استدعاء المعتصم :
برحيل المأمون في 13 رجب سنة « 218 هـ » بويع لاَخيه أبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون في شعبان من نفس ذلك العام . ويبدو أن الاَشهر الاَخيرة من تلك السنة كانت حافلة بحدث البيعة للخليفة الجديد ، حيث إنّه لم يكن يومها في بغداد عاصمة الخلافة ، إذ كان خرج مع جيش المأمون لحرب الروم وكان قائداً لاَحد فصائل الجيش .
ولما رجع إلى بغداد في رمضان شغلته الاَشهر الثلاثة الاَخيرة في ترتيب القواد والوزراء وعمّال الولايات ، وبعض الثورات والتحركات المضادة . وما أن استتب له أمر الملك وانقادت البلاد له شرقاً وغرباً ، حتى أخذ يتناهى إلى سمعه بروز نجم الاِمام الجواد عليه السلام ، واستقطابه لجماهير الاُمّة ، وأخذه بزمام المبادرة شيئاً فشيئاً . وتتسارع التقارير إلى الحاكم الجديد بتحرك الاِمام أبي جعفر عليه السلام وسط الاُمّة الاِسلامية .
عليه ، يقرر المعتصم العباسي وبمشورة مستشاريه ووزرائه ، ومنهم ابن أبي دؤاد الاِيادي ، قاضي القضاة المعروف حاله الشخصي ، المبغض لاَهل البيت النبوي عليهم السلام الذي كان يسيطر على المعتصم وقراراته وسياسته ، يقرر
(124) المعتصم بكتاب يبعثه إلى واليه على المدينة محمد بن عبدالملك الزيّات(1) في عام « 912 هـ » بحمل الاِمام أبي جعفر الجواد عليه السلام وزوجته أم الفضل بكل إكرام وإجلال وعلى أحسن مركب إلى بغداد .
لم يكن بد من قبل الاِمام عليه السلام من الاستجابة لهذا الاستدعاء ، الذي يُشم منه الاِجبار والاِكراه ، وقد أحسّ الاِمام عليه السلام بأن رحلته هذه هي الاَخيرة التي لا عودة بعدها؛ لذلك فقد خلّف ابنه أبا الحسن الثالث في المدينة بعد أن اصطحبه معه إلى مكة لاَداء موسم الحجّ ، وأوصى له بوصاياه وسلّمه مواريث الاِمامة ، وأشهد أصحابه بأنه إمامهم من بعده . .(2) وتستمر الاستعدادات لترحيل الاِمام إلى بغداد ، ويستمهلهم الاِمام عليه السلام لحين أداء الموسم ، وفعلاً يؤدي الاِمام الجواد عليه السلام الموسم ، ويترك مكّة فور أداء المناسك معرجاً على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليخلّف فيها ابنه الوصي الوريث ، ولكن يبدو أنه عليه السلام خرج من المدينة متجهاً إلى بغداد ولم يزر جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، وكأنه أراد بهذه العملية التعبير عن احتجاجه على هذا الاستدعاء ، وأن خروجه من مدينة جده إنّما هو مكره عليه .
ويواصل الاِمام عليه السلام رحلته إلى المصير المحتوم وقد أخبر أحد أصحابه بأنّه غير عائد من رحلته هذه مرة اُخرى (3) . كما روى محمد بن القاسم ، عن أبيه ، وروى غيره أيضاً ، قال : لمّا خرج ـ الاِمام الجواد عليه السلام ـ من المدينة في ____________ 1) راجع : مناقب آل أبي طالب | ابن شهر آشوب 4 : 384 . 2 ) راجع : إثبات الوصية | المسعودي : 192 . وعيون المعجزات : 131 . وعنه في بحار الأنوار 50 : 16 واُصول الكافي 1 : 323 | 1 . 3 ) اُصول الكافي 1 : 323 | 1 باب الاشارة والنص على أبي الحسن الثالث عليه السلام .
(125) المرة الاَخيرة ، قال : « ما أطيبك يا طيبة ! فلست بعائد إليك » (1) ، وبُعيد هذا فقد أخبر الاِمام عليه السلام أصحابه في السنة التي توفي فيها بأنّه راحل عنهم هذا العام . فعن محمد بن الفرج الرخجي ، قال : ( كتب إليَّ أبو جعفر عليه السلام : « احملوا إليَّ الخمس فإنّي لست آخذه منكم سوى عامي هذا » . فقُبض في تلك السنة ) (2) .
وأخيراً ينتهي به المسير إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية ، مقرّه ومثواه الاَخير الاَبدي ، ويدخلها لليلتين بقيتا من المحرم من سنة « 220هـ »(3) . وما أن وصل إليها وحطّ فيها رحاله حتى أخذ المعتصم يدبّر ويعمل الحيلة في قتل الاِمام عليه السلام بشكل سرّي؛ ولذلك فقد شكّل مثلثاً لتدبير عملية الاغتيال بكلِّ هدوء . .
|