوهم الذي كان يفقد الروح المعنوية في مواجهة الحرب إذ كانوا مدفوعين بالقوة لا هدف لهم سوى الباطل. فأخذوا يرقبون الحربَ وهم على خوف ووجل ، بخلاف ما كان عليه أصحاب الحسين (عليه السلام) الذين باتوا في أبهج حالة وأربط جأش مطمئنين بما يجري عليهم ، فكانوا كلما اشتد الموقف حراجة أعقب فيهم انشراحاً وسروراً.
____________
(1) مقتل الحسين للمقرم : ص 381.
(2) نفس المصدر : ص216.

 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net